مجلة الرسالة/العدد 46/حل العقد بقطعها
مجلة الرسالة/العدد 46/حل العقد بقطعها
بعض مواقف الفصل - فقر العالم إلى العباقرة
الناس مفتقرون في كل حين من الدهر إلى رجال يحلون العقد لا بالنفث فيها كما يصنع أهل السحر والشعبذة، بل بقطعها توفيرا للوقت وكفاية لمؤونة التعب وبرهانا على العبقرية - كما صنع ذو القرنين منذ اثنين وعشرين قرنا. وكما صنع المتنبي منذ عشرة قرون. . وكما صنع لورد كرومر في أواخر القرن الماضي. وكما صنع مصطفى كمال في رواية الأمريكي التائه.
ذلك بان جمهرة الخلق قوالون وبياعو كلام اكثر منهم فعالين سواء في ذلك منهم خاصتهم وعامتهم. فإذا عرضت لهم عقدة مهما يكن موضوعها اشتغلوا بالحرف وعتقه، وعد واعن الروح وجدته. والغالب ان يشكل عليهم فهم الحرف فيروحون يتخبطون فيه وفي تاويله حتى يقوم فيهم من يضرب بالحرف عرض الحائط وينبذ اللفظ ويشرب في قلبه حب الروح ويفقه المعنى فيحل العقدة بأسرع مما عقدت.
ذو القرنين
أما ما صنع إسكندر المقدوني الكبير تلميذ أرسطو طاليس الفيلسوف العظيم في أوائل القرن الثالث قبل المسيح فهو انه زار أحد هياكل آلهة اليونان فرأى عقدة معقودة ومحبوكة، فسأل عنها فقال له الكهنة والمتنبئون والسحرة والنفاثات في العقد: إن من يحل هذه العقدة يفتح آسيا، فجرب فلم يفلح، ولكن أومض في صدره قبس العبقرية التي استمدها من معلمه فلم يلبث أن استل سيفه وحل العقدة بقطعها وترك الذين حوله مصعوقين، وفتح أمامه السبيل إلى فتح آسيا.
المتنبي
وأما المتنبي فحكاية ما صنع مبنية على بيت قاله من قصيدة هي من عيون قصائده. فقد اكثر في زمانه من التبرم بالناظمين الذين سماهم متشاعرين وقال انهم غروا بذمة، ويحذرهم على ذلك الذم لانه داء عضال لهم (ومن ذا يحمل الداء العضالا). وانهم كثيروا الادعاء، إذا برزوا له في نزال عجزوا عن ان يأتوا بشيء، وجاء هو بكل شيء، ولذلك قال (فكم منهم الدعوى ومني القصائد)
ولما اشتدت منافسهم له وابو فراس في جانبهم جمعهم ذات يوم مجلس سيف الدولة، فقالوا فيه ما قال مالك في الخمر وهو ينشد البيت في اثر البيت، وهم يقولون سرقت هذا من هذا القائل، وذاك من ذاك القائل، حتى مل سيف الدولة وضجر وحتى قيل انه رماه بدواة فأدماه، فارتفعت من سويدائه شرارة العبقرية التي ما خانت العبقري مرة، فمد يده إلى حيث استعار سيف الاسكندر، وفك به رؤوس هاته الزعانف ببيته المشهور الباقي على الزمان بقاء قصائده.
ان كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم
ويكفي ثوابا له ان يقوم سيف الدولة عن سريره ويقبله في جبينه، إذ كان هذا البيت أمضى من سيف الاسكندر، وكان في حده الحد بين لعب خصومه وجده، والفارق بين باطلهم وصحيحه، وأغنى عن التمادي في خصومتهم ومماحكاتهم، ورد عداوتهم في نحورهم (وعداوة الشعراء بئس المقتنى) كما قال في أحد أبياته،
وقد اشار إلى هذه الحادثة ببيته الآخر الذي جرى مجرى المثل ككثير من شعره وهو:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم
قال إن شوارد الشعر وقوافيه لا تقلق لي بالا ولا تؤرق لي نوما وإنما يقلقني الحزن على حبيب راحل وتؤرقني الصبابة، فأنشد القصيدة ناعما خلي البال وأنام ملء جفوني على حين ان هؤلاء الأدعياء يسهرون لياليهم مختصمين ولا يفتح عليهم بشيء.
