مجلة الرسالة/العدد 459/الصوفية

مجلة الرسالة/العدد 459/الصوفية

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 04 - 1942



للدكتور عبد الوهاب عزام

سألني الأديب إبراهيم العجلان رأي فيما يثور من الجدال حول الصوفية وعن فتوى الطرطوشي التي نشرت في الرسالة وفيها (مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلال، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه السامري كما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حوله ويتواجدون) الخ

وهذا جوابي للسائل الفاضل:

- 1 -

كان في المسلمين منذ شاعت هداية الإسلام عبّاد زهاد لا يتميزون بلباس أو شارة، ولا يفارقون الجماعة في قول أو فعل؛ ثم امتاز منذ أواخر القرن الثاني جماعة من الزهاد باسم الصوفية وحدثت لهم سنن وآداب ميزتهم عن جمهور الأمة، ونشأت بينهم أقوال وأفعال لم تكن معروفة بين المسلمين. ثم نبغ لهم إمام بعد آخر كان لأقوالهم وأفعالهم آثار واضحة في اتجاه الطريقة وحدودها

كان التصوف أول الأمر زهداً، ثم صار معرفة وحباً، ثم صار فناء وخطت سبل لتربية السالكين فصار التصوف طريقة، ونشأت فيه أساليب من النظر واختلط به آراء من الفلسفة فصار له فلسفة أو ما يشبه الفلسفة

وإذا أردت أن تتبع تطور التصوف في تاريخ الرجال فانظر في سير أمثال الحسن البصري وسفيان الثوري ثم أمثال شفيق البخلي وإبراهيم بن أدهم والسري السقطي ومعروف الكرخي، ثم أمثال الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي ثم الحلاج والسهروردي المقتول وابن العربي

وليس التصوف مذهباً واضح الحدود بيّن المعالم يجمع كل من دخل فيه على آراء متفقة، وأعمال متشابهة، بل فيه آراء مختلفة وأقوال متباينة، وسير شتى. فيه تصوف الخاصة والعامة وطريقة المقتصدين والغلاة وأقوال الصالحين والسكارى

- 2 - وقد ظهر في التصوف منذ امتازت معالمه ووضحت رسومه أهل الصحو وأهل السكر؛ الأولون يضبطون أنفسهم ويؤلفون بين أقوالهم وأعمالهم وبين الشريعة، والآخرون يرمون حين يغلبهم الوجد بالكلام المغلق المبهم أو القول لا يوافق الحدود التي حدتها الشريعة للعقائد والأعمال

وأرى أن أوضح مثل لهذين الضربين: الجنيد البغدادي وأبو يزيد البسطامي. كان جنيد وقوراً رزيناً لا يغلبه الوجد على نفسه؛ وأبو يزيد - كالشبلي البغدادي - يرمي بالكلمة بعد الكلمة ينكرها الناس ويضجون منها أو يعجبون لها ويتحيرون، فيجتهد الجنيد في تفسيرها وتأويلها. وفي كتاب اللمع لأبي نصر السراج أمثلة من هذا

وممن التزموا المحجة الواضحة كالجنيد جماعة ألّفوا في التصوف وبينوا حدوده وملاءمته للشرع، مثل أبي القسم القشيري صاحب الرسالة، والسراج صاحب اللمع، وأبي طالب المكي صاحب قوت القلوب، والغزالي

- 3 -

والخلاف بين العلماء أهل الظاهر، والصوفية أهل الباطن، قديم مديد نشأ منذ صار التصوف طريقة واستمر إلى يومنا

وحسبك أن تقرأ ما كتب ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس): (العلماء يرمون الصوفية بالخروج على الدين، والصوفية يرمون العلماء بالوقوف على الصور والأشكال، ويرون أن علمهم لا يغني في سبيل الله فتيلاً). وكم سخر الصوفية من أهل الظاهر ووصفوهم بالغلظة والجفاء والقصور عن إدراك البواطن وتذوق المواجد. وليس يتسع المقام لبيان هذا

وقد وجد العلماء في سير بعض الصوفية ما يقوّي حجتهم ويصدق دعواهم. وقد تسمى باسم الصوفية أفراد وطوائف جعلوا التصوف وسيلة إلى مآربهم وشهواتهم؛ كما قال المعري:

لو كنتم أهل صفو قال ناسبكم ... صفويةٌ فأتى باللفظ ما قلُبا

جند لإبليس في بدليس آونة ... وتارة يحلبون العيش في حلبا

والشكوى من الصوفية قديمة نجدها في الرسالة القشيري المتوفى سنة 465. ويقول في مقدمة الرسالة: (ثم اعلموا حكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم، كما قيل:

أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها

وحصلت الفترة في هذه الطريقة، لا بل اندرست الطريقة بالحقيقة. مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقلّ الشبان الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء. وزال الورع وطوى بساطه، واشتد الطمع وقوى رباطه، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان

ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحدروا عن رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم قائمون بالحق تجري عليهم أحكامه وهم مُحْو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يؤدونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشِفوا بأسرار الأحدية، واختُطِفوا عنهم بالكليّة، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد غنائهم عنهم بأنوار الصمدية. الخ)

وقد حدثت بعد القشيري أحداث. ونجمت مذاهب ضج الناس منها، وضيع كثير من حقائق الطريقة وحفظت صورها، وخف على العامة وأشباههم أن يراءوا بأقوالهم الغريبة وأفعالهم العجيبة، إذ قصروا عن إدراك الدقائق؛ وعجزوا عن معرفة الحقائق

وفي الصوفية اليوم أهل الورع الصادقون الدائبون في رياضة النفس وتهذيبها وكبحها، وهداية الناس وتهذيبهم في غير عجب ورياء ولا جلبة وضوضاء. ومنهم الجاهلون الذين لا يعرفون من التصوف إلا الأصوات والحركات، والملابس والشارات. ليس لهذا الأمر إلا تحكيم الشرع، والاتفاق على فروضه وسننه وآدابه، وكلهم مسلمون راضون بحكم الشريعة جديرون أن يجتمعوا عليها، ويتآخوا فيها

وسأبين في المقال التالي التصوف الذي يلائم الإسلام والذي ندعو إليه في هذا العصر أن شاء الله

عبد الوهاب عزام