مجلة الرسالة/العدد 46/الدوق دي لاروشفوكو

مجلة الرسالة/العدد 46/الدوق دي لاروشفوكو

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 05 - 1934



للدكتور حسن صادق

ورأى لاروشفوكو أن يرضي الدوقة فانضم إلى أخيها ودارت رحى القتال. وفي 7 أبريل عام 1652 انتصر جيش الملك في (بلنو) وأثناء ذلك عاد مازاران إلى فرنسا وبدأ يستخدم الحيلة والدهاء في إخماد الثورة، وعرف لاروشفوكو أن الدوقة أعرضت عن حبه وكلفت بالدوق دي نيمور فآلمه ذلك جد الألم. وقد ذكرت حفيدة الدوقة في مذكراتها أن لاروشفوكو كان شديد الرغبة في قطع هذه الصلة والخلاص من هذا القيد. واستدلت على صحة قولها بإحدى مواعظه: (لما نمل الحب، نغتبط إذا خان الحبيب عهد وفائه، لأنه بعمله هذا يحلنا من عهد وفائنا له). ولكن الغيرة بقيت تخز قلبه زمناً طويلاً لأنها كما قال في موعظة أخرى: (تولد مع الحب ولا تموت في كل حالة معه)

نال إعراض الدوقة منالا كبيرا من كبريائه، ولكنه استمر في القتال يشد أزر أخيها. ثم حدثت موقعة حي سان انطوان، وقتل فيها كثير من النبلاء، وأصيب لاروشفوكو برصاصة في وجهه كادت تقضي على بصره، فنقل إلى مستشفة لبانكور وكان هذا آخر عهده بالحرب الأهلية، وجنبته هذه الإصابة عار الاشتراك مع كونديه في قيادة جيش من الأسبان ضد بلاده

ونذير بهذه المناسبة أن عهد الحرب الأهلية من أسوأ العهود التي مرت بها فرنسا، فقد أظهر النبلاء أثناءه نزقا كثيرا، ونبغوا في فن الدسيسة، وكشفوا عن الأثرة المتأصلة في نفوسهم، وجمعوا كل وطنيتهم في مصالحهم الذاتية، وتكالبوا على متع الحياة في جشع وضيع، وكاد بعضهم لبعض في سبيل الألقاب والرتب، وأسالوا الدماء، وأسلموا البلاد للفوضى تفتك بها دون أن يروعهم وازع نفساني. كان كونديه ولاروشفوكو ومن إليهما في ذلك العهد قطاع طرق ورؤساء مناسر، تنهب وتحرق وتهتك الأعراض في مرح وحشي. واهتبل النبلاء فرصة الاضطراب فعاشوا في البلاد ذئابا إقطاعيين، وساءت حال الفلاح حتى عزت عليه اللقمة التي تحفظ ذماءه، وامتلأت السجون بالبائسين الذين عجزوا عن دفع الضرائب الباهظة المفروضة عليهم، ورأت باريس في عام 1652 مائة ألف جائع يهيمون في طرقاتها ويستجدون أهلها وهم في أسمال بالية. ولهذه الأسباب فرح الشعب لم استتب الأمر للملك، ونظروا إلى استبداده نظرهم إلى نعمة هبطت عليهم من السماء.

وأثر هذه الحرب الأهلية المادي ليس بأقل سوءا من أثرها المعنوي، فقد دفعت الناس في طريق النفاق والخيانة والأثرة الجامحة، وكان من نتائجها أن يتهافت النبلاء المتكبرون على قدمي الوزير مازاران يرجون ويستعطفون في ذلة وخنوع

ولم تنتج هذه الحرب أثرا طيبا إلا في الأدب والفنون، وتعتبر نهايتها فاتحة العهد الأدبي الحافل الكبير الذي صقلت فيه العبقرية الفرنسية، وأصبح الأسلوب فيه عذبا نقيا، والتعبير لاذعا دقيقا. وكثير من الذين حملوا السيف وخاضوا غمار هذه الحرب شاهدوا صروحا أدبية خالدة، بعد أن لاحظوا أهواء الناس ورأوهم في ثوبهم الحقيقي. ومن هؤلاء هذا الكاتب الذي نتحدث عنه

وفي 21 أكتوبر عام 1652 أصدر الملك لويس الرابع عشر العفو عن لاروشفوكو، وسمح له بالعودة إلى باريس، ولكنه لم يعد إليها إلا بعد وقت طويل قضاه في الريف هادئا يفكر في آماله الضائعة، وأحلامه المتداعية

