مجلة الرسالة/العدد 46/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 46/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 05 - 1934



ديوان الأعشاب

لمحمود أبو الوفا

حديث عن الشعر وعن الديوان

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

في إحدى زياراتي للأستاذ مصطفى صادق الرافعي رأيت على مكتبه (ديوان الأعشاب) الذي أخرجه الشاعر المعروف الأستاذ محمود أبو الوفا، فاكبرت أن أجد هذا الديوان حيث وجدته، ولكن الأستاذ أثنى عليه وعلى صاحبه، ثم قال: هلم نقرؤه معاً، وبعد أن استوفيناه، نقلت عنه هذا الحديث للرسالة الغراء، قال:

(أبو الوفاء شاعر ملء نفسه، ما في ذلك شك. مذهبه الجمال في المعنى، يبدعه كأنما يزهر به، والجمال في الصورة يخرجها من بيانه، كما تخرج الغصون والأوراق من شجرتها. وله طبع وفيه رقة، وهو يجري من البيان على عرق، وسليقته تجعله ألزم لعمود الشعر وأقرب إلى حقيقته، حتى إنه ليعد أحد الذين يعتصم الشعر العربي بهم، وهم قليل في زمننا، فإن الشعر منحدر في هذا العصر إلى العامية في نسقه ومعانيه، كما انحدر التمثيل، وكما انحدرت أساليب الكتابة في بعض الصحف والمجلات.

وللعامية وجوه كثيرة تنقلب فيها الحياة، ومرجعها إلى روح الإباحة الذي فشا بيننا، ونشأ عليه النشء في هذه المدينة التي تعمل في الشرق غير عملها في الغرب، فهي هناك رخص وعزائم، وهي هنا تسمح وترخص، في ظل ضعيف من العزيمة. وإهمال البلاغة العربية الجميلة كما هي في قوانينها، ليس إلا مظهراً لتلك الروح تقابله المظاهر الأخرى، من إهمال الخلق، وسقوط الفضيلة، وتخنث الرجولة، وزيغ الأنوثة، وفساد العقيدة، واضطراب السياسة، إلى ما يجري هذا المجرى مما هو في بلاغة الحياة المبينة كالمرذول والمطرح والسفساف في بلاغة الكلام الفصيح. كل ذلك في مواضعه تحلل من القيود وإباحة وتسمح وترخص، وكل ذلك عامية بعضها من بعض، ولك ذلك لحن في البلاغة والخلق والفضيلة والرجولة والأنوثة والعقيدة والسياسة.

والشعر اليوم أكثره (شعر النشر) في الجرائد، على طبيعة الجرائد لا على طبيعة الشعر. وهذه إباحة صحافية غمرت الصحف، وأخضعت أذواق كتابها لقوانين التجارة، فانهم لينشرون بعض القصائد، كما تنشر (الإعلانات) لا يكون الحكم في هذه ولا هذه لبيان أو تمييز أو منفعة، بل على قدر الثمن أو ما فيه معنى الثمن.!

ومن مادية هذا العصر وطغيان العامية عليه، إننا نرى في صدر بعض الجرائد أحياناً شعراً لا يكون في صناعة الشعر ولا في طبقات النظم أضعف ولا أبرد منه، ولا أدل على فساد الذوق الشعري، ولكنه على ذلك الأصل الذي أومأنا إليه يعد كلاماً صالحاً للنشر، وان لم يكن صالحاً للشعر.

وهكذا أصبحت العامية في تمكنها تجعل من الغفلة حذقاً تجارياً، ومن السقوط علواً فلسفياً، ومن الركاكة بلاغة صحفية، ومتى تغير معنى الحذق، وداخلته الإباحة، ووقع فيه التأويل، وأحيط بالتمويه والشبه - فالريبة حينئذ أخت الثقة، والعجز باب من الاستطاعة، والضعف معنى من التمكين، وكل ما لا يقوم فيه عذر صحيح، كان هو بطبيعة التلفيق عذر نفسه.

