مجلة الرسالة/العدد 458/هل فكرنا في المستقبل؟!

مجلة الرسالة/العدد 458/هل فكرنا في المستقبل؟!

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 04 - 1942



للأستاذ عبد السلام المنياوي

يسألني كثير من الناس: لماذا تعيش في عزلة عن دولة الأقلام؟ ولماذا تقنع بالصمت عن رسالة الدعوة؟ ولماذا لا يرتفع صوتك في مجال الإصلاح والتفكير؟

أطيل الوقفة إزاء هذه الأسئلة، ويمتد بي التفكير أمام هذا الغرض، لا بحثاً عن الجواب ولا تلمساً للسبب، ولكن ألمح في سرعة صور هذا المحيط الذي نعيش فيه، وأتمثل في إنصاف نفثات هذه القلوب المؤمنة في سبيل الدين والوطن والحياة العزيزة

أجل أطيل النظر والاستعراض ثم. . . أجيب ولكن إجابة الآسف الملتاع وأخشى أن أقول إجابة اليائس المتشائم، ذلكم لأنني أعتقد أن القلم يجب أن يستريح حيثما يكون تعبه هباء، وأن الدعوة يجب ألا توجه حيثما لا تكون إلا في الهواء، وأن الإصلاح يجب أن ينادي به حيثما يهيأ الجو ويوجد الرجال!

فهل تهيأت القلوب للاستماع؟ وهل آن للضمائر أن تنصت؟ وهل بين المقتنعين من بيده التنفيذ؟ إنا لنلتهب حماسة إلى خير هذا الوطن العزيز، وتنفطر قلوبنا أسى عند ما نذكر هذه المخزيات المصرية، ونرجو في تلهف وطماعية أن تقر عيوننا حيناً من الدهر بما ينال هذا الشعب المجيد، ونهتف من أعماقنا مع أستاذنا المراغي في عقيدة وإيمان: لابد من دين الله لدنيا الناس، كما نضم صوتنا في حرارة وإخلاص إلى الأستاذ الزيات إذ يقول: لابد للإسلام من مؤتمر. . . لسنا صادرين في هذا عن عصبية ولا جمود بل هي عقيدة الفطرة ونطق الواقع وشهادة الأعداء، وإنه ليمتزج بأفكارنا ونفوسنا امتزاجاً أن هذا العالم صائر يوماً لا محالة طوعاً أو كرهاَ أو طبيعة إلى هذا الهدى الإلهي الحكيم. . .

ولكن دين الله ومؤتمر الإسلام لابد أن نمتلئ بهما نحن المسلمين! ولابد أن نجاهد من أجلهما عواطف الزعماء! ولابد أن نمكِّن لهما في قلوب الشباب! نعم لابد أن نمتلئ وأن نجاهد ونمكن حتى نفيض على هذه الدنيا بما في حيازتنا من كنوز طالما أغرونا بأن نستبدلها بزيفهم، ونعيد إليهم باطلهم بعد ما نكون قد محوناه بحقنا الخالد، وندفع بالتي هي أحسن السيئة حتى يدركوا وضع الشرق والغرب ويقروا على رغمهم بزعامة الإسلام و ولكن بيننا رِبا وخمر ومقامرة، وفينا تبذل وغرور وبغي، ومنا أناس ينكرون - أو يتجاهلون - هذا الماضي المجيد. فماذا نعمل وبلادنا قد عجت بالمشكلات وشعبنا قد تفشته الأدواء؟ ماذا نعمل وقد استعصت هذه (المشكلات) على الحل، وأعيت هذه (الأدواء) علاج ذوي الغيرة من رجال الفكر والإصلاح؟ اللهم لا استعصاء ولا إعياء ولكن يعوزنا الإيمان ويعوزنا الإقدام ويعوزنا النزول على حكم الله (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)

إن هذا الوقت الذي تمضي فيه (اللجان) إلى العمل، وإن هذا الوقت الذي يكتبون فيه (تقاريرهم) وإن هذا الوقت الذي يجهدون فيه أنفسهم للبحث حرام أن تضيع هذه الأوقات في غير ما ثمرة! وحرام أن تصرف هذه الأموال بلا مقابل! وحرام ألا يجد الناس ما يحميهم من أغوال الفقر وويلات الجهل وخفض المستوى العام بينما لا تبعد عنهم هذه الحماية إلا بمقدار ما يبعد هؤلاء عن معين الإسلام وقانون الإنسانية!!

