مجلة الرسالة/العدد 460/المصريون المحدثون

مجلة الرسالة/العدد 460/المصريون المحدثون

مجلة الرسالة - العدد 460
المصريون المحدثون
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 04 - 1942


32 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادوارد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع للفصل العاشر - (الخرافات)

ولما تولى الولي السابق ذكره أعماله أخذ يتجول في قسمه فرأى بائع فول يبيع لحرفائه كالعادة. فتناول حجراً وكسر بها قدر الفول، فقفز البائع إليه وتناول جريدة بالقرب منه وضرب الولي بها ضرباً مبرحاً. ولم يشك الولي ولم يصرخ وانصرف حين أذن له. وحاول بائع الفول بعد انصراف الرجل أن يلتقط بعض ما تناثر من القدر، وكان قد بقى منها قطعة في مكانها؛ فلما نظر البائع فيها رأى ثعباناً ساماً ميتاً. فصاح مرتاع مما فعل: (لا حول ولا قوة إلا بالله! أستغفر الله العظيم. ماذا فعلت؟ هذا الرجل ولى وقد أتلف الفول الذي كاد يسمم حرفائي). وجعل ينضر إلى كل مار طول هذا اليوم عسى أن يرى مرة أخرى الولي الذي أساء إليه ليستغفره. ولكنه لم يره لأن الولي كان مرضوض الجسم لا يستطيع أن يمشي. وفي اليوم التالي نهض الولي بالرغم من ورم أعضائه وأخذ يعرج خلال قسمه فكسر جرة لبن كبيرة في دكان لا يبعد عن دكان بائع الفول كثيراً، فعامله اللبان معاملة الفوال. وبينما كان يضربه أسرع بعض الناس إليه وأخبروه أن هذا الرجل الذي يضربه ولي ثم سردوا عليه قصة الحية التي كانت في قدر الفول وقالوا اذهب وانظر جرتك فسترى فيها شيئاً ساماً أو نجساً. ونظر الرجل فوجد في بقية الجرة كلباً نافقاً. وفي اليوم الثالث سار الولي في الدرب الأحمر يعرج على عصا متألماً، فرأى خادماً يحمل على رأسه صينية عليها أطباق من اللحم والخضر والفاكهة أعدت لجماعة كانوا ذاهبين إلى النزهة في الريف فوضع الولي عصاه إذ ذاك بين رجلي الخادم فقلبه، وتناثرت محتويات الأطباق في الشارع، فأخذ الخادم يصب على الولي اللعنات ويضربه ضرباً عنيفاً، وتجمع الناس ولاحظ أحدهم كلباً يأكل ثم لم يلبث أن نفق. فسارع إلى منع الخادم من ضرب الرجل وأخبره بالحادث الذي أثبت ولايته. فجعل الخدم يتعذر للولي ويرجوه أن يصفح عنه. غير أن الرجل سئم وضيفته الجديدة فابتهل إلى الله والى القطب أن يعفى منها، وأجيب إلى توسلاته واستردت قدرته الخارقة للعادة. فعاد إلى دكانه وهو أسعد من قبل

هذه القصة يتقبلها القاهريون كأنها حقيقة ومن ثم أدرجتها هنا. لأننا عند الكلام على الخرافات نواجه الآراء أكثر مما نواجه الأفعال. ولست متأكداً أن القصة جميعها كاذبة؛ فقد يكون هذا الولي المزعوم قد أستخدم من يدخل الثعبان أو الكلب في الوعاءين الذين كسرهما. وقد قيل لي أنى أكثر من واحد قد أشتهر بالولاية بمثل هذه الحيل

وفي مصر أولياء كثيرون يتقشفون تقشف النسّاك الهنود. وفي القاهرة الآن وليّ طوق عنقه بالحديد، وشد نفسه إلى أحد جدران غرفته وظل على ذلك ثلاثين عاماً، كما يقال، ويزعم البعض أن هذا الولي كثيراً ما شوهد متدثراُ كالنائم بملاءة، ثم بعد ذلك مباشرة تزاح الملاءة عنه فلا يجدونه تحتها. ويذكر هذه القصص ويؤمن بها قوم يتمتعون بالعقل الرشيد. والضحك من هذه القصص أو عدم تصديقا يثير السخط الشديد. وقد حكى لي أخيراً أن ولياً قطع رأسه لجرم لم يرتكبه، فتكلم بعد فصل رأسه عن جسده، وأن آخر حز عنقه في أحول مشابهة فخط دمه على الأرض إعلان براءته: أنا ولي من أولياء الله وقد مت شهيداً.