وأكثر ما تنشره الصحف من الشعر هو في رأيي صناعة احتطاب من الكلام. . . وقد بطل التعب، إلا تعب التقشش والحمل، فلم تعد هناك صناعة نفسية في وشي الكلام، ولا طبع موسيقي في نظم اللغة، ولا طريقة فكرية في سبك المعاني؛ وبهذه العامية الثقيلة أخذ الشعر يزول عن نهجه، ويضل عن سبيله، ووقع فيه التوعر السهل. . . والاستكراه المحبوب. . . وصرنا إلى ضرب حديث من الوحشية. هو الطرف المقابل للشعر الوحشي في أيام الجاهلية. فما دام الكلام غريباً، والنظم قلقاً، والمأتى بعيداً، والمعنى مستهلكاً، والنسج لا يستوي، والطريقة لا تتشابه - فذلك كله مسخ وتشويه في الجملة، وإن اختلفت الأسباب في التفصيل، وإذا كان المسخ جاهلياً بالغريب من الألفاظ، والنافر من اللغات، والوحشي من المعاني، وكان عصريا بالركيك من الألفاظ، والنازل من التعبير، والهجين من الأساليب، والسخيف من المعاني ثم بالسقط والخلط والاضطراب والتعقيد، فهل بعض ذلك إلى من بعضه؟ وهل هو في الشرع الجميل إلا كسلخ الإنسان الذي مسخه الله فسلخه من معان كان بها إنساناً، ليضعه في معان يصير بها فرداً أو خنزيراً ليس عليه إلا ظاهر الشبه، وليس معه إلا بقية الأصل؟ فالفردية الشعرية، والخنزيرية الشعرية، متحققتان في كثير من الشعر الذي ينشر بيننا، ولكن أصحاب هذا الشعر لا يرونهما إلا كمالا في تطور الفن والعلم والفلسفة. وأنت متى ذهبت تحتج؟؟؟ الشعر من قبل الفلسفة، وتدفع عن ضعفه بحجة العلم، وتعتل ليصحح فساده بالفن - فذلك عينه هو دليلنا نحن على أن هذا الشعر فردي خنزيري، لم يستو في تركيبه، ولم يأت على طبعه، ولم يخرج في صورته؛ وما يكون الدليل على الشعر من رأى ناظمه وافتنانه به ودفاعه عنه، ولكن من إحساس قارئه واهتزازه له وتأثره به.

والشاعر أبو الوفا جيد الطريقة، حسن السبك، يقول على فكر وقريحة، ويرجع إلى طبع وسليقة، ولكن نفسه قلقة في موضعه الشعري من الحياة؛ وفي رأيي أن الشاعر لا يتم بأدبه ومواهبه حتى يكون تمامه بموضع نفسه الشعري الذي تضعه الحياة فيه. والكلام يطول في صفة هذا الموضع، ولكنه في الجملة كمنبت الزهرة لا تزكو زكاءها، ولا تبلغ مبلغها إلا في المكان الذي يصل عناصرها بعناصر الحياة وافية تامة، فلا يقطعها عن شيء ولا يرد شيئاً عنها؛ إذ هي بما في تركيبها وتهيئتها إنما تتم بموضعها ذا لتهيئته وتركيبه. فان كانت الزهرة على ما وصفنا، وإلا فما بد من مرض اللون، وهرم العر، وهزال النضرة، وسقم الجمال.

ولولا أن الحكمة وفت الأستاذ أبا الوفا قسطه من الألم، ووهبته نفساً متألمة حصرتها في أسباب ألمها حصراً لا مفر منه - لفقدت زهرته عنصر تلوينها، ولخرج شعره نظماً حائلاً مضطرباً منقطع الأسباب من الوحي؛ غير أن جهة الألم فيه هي جهة السماء اليه؛ ولو هو تكافأت جهاته المعنوية الأخرى، وأعطيت كل جهة حقها، وتخلصت مما يلابسها - لارتفع من مرتبة الألم إلى مرتبة الشعور بالغامض والمبهم، ولكان عقلا من العقول الكبيرة المولدة التي يحيا فيها كل شيء حياة شعرية ذات حس.