الشيخ الفيلسوف

لما فشلت ثورة الأمراء واستتب الأمر للملك لويس الرابع عشر، عرف ضروب الأهواء التي تتلاعب بنفوسهم، واستغلها استغلال رجل قدير، وجاد على هؤلاء السادة العظماء بأنواع الإحسان الوفير حتى أحالهم إلى ندماء متواضعين، استكانت الأهواء الجامحة بعد انتصار الملكية، فأخلد الناس إلى السكينة، وعادت الحياة إلى مجراها النمطي، وبدأت النساء ينشدن في (الصالونات) أو بين جدران الأديرة ضروب الانفعال التي كن يجدنها في نكبات الحرب الأهلية. ولم تعد تفكر الطبقة العالمية إلا في قهر (الضجر) مرض الأغنياء الذين لا يعملون، الذي استحوذ عليها. يدلنا على ذلك قول مدام دي مننون: (إني عاجزة عن أن أبين مبلغ الضجر الذي يعذب العظماء الاغنياء، والمشقة التي يلاقونها في قضاء يومهم)

وفي ذلك الوقت عاد بيت رامبويية إلى فتح أبوابه، ولكنه لم يلق الإقبال الذي اعتاده قبل الحرب الأهلية، لأن ربة البيت المركيزة دي رامبويية كانت في الثانية والسبعين من عمرها، واضمحلت قواها الذهنية، وتفرق أثناء الاضطراب الذين كانوا يترددون عليه، ثم ظهرت في باريس (صالونات) أخرى أهمها صالون الآنسة دي مونبانسييه، والآنسة دي سكودري، والكونتس دي لافاييت، وصالون الدقو دي لاروشفوكو، الذي بدأ بعد الشغب يبحث عن السعادة في الأدب والفكير، ثم صالون المركيزة دي سابيله.

وكان كل صالون يميل إلى نوع خاص من الأدب. فصالون الآنسة دي سكودري يميل إلى وضع المعاني الغزلية الرائعة في شعر قصير، وصالون الآنسة دي مونبانسييه يحب الصور الشخصية، وصالون المركيزة دي سابليه يتعشق عمل المواعظ، أما بيت رامبوييه فكان مولعاً بالأدب وفروعه جميعها

وفي أحد الأيام، وكان ذلك في عام 1658، طلبت الآنسة دي مونبانسييه من الحاضرين في مجلسها أن يرسموا صورهم كتابة في مقالات موجزة. ثم تناولت القلم ووصفت على القرطاس أجزاء وجهها، ثم قوة ذهنها، ثم أهواء نفسها وميولها وأخلاقها. وقلدها جميع الحاضرين ومن بينهم لاروشفوكو. ثم جمعت هذه الصور ونشرت في عام 1659 وكانت صورة لاروشفوكو الممهورة بالحروف الأولى من اسمه أول عهد الجمهور الفرنسي بكتابته. وسنذكر نبذا من هذه الصورة عند الكلام على أخلاقه وميوله

وكانت جماعة المركيزة دي سابليه يعالجون في صالونها الموضوعات الجدية، ويتحدثون عن ديكارت والمنطق والأهواء الإنسانية، وقبل أن يتفرقوا يحاول كل منهم أن يضع خلاصة المناقشة في جمل قصيرة فصيحة، أي يضعها في حكم أو مواعظ. وانتشر هذا الميل إلى الحكم حتى بلغ الريف. وفي عام 1660 كتب لاروشفوكو من (فرتى) إلى المركيزة يقول (هل لاحظت أن الميل إلى كتابة حكم ومواعظ يعدي كالزكام؟ هنا في الريف كثير من الناس انتقلت إليهم العدوى وشغفهم هذا الميل حبا). وصالون هذه المركيزة هو الذي ملك على لاروشفوكو عقله ولبه، واستأثر به دون الصالونات الأخرى

وفي عام 1661 أصيب بمرض النقرس، فلازم بيته في شارع السين بباريس، وجعله (صالونا) يجتمع فيه عظماء الفرنسيين وأدباؤهم. وفي هذه السنة اعتزلت الدوقة دي لونجفيل الاجتماع واتجهت إلى العبادة والتكفير عن سيئاتها، بعد أن هجرها صاحبها الدوق دي نيمور، ومات قتيلا في مبارزة وقعت بينه وبين الدوق دي بوقور

وكان لاروشفوكو قد بدأ يكتب مذكراته بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها في لهجة المؤرخ الرزينة، ويذكر فيها الأسباب التي حملته على الاشتراك في هذه الحرب ويردها كلها إلى نكران الجميل الذي بدا له من الملكة آن دوتريش والدوقة دي شفرير والدوقة دي لونجفيل. وأطلع عليها أحد أصدقائه في عام 1662 فنصح له بعدم نشرها حتى لا يغضب الملك والأشخاص الذين ورد ذكرهم فيها، فقبل نصحه، ولكن صديقاً آخر نقلها مشوهة دون أن يعلم المؤلف ونشرها في هولانده في عام 1664، فأثارت لغطا كثيرا. ويقول الدوق سان سيمون: (لما اطلع أبي على هذه المذكرات ملكته سورة الغضب، وتوجه في الحال إلى المكتبة التي تبيعها، وكتب على كل عدد منها عنوة واقتدارا (كذب المؤلف) وكاد الملك يتدخل في الامر، ويسئ إلى لاروشفوكو لولا حظوة ابنه البكر فرنسوا السابع لدى مولاه.

يتبع

حسن صادق