مجلة الرسالة/العدد 46/تذكار الشاعرة الكونتس دي نواي

مجلة الرسالة/العدد 46/تذكار الشاعرة الكونتس دي نواي

مجلة الرسالة - العدد 46
تذكار الشاعرة الكونتس دي نواي
ملاحظات: بتاريخ: 21 - 05 - 1934



للأستاذ خليل هنداوي

- 2 -

الحب والموت في شعرها

لم تذهلها هذه الطبيعة التي فنيت في حبها وجنحت الويها كل ميولها وأهوائها عن كل شيء، كما كانت تقول (إن نظرات الغابات والغدران والحقول أشد تأثيراً في نفسي من نظرات الإنسان) ولكنها سرحت في عوالم غير هذه العوالم: في عالم الحب، وعالم الموت والفناء.

يقول (جابر يول) (لم أجهل إلا يوما واحدا إن هذه الهائمة بالأزهار والأعشاب قد جحدت العالم كله لتقود نفسها إلى حب شهواني)

(ماذا يهمني إذا تلاشى اليوم عالم من الوجود؟

(فالزمن يستطيع أن يلد - ما ظلت حيا - صيفا جديداً)

وهي في هذه الخطرة غادة فاسقة متوهجة، تتبع ملذاتها الفانية برغبة عارية، وفي عينيها رواقان يظهران ويختفيان. يقولا ن (تعال، تعال، تعال!) وهادنت الساعة التي كانت ترتقبها لتنعم فيها بالرجل الذي توهجت للقائه. وهذه هي نفس الروح الأولى بما يغشاها من ذهول ووثوب، لا تهيم - في هذه المرة - في وجه الطبيعة، ولكن في وجه الإنسان، وعناق الإنسان

ولكن ما عسى يكون هذا الحب؟ إذا كانت الشاعرة تتخيل أن الحب بعد أعوام طافحة بالخداع والافتتان والزهو يغدو الوسيلة الوحيدة لتوليد الجشع النفسي الباعث على امتلاك الوجود!

(إن الوجود النقم الذي لا يأنس أبدا. . . .

أستميله إلي، وأطوي نفسي في حناياه. . .

حين يلتف ذراعاي على جسد نقي لامع كالصيف)

وهل يكون هذا الجسد إلا جسد من تحنو عليه ويبهجها البلوغ إليه؟ ألا أيها الوجود! إنما يدرك الناس باللذة الملتهبة نفسك التي لا نهاية لها.)

أحب منها هذا الارتباك بعد العناق ممثلا في قولها:

(إن نفسي خارجة عني، واللانهاية تملأ روحي روعة، فهل أراني متحدة معك. أم ممتزجة معها؟

إنني أحس قلبي، في جنح الليل الثائر. . . مؤتلفا مع النجوم.)

وهذا الاعتراف من والهة تؤمن بأن (اللذة لا تكمل الرغبة) أوه وهي مخدوعة بعمر السرور القصير، تاوى إلى جنات أحلامها الزاهية وتقول

(هذه كلها ستبقى عندما الحلم يفر،

هذه التي سنقدم لها في أعماق الليالي شفاهنا مغشاة بالظل، ونفتح لها أذرعنا مغمورة بالحلم.)

إلا تتجلى في هذه المقاطيع ذات الروح التي تجلت في مقطوعات الحدائق!

(عندما يطغى على الألم من وجهك الساطع

عندما لا يقدر قلبي المستعبد على مغادرتك

أحلم بأن ورائي - مغاني بعيدة وسفنا وموانئ، ومدنا أنيسة ما زالت تبهر لبى

ورغبتي الضالة تؤمن بأنها لا تقدر أن تحيا بعيدة عن هذه الشواطئ أنا في غنى عن كل شيء حين أترنم بها)

وقد يتجهم في وجهها كل وجوه الحب فتضمر الانتقام من الرجل، أو تغفي عنه. وتهيم في الحياة معتزلة بنفسها،

(أنا أعلم أن الهواء جميل، وأن هذا الفضاء هو الذي يسطع وأن لمعات النهار لا تهب على منك

وأسمع كبريائي يقول لي

أيتها الغادة العزيزة، أنا حماك الغيور إلى الأبد)

ولننظر إلى هذا الكائن المحبوب! كيف أرضى نفسه وأحب نفسه، وكيف طغى عليه القلق؟

(أيها الكائن العزيز الذي بكيته. . .

هل أستطيع أن أغفر لنفسي القاسية قعودها عنك هادئة يوم انتابك الألم) يقول (جابريول): وفي ديوان (دي نواى) شعر مجوني شهواني لم تصنفه قلبها امرأة، تبرز فيه الحواس متيقظة، تتروح وتتلمس وتتذوق، شعر امرأة تتنشق وترشفها، وتتروح الطيوب العابقة من بلاد المشرق.

(عبير المسك، والأرز والورد يضمحل مع الرياح

والحب يعيده وينشره بأنامله الإلهية في جوف أريكة ملتهبة)

شعر امرأة وصفت العناق بكلمات رقيقة، لها وسوسة القبل وحلاوة العناق.

(وأنا لا أزال أرتقبك لأتذوق هذا السكر الفاسق.

أحلم بنظرتك الطافحة حبا، وبذراعيك العاريتين، وبعطفك الجميل الذي يطير عذبا. . .

ومن مقاطيعها الخالدة ما أوحاه إليها الموت، والموت عندها هو البلد المجدب، حيث لواء الحب فيه غير خفاق. وهذه الفكرة قد تحتلجها كثيرا وتحملها على استحضار الأسقام حين يغيض ماء الشباب، كأنها وثنية يروعها القبر الذي يمثل لها ساحة العدم، وطالما ذكرت الموت فثارت، وهاج قلبها واحتد عقلها وأعلنت حواسها العصيان على (عالم النسيان)

(أيها الموت! أيها السر الجديد! أيها الدرس الذي لا يتبدل.)

ولكن امرأة حية مثلها (ما خلقت لتموت) فكم مرة أعلنت بصفاء نفسها - في أشعارها - أنها لا تريد أن تموت. . . فهي طورا تجرب أن تستأنس بالعدم بواسطة الملاصقة.

(أيها الوجود الذي همت فيه كثيرا

سيأتي يوم تغتمض فيه عيناي. . .

فأحلم، وأنا ملتهبة معتزلة. بآخر شيء على العارض تهافت عليه ناظري عند الرحيل)

وتارة تعلل نفسها بإمكان التقمص والاستحالة.

(أيها الوهم المشتت! ألا تسمع صوت الأرض التي تشق؟)

مثلها كمثل الوثنيين الذي يكتبون ويعلمون (ألا شيء سيحيا بحرارة عروقه). وراء ذلك كله تعتمد على خلودها الأدبي الذي يقدر على استنقاذها من الردى.

(أكتب لليوم الذي أحول فيه رفاتا.

ليعرف الجيل القادم مبلغ ارتياحي للهواء والهناء. اكتب لأكون محبوبة بعد الموت.

إذا ما تلا أحد الفتيان ما كتبته، يحس قلبه يخفق، ويرتعش ويضطرب.

وإذا به يحملني في صدره، ويؤثرني على غاداته. . . .)

دير الزور:

خليل هنداوي