مجلة الرسالة/العدد 461/قصة رمزية في فصل واحد

مجلة الرسالة/العدد 461/قصة رمزية في فصل واحد

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 05 - 1942



صدى الأجيال

للأستاذ فؤاد البهي السيد

المسرح: خيال الإنسان

الزمن: قبيل النوم في الفترة التي يهوم فيها الإنسان بين اليقظة والحلم

الأشخاص: العقل الواعي. الرقيب. العقل الباطن

النظارة: الإنسان

النفس وعاء ترسب في قاعه مغامرات ونوازع إنسان الغابة الأول، وغياهب المشرئبة إلى الإشباع، وتطفو على سطحه النوازع المهذبة التي تتماشى وروح العصر. وبين العالمين يقوم الرقيب، ليمنع فيض ما رسب في القاع من عناصر العقل الباطن على المنطقة التي خلصت من الشوائب، وسمت صعدا إلى القمة، حيث العقل الواعي. وبين اليقظة والنوم يغفو الرقيب أحياناً فينسل عقل الغابة والفطرة الأولى إلى القمة راقصاً رقصة الدغل، مصوراً أحلام البراري، بينما العقل الواعي يغط في نوم عميق.

صدى الأجيال

الظلام يلف الوجود في شملة كثيفة داكنة، والإنسان قد اغمض عينيه وهجع في فراشه، وصمت في كل شيء من حوله، وسكن الوجود وهدأ.

يقبل النوم عليه خفيفاً لطيفاً كالنسيم، ويتركه ليقظة نائمة، وبين تلك اليقظة وهذا النوم يرتفع حوار العناصر من أعماق النفس.

الرقيب: صه، انك لن تخطو!

العقل الباطن: إنما هي ذكرى الغاب. . . ما أراني أرقص صُعداً نحو القمة، مجتازاً حدودك محطماً أغلالك. إنما أدور حول نفسي. . . تلك سنتي وأنت بها عليم خبير

الرقيب: ما أراك خادعي هذه المرة أيضاً؟

العقل الباطن: وهل تراني خدعتك أبداً؟

الرقيب: لطالما غافلتني وتسللت إلى قمة النفس، وهناك رحت ترعد وتبرق؛ رحت تستع لنفسك ذكرى قد اندثرت وماتت: ذكرى الغاب والدَّغل، ذكرى البراري والفطرة

العقل الباطن: أي هراءٍ هذا؟ أتراني أقوى على مغالطتك. . . لقد كنت تغفوا فأنسل صعداً، وتستيقظ فأنسل هابطاً. أتذكر مرة واحدة خطوت فيها أمامك وأنت يقظ متسنماً قمة النفس - إني لأحترمك ولا أقوى على فعل ما تأباه وأنت يقظ

الرقيب: أنت تخشاني وترهبني فقط. ما اغرب منطقك، انك دائماً تغالط!

العقل الواعي: أرى عراكاً وأسمع صخباً. . . لقد أختلط الوجود حيالي، فلا أكاد أميز شيئاً، من يدري؟ لعله حلم بعيد لم يستكمل نموه بعد

الرقيب: (وقد أقترب صوته واستبان) صه!

العقل الباطن:. . . . . . . . . . . .

العقل الواعي: ما ورائك يا رقيب؟

الرقيب: لاشيء. . . لاشيء. . . إنما كنت أشهد عراك العناصر، عراك الأجيال السجينة

العقل الواعي: ما أراني أفهم عنك

الرقيب: (وقد أخذ صوته يخفت ويبعد شيئاً فشيئاً). . . أحقاب وعصور وأجيال سجينة هناك في الأعماق، تجاهد وتكافح لتصخب وتضج على مسح وجودك لكنها لا تفلح في عبور القناة التي بناها الزمن وأقامتها الحضارة، فتعود لترقص وتدور حول ما يصوره لها وهما أنه الحاضر

العقل الواعي: ما أراني أفهم عنك أيضاً، بل ما أراني أكاد أسمعك

الرقيب: أنه عراك. . . سمه كيف شئت. . . سمه يقظة الماضي، أو سمه حلم الزمن، أو سمه. . .