ولكن مادامت الحياة قد وزنت له بمقدار، وطففت مع ذلك وبخست، فقد كان يحسن به أن يقصر شعره على أبواب الزفرة والدمعة واللهفة، لا يعدوها، ولا يزاول من المعاني الأخرى ما ضعفت أداته معه أن تتصرف، أو انقطعت وسيلته إليه أن تبلغ. ويظهر لي أن أبا الوفا يحذو على حذو إسماعيل باشا صبري، وهو شبيه به في أنه لم تفتح له على الكون إلا نافذة واحدة؛ غير أن صبري أقبل على نافذته ونظر ما وسعه النظر، أما أبو الوفا فيحاول أن ينقب في الحائط ليجعلها نافذتين. . . .

أما انه ليس من الشعر أن تنزل الحيرة الفلسفية عن منزلتها بين اليقين والعقل، أو المشهود والمحجب، أو الواقع والسبب، أو الرسم والمعنى - فتنقلب حيرة معاشية تسم الأشكال والمعاني بسمتها المادية الترابية، وتقع في الشعر فتقحم بين شعر القلب العاشق، وشعر الفكر المتأمل - شعر المعدة الجائعة، وتضع بين أشواق الكون شوقها هي إلى الطعام والثياب والمال. . . .

على أنه كان الأمثل في التدبير، والأقرب إلى طريقة النفس الشاعرة أن يصرف أبو الوفا هذا الشعور المادي الذي يتلذع به فيحوله فيجعله باباً من حكمة السخر الشعري بالدنيا وأهلها وحوادثها، كما صرفه ابن الرومي من قبل فأخطأ في تحويله، فجعله مرة بابا من المدح والنفاق، ومرة باباً من الهجاء والإقذاع.

ولو بذل الشاعر أبو الوفا مجهوده في ذلك، واتهم الدنيا ثم حاكمها، ونص لها القانون، وأجلس القاضي، وافتتح المجلس، ورفعها قضية قضية، ثم أخذها حكماً حكماً، تارة في نادرة بعد نادرة، ومرة في حكمة إلى حكمة، وآونة في سخرية مع سخرية - إذن لاهتدى هذا المتألم الرقيق إلى الجانب الآخر من سر الموهبة التي في نفسه، فأخرج مكنون هذه الناحية القوية منها، فكان ولا ريب شاعر وقته في هذا الباب، وإمام عصره في هذه الطريقة.

على أن في صفحات ديوانه أشياء قليلة تومئ إلى هذه الملكة، ولكنها مبثوثة في تضاعيف شعره، والوجه أن يكون وجهه في تضاعيفها. وإنه ليأتي بأسمى الكلام وأبدعه، حين يعمد إلى ذلك الأصل الذي نبهنا إليه، فيصرف لهفة نفسه إلى بعض وجوهها الشعرية، كقوله في (حلم العذارى) وهي من بدائعه ومحاسن شعره:

هاهما عيناك تغري ... ني على شتى الظنون

فيهما بحر وموج ... وسهول وحزون

ووضوح وغموض ... واضطراب وسكون

ومعان بينات ... ومعان لا تبين

وتهاويل فنون ... من رشاد وجنون وأشعات حيارى ... من منى أو من حنين

ليت شعري أي سر ... خلف هاتيك الجفون

آه إن السر أنبا ... عنه ذان الطائران

حينما مالا على غص ... نيهما يعتنقان. . .

(فهذه أبيات في شعر الجمال كالمحراب ملؤه عابده. . . اهـ)

محمد سعيد العريان خريج دار العلوم