لورد كرومر
قد تعرض في القانون حالات تحسب فيها المحافظة على القانون سخافة وكسره حكمة وعقلا. وقد يقف الجندي في الميدان مواقف يحيد بها عن أوامر رئيسه ويعصاها فيدفع بذلك كارثة كبيرة وبمقتضى الأحكام العسكرية يجب أن يقتل، ولكنه لا يقتل لأنه عاذ بعقله في موقف، طاعة الأمر العسكري فيه خطأ، وعصيانه صواب. والذين عرفوا تاريخ نلسن الشهير عرفوا انه خالف أوامر رؤسائه غير مرة، وان ذلك حال دون ترقيته الترقية العسكرية المعتادة، ولكنه لم يحل دون صعوده إلى أعلى مراقي الشهرة البحرية العالمية على يد عبقريته.
كان في القاهرة في أواخر القرن الماضي مطبعة اسمها المطبعة العثمانية فنقل إلى مختار باشا الغازي القوميسير العثماني العالي حينئذ، أن فيها قائمة بأسماء أعضاء حزب تركيا الفتاة في جميع أنحاء السلطنة العثمانية، وكان السلطان عبد الحميد يخشى باس تلك الجمعية وأعضائها الأحرار، ولو عرفهم بأسمائهم لأهلكهم في جملة من اهلك منهم، ولشرد أهلهم وأسرهم كل مشرد، فراى مختار باشا ان الفرصة سانحة للزلفي من مولاه (وتحسين مركزه) فاستعان بالخديو، ورأى الخديو ان الفرصة فريدة (لتبيض وجهه)، في الأستانة فأمر ففوجئت المطبعة واقفل صندوقها الحديدي وختم بالشمع الأحمر انتظار الحكم المحكمة.
والهم الله من اطلع لورد كرومر على المسالة وأخبره بعاقبة وقوع تلك القائمة في يد الأستانة، فأرسل مندوبا من قبله ومعه سيف الاسكندر ففض ختم الصندوق الحديدي وفتحه واخذ جميع ما كان فيه من الأوراق. وبذلك انتهت المسألة وقطعت العقدة. ولو تركت للمفاوضات الدبلوماسية ما انتهت بأنجح من المفاوضات الدبلوماسية في مسألة نزع السلاح الآن!
ولم يسمع بعدها حس ولا ركز في موضوعها، ولا همس هامسكبيرا كان أو صغيرا، سوى احتجاج الصحف على انتهاك حرمة القانون وتدنيس قدس القضاء.
مصطفى كمال
رواية الأمريكي التائه معروفة؛ فر من العدالة الأمريكية إلى فرنسا ومن فرنسا إلى اليونان، لأنه رأى فرنسا خطر عليه واليونان بردا وسلاما على قلبه. فانزل في هذه على الرحب والسعة. فطلبته أمريكا فحكمت محكمة أثينا العليا بان تسليمه لا يجوز في نظر القانون الدولي، إذ ليس بين أمريكا واليونان معاهدة لتسليم المجرمين
فردت أمريكا بأن في أرضها نصف مليون يوناني ففهمت اليونان هذا الوعيد ورأت أن تنذر الأمريكي التائه ففر، ومازال تائها بباخرته حتى مر بالأستانة ووقفت باخرته في مياها. فطلبت أمريكا من تركيا أن تسلمه إليها وبلغ الطلب مصطفى كمال طبعا وقيل له القانون الدولي ثم القانون الدولي.
فسكت هنيئة ريثما راجع في مخيلته حكاية الاسكندر، وحكاية كرومر، وتصور رجال القانون يسهرون ويختصمون على حرف القانون وتفسير القانون، فضحك من منظرهم هذه وقال مع المتنبي
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم
ثم جيء إليه بخاتم المارد فسمع هاتفا يقول (لبيك! عبدك بين يديك) فقال مصطفى كمال أتني بسيف الاسكندر. فإذ السيف أمامه، فتناوله وضرب به عقدة القانون الدولي فقطعها. ولو تركها ما حلتها محكمة لاهاي ولاهاواي ولا شنغاي!
ثم أمر فسلم الأمريكي التائه إلى دولته وترك أهل القانون يتشاتمون ويتضاربون ثم ينصرفون.
العالم أحوج ما يكون إلى رجال أمثال هؤلاء يحلون عقد العالم بأعمال توحيها العبقرية، وهو اعظم ما يكون غني عن الذين يقولون مالا يفعلون ويقشرون النعنع والكمون، ويهملون اثقل الناموس الحق والرحمة والأيمان، وينبذون روح القانون ويتعلقوا بحرفه ونصه.
(ن. ش)