مجلة الرسالة/العدد 462/في سبيل إصلاح الأزهر

مجلة الرسالة/العدد 462/في سبيل إصلاح الأزهر

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 05 - 1942



للأستاذ محمد يوسف موسى

ليس كثيراً على (الرسالة) الغراء وصاحبها الجليل أن يُشغلا بالأزهر وإصلاحه، وليس معنى إفراده بالكتابة ولفته لواجبه أن دون الجامعة فهماً لتبعاته وقياماً بها. ولكن معنى هذا أن الأزهر لمصر وللعالم الإسلامي عامة، كالقلب به صلاحه وقوامه، وكالمنارة تهدي الضال وترشد السفْر بما تبعث من ضوء وهدى. انه الذي يقوم على ثقافة ناشئة الإسلام العالية من الصين في الشرق إلى المغرب الأقصى بأفريقية.

لهذا كان حريَّا بنا إتمام النظر والدرس، والتعمق في التفكير والفحص، لهذه الجامعة التي هي رابطة بلاد الإسلام، لعلنا نقف على الداء ونصيب الدواء، فينهض الأزهر بعد أن طال عليه الأمد وهو وسنان، ويمضي لغايته قُدُماً بعد طوال عثار، ويعود كما كان مصدر العلم النافع والعرفان الذي به ملاك الدين والدنيا.

لا ريب في أن الأزهر تخلف عما يراد عنه، يعرف هذا من اتصل به تلميذاً أو مدرساً، ويشكو منه أبناؤنا وبخاصة غير المصريين الذين تركوا بلادهم خماصاً ليعودوا إليها بطاناً مليئين بالعلوم المجدية، فإذا قلوبهم واجفة خشية أن يرجعوا إلى أوطانهم كما جاءوا إلينا أن أضاعوا زهرة العمر! هذا حق، ولكن ما علة هذا وما أسبابه؟ وهل إذا تبيّنا العلة كان من السهل أن نطبَّ لها ونقتلعها من جذورها؟

اعتقد أنه من الجرأة والمجازفة أن يزعم أحد منا أنه وقف على الداء كله، وعرف له العلاج الشامل الكامل. ومع هذا كان من الواجب أن يدلي كل من تهيأت له الأسباب برأيه، على أن يكون لنا من مجموع هذه الآراء ما يعين على تقويم المعوج ويهيئ السبيل للخير المرجى.

1 - أول ما يلفت النظر فيما نحن بصدده أن طائفة منا تعيش في هذه الأيام بعقلية رجال القرون الوسطى. المدرس لا يعنيه إلا أن يفهم الكتاب المقرر وأن يُفهمه لطلابه؛ فان يسر الله والطلاب له هذا، حمد الله ورأى انه قام بواجبه. ليكن هذا الكتاب مليئاً بالمسائل والمشاكل اللفظية، ومحشواً بغير قليل من الأخطاء العلمية، فذلك لا يغير من وضع المسألة لدى الطلاب وعامة المدرسين، ولا يلفتهم إلى محاولة فهم العلم نفسه والوصول إلى الحق، سواء أكان في هذا الكتاب أم في غيره!

2 - ثم لا يكاد الكثير منا يحس أن للأزهر رسالة يجب أن يضطلع بها، ودوراً عليه أن ينهض بأعبائه. ولو أننا نفقه رسالتنا ونؤمن بها لما كان في أمورنا هذا الوهن، وفي سُبلنا هذا العوج، ولكُنا اعرف بالإصلاح وأهدى لسبيله، ولأصبنا من النجاح - على الأقل - ما أصاب رجال الجزويت المنبثين في شرق العالم وغربه.

هؤلاء يفهمون رسالتهم التي وهبوها أموالهم وأنفسهم، وهي غرس الدين المسيحي في قلوب من يلون أمر تربيتهم وتثقيفهم، ونشر هذا الدين في جنبات الأرض جميعاً. لهذا يدرسون دينهم دراسة وافية، كما يدرسون الدين الإسلامي كذلك، لعلهم يجدون فيه ثغرة ينفذون منها للدعاية لدينهم. ومع هذه الدراسات الدينية العالية تراهم يشاركون مشاركة طيبة في العلوم الاجتماعية والعمرانية وفي الفلسفة والآداب، ويتوسلون بهذه العلوم كلها ليصلوا إلى ما جعلوه لأنفسهم غرضاً وغاية. وهم في أمورهم عامة مخلصون متفانون، لا يتهيبون عملاً، ولا ينكصون عن تضحية، يأتمرون ويتباحثون ويكيفون أنفسهم ومناهجهم حسب ما توحي به الأيام والمناسبات.

أما نحن معشر الأزهريين فقد جهلنا العالم فأنكرناه ونكرنا، وتجهمنا للعناصر الأخرى التي تتألف منها الأمة فتجهمت لنا، وصرنا نعيش على هامش الحياة لا نحس بالغير ولا يحس بنا، منا من يفهم الدين على إنه شعائر جافة جدية لا وسائل للفلاح والخير! ومن يحذق قواعد النحو وأصول البلاغة، ثم يعسر عليه أن يقيم لسانه بين الناس بأسلوب فصيح نفاذ للقلوب! ومن يرى الحق فيما قال الغزالي مثلاً وان كان الخطأ فيه بيناً، والإلحاد والكفر فيما ذهب إليه الفلاسفة وإن كان الصواب فيه واضحاً! ومن يعلم الأخلاق ولا يتخلق، والفلسفة ولا يتفلسف، والأصول والفقه ولا يجتهد، وعلم الكلام ولا يستطيع أن يجادل عن الدين خصومه الحاضرين لا من عفت آثارهم الأيام!

وكان من هذا كله، ومن تخلفنا في الطريق، أن تجاهلتنا وزارة المعارف في أمور كان لا يصح فيها التجاهل، وإن أغضينا العين على القذى. اذكر من هذه الأمور ما كان من الوزارة حين الفت لجنة رسمية لتاريخ إعلام الإسلام، في التشريع واللغة والأدب وسائر نواحي النشاط العلمي، فلم يكن فيها أحد من الأزهر! وما يجري هذه الأيام بين سمعنا وبصرنا من السفارات العلمية بين رجال الجامعة والعراق، دون أن نخطر على البال فيستعان بنا في هذا السبيل! وهكذا صرنا كما قال الشاعر:

ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأمرون وهم شهود

أو كما قال الآخر:

مُخلَّفون ويقضي الناس أمرهم ... وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا

3 - وثالثة الأثافي توسيد الأمر أحياناً إلى غير أهله، والثقة بمن لا يستحق، ورعاية جانب الطلاب على حساب العلم. وتفصيل هذا في الكلمة التالية أن شاء الله تعالى.

وإني لأرجو مخلصاً غاية الإخلاص لفضيلة الأستاذ الأكبر الأمام المراغي، وموقناً بأنه خير من يفهم الأزهر ورسالته ويقدر على إصلاحه، والسير به حتى يبلغ الهدف المنشود - أن تكون هذه الكلمة فاتحة لأخريات من إخواني الذين يحسون ما أحس من نقص يجب علاجه وتلافيه وتبعات جسام يجب القيام بها. . . والله الهادي إلى الصراط المستقيم.

محمد يوسف موسى

مدرس بكلية أصول الدين