العقل الواعي: (وقد أخذ يغط في نوم تقطعه يقظة يتلوها إغفاء)

ماذا. . عراك. . . ماضي. . . زمن

العقل الباطن: (مخاطباً الرقيب) ترى ماذا بيني وبينك؟

الرقيب: لاشيء

العقل الباطن: ما كنه هذا العداء الذي تضمره لي؟

الرقيب: من قال إني أعاديك، إني أمنعك فقط العقل الباطن: ولماذا تحرمني الحرية. . . لماذا تحرمني النور؟

الرقيب: بل قل لماذا أحرمك الظلام، أتراك تحيا في النور أنت ابن الماضي الذاهب في القدم. . . ابن الظلام. . . ابن الكهف والغار. . . أنت ابن. . .

العقل الباطن: ليكن من أمري ما يكون، فلماذا تقف بيني وبين التصعيد؟

الرقيب: لماذا؟ ما أعجب أمرك! طبيعة الحياة الحاضرة. . . الوجود كله يقف الآن بينك وبين ما تريد. . . لقد تبدل العالم وتغير. لقد دار الفلك دورته، وتغيرت الأرض غير الأرض و. . .

العقل الواعي: فلك. . . أرض. . . ما لك تهذي اليوم هكذا؟

العقل الباطن:. . . . . .

الرقيب: دع الفلك والأرض والهذيان. . . هاأنت أوشكت أن تنام. . .

العقل الواعي: أ. . . نا. . . م. . .

الرقيب (لنفسه): ما أقسى الحراسة وكل ما حولي يغري بالنوم والإغفاء والراحة!

العقل الباطن (مخاطباً الرقيب): لقد نام الطفل

الرقيب: بل قل قد نام الجبار

العقل الباطن: جبار (يقهقه ضاحكاً بخشونة) أنه طفل، إنه صنع يدي هاتين. . . أنا الذي منحته الوجود والحياة. . . في البدء تآلفت ذراته وتجمعت ثم خفت فطفت وكانت قشرة، وتركزت فهبطت فكنت القاع واللب

الرقيب قل، صفا وتنقى فطفا: وحملت الشوائب وحدك فرسبت

العقل الباطن: ليكن من أمر خلقه وخلقي وتكوينه وتكويني ما يكون فهو ما فتئ طفلاً وأنا ما زلت جباراً

الرقيب: إذا فما أغربه طفلاً يهيمن على جبار!

العقل الباطن: (يهبط متكثفاً متركزاً نحو القاع)

الرقيب: يرى أين ذهب الجبار، أعني الطفل الذي تمخض عن الجبار

(يهفو من بعد صوت مضطرب فيه حدة وفيه لين. . . تستبين النغمات وتنسجم فإذا دوى طبل وأنة ناي. . .) (الرقيب لنفسه): لقد راح العقل الباطن يرقص في الأدغال، لعله عاد إلى عالمه وماضيه الذي فيه يحيا ويتنفس. . . بل لعله سئم الحوار ويئس من الإقناع

العقل الباطن: (يدور مبتعداً فإذا النغمات صدى يتردد في جوانب النفس من بعيد، وينأى فإذا نغماته وإذا صداه وهدوء وموات. . . يدور ويقترب فتعلو ألحانه ويصخب ضجيجه)

الرقيب (وقد خدرت هذه الألحان أعصابه): أف! ما أقسى الحراسة، وكل ما حولي يغري بالنوم والإغفاء والراحة

(يهوم نائماً، ثم يستيقظ فزعا، ثم يعود ليهوم ويغفو على ألحان الناي والطبل)

العقل الباطن: (تنسل عناصره في خفة ولين وحذر، تخطو متدثرة مستترة في صبغات وألوان وأشكال وخيالات لتموه على العقل الواعي حتى لا توقظه فيطردها. . . تخطو وتطفو صعداً. . . . . .)

وكانت إغفاءة. . . وكان حلم!؟

فؤاد البهي السيد