وهناك ظاهرة غريبة في خلق المصريين وغيرهم من الشرقيين وهي أن المسلمين والمسيحيين واليهود يتخذون خرافات بعضهم بعضاً بينما يمقتون العقائد الأصلية. وقد يستخدم المسلمون عند المرض قسس النصارى واليهود للدعاء لهم، وكذلك النصارى واليهود يدعون الأولياء المسلمين للغرض نفسه. ومن المألوف أن ترى المسيحيين يترددون على الأولياء فيقبلون أياديهم ويسألونهم الدعاء والنصح. ويجزلون لهم المال والعطايا.

وينسب المسلمون إلى الرسول معجزات كثيرة لا يقرها الإسلام. وهم يقولون أن هناك معجزات كثيرة لا تزال تتم إكراماً للنبي وشاهداً على رعاية الله له. ويروي الحجاج الذين زاروا المدينة أنهم يرون كل ليلة شعاعاً من النور الكامد يشع من قبة القبر النبوي إلى ارتفاع هائل إلا أن الشعاع يختفي عن الناظر عندما يقترب من القبر. وهذه معجزة من أكثر المعجزات اعتباراً ويروون أنها تشاهد للآن. وقد سألت أحد أصدقائي الحصفاء عن صحة هذا الزعم فأيده وجزم أنه كان يرى الشعاع كل ليلة مدة إقامته بالمدينة. وقال: أن ذلك دليل على رضى الله وإكرامه لسيدنا محمد (ص)، ولم أجرؤ أن أستفهم عن حقيقة ما يزعم رؤيته بعينه ولا الإشارة إلى أن أكثر النوار التي تضاء في المسجد كل ليلة قد تحدث ذلك الأثر. غير أنى سألت صديقي أن يصف لي بناء القبر وقبته الخ؛ فأجاب أنه لم يدخل الضريح ولا الكعبة لاضطراب أعصابه نتيجة لإعظامه هذه الأماكن المقدسة وخاصة قبر الرسول الذي يؤثر فيه تأثيراً شديداً؛ ولأنه حنفي المذهب لا يليق به أن يسير فوق هذه الأرض المقدسة ويتعرض كل حين لمكاره المشي حافياً، ومن ثم كان عليه في هذه الحالة أن يلبس خفاً داخل الحذاء الخارجي، وهذا مالا يقدر عليه. ويزعم الحجاج أيضاً انهم يرون دائماً على مسير ثلاثة أيام من المدينة نوراً في اتجاه المدينة المقدسة ويعتقدون أنه ينبعث من قبر الرسول. ويقولون أنهم حيثما يتجهون يشاهدون هذا النور تجاه المدينة. ولهذه الروايات جمال يؤثر في النفوس ويحمل المسلمون، وبخاصة المصريون على اختلاف مذاهبهم، ما خلا الوهابيين، للأولياء المتوفين احتراماً وتقديساً لا سند لهما في القرآن أو الأحاديث، أكثر مما يحملون للأحياء منهم. ويشيدون فوق أغلب قبور الأولياء المشهورين مساجد كبيرة جميلة. وينصبون فوق قبور من هم أقل منهم شهرة بناء صغيراً مربعاً مبيضاً بالكلس ومتوجاً بقبة. ويقام فوق القبر مباشرة نصب مستطيل من الحجر أو القراميد يسمى (تركيبة)، أو من الخشب ويسمى (تابوتاً)، ويغطى النصب عادة بالحرير أو الكتان المطرز ببعض الآيات القرآنية، ويحيط به قضبان أو ستر من الخشب يسمى (مقصورة). وأكثر أضرحة الأولياء في مصر مدافن إلا أن أكثرها يحتوي على آثار قليلة لهم. وبعضها ليست إلا قبوراً فارغة أقيمت تذكاراً للميت. وأكثر هذه المقامات قدسية مقام الحسين إذ يقال أن رأس الحسين الشهيد مدفون به. ومنها أيضاً مسجد السيدة زينب وهو دون الأول قدسية. ومسجد السيدة نفيسة، ومسجد الأمام الشافعي الذي ينتمي إلى مذهبه أكثر القاهريين. وتوجد هذه الأبنية السابقة ما خلى الآخَريْن داخل العاصمة. أما مسجد السيدة نفيسة فهو في إحدى الضواحي الجنوبية، ومسجد الأمام الشافعي في المقبرة الجنوبية الكبيرة

