مجلة الرسالة/العدد 463/محاكمة قصاص

مجلة الرسالة/العدد 463/محاكمة قصاص

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 05 - 1942



للأستاذ عبد الوهاب الأمين

هذا حديث كنت شاهده عرضاً، وكان قد جرى بين صديق لي من القصاصين وبين إحدى الإنجليزيات، لم أشترك فيه إلا بالسمع فقط وإلا بإشارة عارضة أو نظرة تأييد وموافقة عندما كان يفزع إليَّ أحد المتحادثين في غضون الحديث، فكنت اعتصم بالصمت طوال سيره

وقد بدأ هذا الحديث أول ما بدأ تغلب عليه مسحه من التزمت الذي يقتضيه مثل هذا الموقف، ثم أخذ يتحدر شيئاً فشيئاً إلى الكثير من اللجاجة وقليل من قسوة اللفظ كنت أرى أنهما غير مصطفين

وقد سجلت هذا الحديث لأنه يمثل متهماً يدافع عن نفسه في اتهام لا يمكن أن يبرز في غير هذا السياق من الأخذ والرد، ولأنه يمثل مفهوماً للأدب الحديث بين عصرين وحضارتين وجنسين

قالت الجليسة لرفيقي بعد تطور الكلام - وكان في حفلة من الحفلات العامة - الذي بدأ كما يبدأ كل كلام بين غريبين ببعض المجاملات المعروفة:

- علمت أنك تكتب القصص الصغيرة، فهل كان ذلك منك اختياراً، أم أنك كنت تقتفي أثر أحد من الأدباء الذين أعجبت بهم؟

فأجاب صاحبي:

- من المؤكد أنه اختياري الخاص؛ وإن كان قصدك بالاقتفاء (التقليد)، فان القليل عندنا من أدباء العربية من يكتبون القصص الصغيرة والأقل منهم من يجيدها. وإن كان قصدك اقتفاء سير الأدب الغربي، فأنت تعلمين أن مثل هذا لا يمكن أن يسمى اقتفاء أو تقليداً، لأن جميع الأدباء الغربيين تقريباً يكتبون القصص، بل لعلهم لا يكتبون سواها، فلا يمكن أن يكون كل واحد مقلداً لكل واحد

- أنا لا أفرق بين الاقتفاء والتقليد، وإن كنت في الحقيقة لا أرى في التقليد العيب الذي ترونه فيه أنتم معشر الشرقيين، فالحقيقة أن الابتكار نفسه هو تقليد مضاعف

- قد يكون ذلك حقاً، ولكن رغبة الأديب في القالب الذي يفضله لأداء رسالته الأدبية ل يمكن أن يبت فيه غيره هو. ولا أضن أن هناك من الأدباء الناجحين من سار على طريق مفترح. والحال في هذا كالحال في جميع الأشغال والأعمال، فلا يفرض النجاح لعمل ما إذا كان ذلك العمل غير مرغوب فيه، وإذا لم يكن الإلهام من المجهول هو السائق الأول له

- لماذا فرضت أن يكون العمل غير مرغوب فيه تقليداً؟ قد تجيد عملاً ما ولا تدري أنك تجيده حتى يتضح ذلك بمناسبة ما!

- إن ميلي إلى كتابة القصص الصغيرة ليس من هذا النوع، فإني لم أكتشفه في نفسي اكتشافاً، بل رأيتني مدفوعاً إليه

- وكيف كنت تشعر عندما كتبت أول قصة؟

- لا أذكر أول قصة كتبتها، ولكني أذكر أول قصة لي نشرت، وقد كانت سخيفة!

- لم أكن لأستغرب هذا القول منك، ولن أستغربه إذا سمعتك بعد عشر سنوات تقول عن قصتك التي نشرت أمس سخيفة! أن في كتابة القصص لمجالاً كثيراً للسخف، والغريب أن أول من ينبه إليه بعد فوات الوقت هم كتابه!

رأيت صاحبي يتقبل هذا التهجم بصبر وأناة، ويحاول أن يدور بالحديث غير مداره، ولعلها هي الأخرى أدركت أنها كانت قاسية بعض القسوة في قولها ذاك فأردفته قائلة:

- كنت أقصد أن أقول هذا على سبيل المدح لكتاب القصة لا على سبيل القدح فيهم، فالحق أن الاعتراف لا يكون أكثر تجلياً مما هو عليه لدى أرباب القصة

فقال صاحبي:

- لعلك صادقة في قولك هذا إن (دستوفسكي) مثلاً لم يكن يتسنى له أن يبلغ من الفن تلك الذروة التي بلغها لو لم يكن كما وصفت. وكذلك (ل. هـ. لورنس) - من كتابكم - فهو من عباد الواقع ومن أربابه الذين خدموه

فسألته وتقدمت إلى الأمام قليلاً، وكأنها تريد أن تدعوه إلى معركة:

- هل تحب (لورنس)؟

- كثيراً جداً

- وماذا يعجبك في فنه؟

- إذا طرحنا بيانه الرائع وقدرته الفنية على الأداء جانباً، فإني أعجب، بالإضافة إلى ذلك، باتجاهه الأدبي، ولعلي من الزمرة الذينَ يسمونه بالنبوة بين كتاب جيله!