وإنا لنسمع العالم كله يتحدث عن (نظامه الجديد) ومن خلال هذا الصراع العنيف وفي وسط هذا الدوي الهائل يتردد في الآفاق صدى صوت حبيب منعش هو أنشودة الحرية ورجاء السلام ومنية الاستقرار، فسنة الله أن ينجاب الظلام عن الفجر، وأن يتنفس الصبح بعد إدبار الليل؛ ولابد أن يرتفع المستقبل على أنقاض الحاضر، وقد تواطأت الفِكَر على أن هذا المستقبل مليء بأساليب الهدم حافل بأنواع الإصلاح مشيد من لبنات قوية ليس من ذراتها اطمئنان إلى ترف ولا ركون إلى دعة ولا عزوف عن جد. . . هذا هو الجيل الجديد وهؤلاء هم أبناء العهد الجديد، فعلى أي أساس يكون مستقبل جيلنا المنتظر. وعلى أي الدعائم يرتكز عهدنا المنشود؟؟

لقد قال الأستاذ إدوار مونتيه في إحدى محاضراته: (لا شك أن الإسلام يعد من أكبر وسائل تمدين الناس وترقية أحوالهم الاجتماعية والدينية والخلقية والاقتصادية. الإسلام حضارة قائمة بنفسها رغم ضعف المسلمين في فترة من الزمن، وسينتبهون مرة ثانية فينشرون المدنية والرقي في كل أنحاء العالم) وهذا برناردشو يقول: (إني دائماً أحترم الدين الإسلامي غاية الاحترام، لما فيه من القوة الحيوية، فهو وحده الدين الذي يظهر لي أنه يملك القوة المحركة التي تغير صورة الكون، ذلك لأنه يوافق كل جيل، ويتمشى مع مصلحة البشر في كل زمان. . . لاشك أن العالم يقدر تكهنات رجل مثلي: أنا على يقين أن دين محمد سيكون دين أوربا في غد. . . وقد رأى عظماء المفكرين من أهل النزاهة مثل كاريو وغوتي وجيبون في القرن الـ 19 وجرب تقدير وإجلال دين محمد، وقد أحدث رأيهم شيئاً من التغيير في سلوك الأوربيين مع الإسلام، لكن أوروبا هذا القرن (العشرين) قد تقدمت في ذلك تقدماً بعيد الشأو وقد أخذوا يقعون في الهيام بعقيدة محمد، وفي القرن التالي سيكون أهلّ أوروبا أكثر معرفة بفائدة اعتقاد محمد في حل مشكلاتهم، وبهذا يمكنك أن تفهم ما تكهنت به!)

بعد هذا - ولا أحسب نفسي في حاجة إليه، فربما قد رآه من إليهم أوجه الحديث - أحب أن نصل إلى خطة حاسمة في هذا المعترك، وأن نفكر جادين في مستقبلنا مهما تكن الأوضاع؛ ولنُوَلّ وجهنا إلى غير ما اتجهت القافلة، وما دامت هذه المدنيات تنهار وهذه النظم تعلن عن نفسها بالفشل، فمن الخطأ والحمق أن تنتمي إلى التقليد، ولنستبق الزمن بأخذ أساليب الحكم والتشريع والقضاء على نظام إسلامي، قبل أن نفعل تابعين وليس لنا يد. هذا الإسلام يا قوم، اعرضوه على أنه فكرة من الفكر، وكثيراً ما فشلت برامج وأهملت قوانين لم تتفق وهذا القانون السماوي. جربوه. . . جربوه أيها الناس وإلا فقد دللتم على خبايا النفوس ومكنونات الصدور. . . يجب أن نرى أمامنا الفرد المسلم والأسرة المسلمة والحكومة المسلمة والوطن المسلم، ولنعتز بهذا الشرف الذي وضعنا فيه وخوّلنا إياه أحكم الحاكمين: شرف الوساطة بين السماء والأرض، بين الله والناس. . .!

هذا وإن الغرائز البشرية أو جُلّها البارز قد جعلت من الإنسان الذي يبغي كمال الحياة ويتلمس نور النعيم وينشد ذروة المجد، مجاهداً يصارع نفسه، ويجاهد هواه، وينازع فطرته التي تكونت من الأنانية والتكاثر والهلع والعجلة والجبن واللذة الخ. لا أقول كما قال الشاعر إنها كالطفل، ولكن كما قال النبي إنها أعدى الأعداء، جهادها هو الجهاد الأكبر، والظفر بأسرها هو النصر المؤزر. . .

ألا فانتزعوا أيها الشباب من بين جنوبكم هوى النفس، ومن أذهانكم خمود الفكر، ومن أعماقكم وهن العزيمة، ثم هبوا في إقدام لا يعرف التواني؛ وهنا تسطرون بحق أول من صفحات الجدارة بالحياة!؟ عبد السلام المنياوي