ويزور المصريون هذه الأضرحة وغيرها أحياناً أما إجلالاً للميت أو قياماً بأعمال تستحق الثواب لأجل هؤلاء المكرّمين معتقدين أنهم سينزلون عليهم البركات، وأما بقصد التماس البرء من مرض أو طلب النسل، مقتنعين أن فضائل الميت تكفل قبول دعواتهم قبولاً مرضياً. ويعتبر المسلمون أولياءهم المتوفين شفعاء لهم عند الله ويقدمون لهم النذور. ويحيي الزائر عند وصوله الضريح بالسلام ويسلم عليه أيضاً عند دخوله المدفن. ولكني أعتقد أنه قلما تراعى هذه العادة الأخيرة. ويواجه الزائر رأس الميت، ومن ثم يولي القبة ظهره. ويطوف حول المقصورة من اليسار إلى اليمن ثم يقرأ الفاتحة بصوت لا يسمع أمام باب المقصورة أو أمام جوانبها الأربعة. وقد يتلو بعد ذلك سورة أطول من الفاتحة، كما قد يتلو في هذه الحالة (خاتمة). وتقرأ هذه الأدعية لأجل الولي وان كان يعتقد أيضاً أن الأجر ينعكس على الزائر الذي يتلو الصلاة. ويختم الزائر ذلك عادة بقوله: (أنى وهبت ما قرأت من القرآن الكريم إلى من نذر له هذا المكان) أو (إلى روح هذا المولى). ويبقى ثواب ما قرىء للقارئ وحده إذا لم يبين ما سبق أو لم يقصده. ويبتهل الزائر بعد تلاوة هذا إلى الله لاستدرار النعم فيقول عادة: (اللهم أتوسل إليك بالرسول وبمن وقف له هذا المكان أن تهبني هذه النعمة وتلك الأخرى) أو (حملي على الله وعليك يا من كُرّس لك هذا المكان). ويواجه البعض وهو يفعل ذلك جانباً من جوانب المقصورة. ويقال أن اللائق أن يواجه الإنسان المقصورة والقبلة، ولكني أعتقد أن القاعدة نفسها تراعى في هذه الحالة كما تراعى في السلام؛ وتوضع اليدان أثناء ذلك وضع الابتهال الخاص عقب الصلاة العادية ثم تسحبان بعد ذلك على الوجه. ويقبّل الكثير من الزائرين عتبة باب المقام وجدرانه ونوافذه ومقصورته الخ. . . إلا أن الشديد المحافظة يستقبح هذا لاعتباره تقليداً لعادة مسيحية. ويوزع الأغنياء والميسورون عند زيارتهم قبور الأولياء المال أو الخبز على الفقراء. وكثيراً ما يمنحون السقاءين نقوداً ليفرقوا الماء على الفقير والظمآن إكراماً للولي. وهناك أيام خاصة في الأسبوع لزيارة بعض الأضرحة. فيزور الرجال مسجد الحسين على الأكثر يوم الثلاثاء، والنساء يوم السبت. ويزورون مسجد السيدة زينب يوم الأربعاء، ومسجد الأمام الشافعي يوم الجمعة. والعادة في هذه الحالات أن يحمل الرجال معهم آساً يضعون بعضه على النصب أو فوق الأرضية داخل المقصورة، ويأخذون الباقي ثانية لتوزيعه على الأصدقاء. ويضع الفقير أحياناً خوصاً، كما يفعل أغلب الناس على قبور الأصدقاء والأقارب، وتضع نساء القاهرة بدل الآس والخوص وروداً وزهوراً وياسميناً.

(يتبع)

عدلي طاهر نور