- لعلك مغرق في تحمسك. . . إن (لورنس) أديب ولاشك، ولكنه ليس كما وصفته. إنه أديب منافق! ولكني لا أريد أن أجادلك في موضوع (لورنس) بل أود أن تشرح لي كيف تكتب قصصك

- إن كان قصدك وصف الكتابة ونوع المؤثر الذي يحدو بي إليها، فإني في الحقيقة لا أقدم على كتابة قصة قبل أن ينزع بي نازع إلى الكتابة. ولا أظن أن وضعي في ذلك يختلف كثيراً عن وضع الشاعر عندما تتكون فيه الرغبة إلى نظم القصيد. وفي أكثر الأحيان أراني أكتب قبل أن يتكون في مخيلتي كيان القصة أو عمودها الفقري كما يصطلحون!

فسألته المحدثة بابتسامة غامزة:

- ألا ترى أنك تخلق من أبطال قصصك مخلوقات مبتسرة! أليس هذا الإنشاء اعتباطاً؟

فأجاب صاحبي القصص وكان قد رفع قدح الشاي إلى فمه فأنزله مسرعاً:

- إني لا أعدو في ذلك ما تصنعه الطبيعة في خلق أبنائها! وأضن أن مهمة الفنان في هذه الحياة هي أن ينوب عن الطبيعة الأم فكأن هذا الجواب أرضاها، فقالت وهي تهز رأسها هزة الموافق:

- ذلك صحيح. . . وماذا عن العقدة

- هنا موضع الخلاف كما يقولون، فأنتم في الغرب تقيمون لها الوزن كل الوزن؛ أما نحن هنا فقليلاً ما نعني بها عنايتكم هذه، وأضن أنك تلاحظين أن آداب الأمم الغربية القريبة إلى الشرق أقل نزوعاً إلى (القعدة) في قصصها منها في الأمم الضاربة إلى الغرب. وأقرب مثال إلى ذلك في نظري هو الأدب الروسي الذي نستطيع أن نقول: لا عقدة فيه

- ولكن أدبكم على ما أسمع ليس فيه ذلك العمق الموجود في الأدب الروسي

- ذلك لأن أدبنا لا يزال في طور التكوين

- وقد كان الأدب الروسي كذلك في بداية أمره، ولكنه لم يكن كأدبكم هذا الذي نسمع به ولا نستطيع أن نراه. إن نقدة الأدب عندنا يرون أن أدبكم العربي المعاصر لا يمكن نقله على صورته إلى اللغات الأخرى، وعلى الأخص منه الشعر، وليس كذلك الأدب الروسي أو غيره - قد يكون هناك سبب أساسي وهو أن اللغة العربية عميقة الأداء وأن بعض تعابيرها قد تجمدت كما يقولون، ولكن المهم في نظري هو سير لغتنا بقوة الاستمرار فقط مدة طويلة من الزمن لا بقوة الحياة كما كان ينبغي لها أن تسير، ولذلك فإنها تخلفت عما سواها من اللغات في الأداء، وعليها أن تجتاز كثيراً من العقبات قبل أن تستعيد ماضيها الحافل

وهنا حدثت فترة في الحديث واتصل نظر المتحاورين بما يجري في القاعة من أخذ ورد ثم عطفت المتحدثة مرة أخرى إلى صاحبي وساءلته:

- هل تفضل طريقة غير طرية القصص في الأداء والخلق كأديب، أم أنك قانع بفنك؟

فأجابها صاحبي بعد فترة وجيزة بتؤدة:

- كنت أتمنى أن أكون شاعراً ولكن ذلك ليس بيدي، وأظنني لا أعدو الشاعر في وضعي الآن كقصاص، ولكني كما قلت لك لا أفضل على كتابة القصة شيئاً

- ذلك ما ظننت

وبعد برهة وجيزة أخرى رأيت صاحبي ينحاز إليها سائلاً:

هل لي أن أستوضح السيدة أمراً؟

- نعم

- ماذا تفضلين من أنواع الأدب؟

- القصة

- وهل أنت قصاصة؟

فابتسمت المحدثة ابتسامة رطيبة وأومأت إليه برأسها:

- لا أكذبك يا صديقي! إنني أنا أيضاً قصاصة؟

- ففتحت عيني مستغرباً، وكذلك كان صاحبي، فقد جاء جوابها هذا أغرب ما في الحديث!

عبد الوهاب الأمين

-