مجلة الرسالة/العدد 464/خسرو وشرين

مجلة الرسالة/العدد 464/خسرو وشرين

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 05 - 1942



في التصوير الإسلامي

للدكتور محمد مصطفى

(تتمة)

بعد أن رفع شابور الستار عن مخبأ شيرين، تقدم خسرو إليها، فحرت أمامه ساجدة تقبل الأرض تحت قدميه، وطفقت تشكو إليه بثها وحزنها، وتذري دمعها، وتمري جفنها، فأحضر خسرو موبذ الموبذان وأمره أن يزوجه شرين ففعل. وشاء أن يعم الفرح والسرور قلوب المقربين إليه، فأمر موبذ الموبذان فزوج مطربه باربد، نيكيسيا، مطربة شيرين، وصديقه شابور، همايون، صديقتها، وأجلس شابور على عرش مملكة أرمينيا مكافأة له على مساعيه التي كللت بهذا النجاح. وبعد أن قضى الزوجان الحبيبان في قصر شيرين وقتاً هنيئاً سعيداً، رجعا إلى المدائن حيث أقاما حفلات الزواج الرسمية وتوجت شيرين إلى جانب خسرو ملكة على عرش إيران.

وفي (شكل1) يجلس خسرو وشيرين في إحدى الليالي على عرش فاخر، بمنظرة جميلة، في وسط حديقة غناء. وأمام العرش شموع موقدة تحيط بفسقية تسبح فيها ثلاث أوزات. وإلى اليمين رجال الحاشية ومعهم الخدم والسقاة يحملون الطعام والشراب؛ والى اليسار يجلس فريق من وصيفات شيرين، وهن يروين القصص لتسلية الزوجين الحبيبين. وإحداهن - وهي الجالسة إلى الخلف بجانب المنظرة - لها سحنة أوربية، ويظهر من ملامحها أنها رومية الأصل. وهذه الصورة من تصوير آقا ميرك أحد مشاهير مصوري عصر الشاه طهماسب الأول الصفوي، وهي في مخطوط نظامي السابق الذكر المكتوب لهذا الشاه.

وفي (شكل2) يجلس خسرو في روضة على سجادة جميلة، وقد وضع سبابة يده اليمني في فمه، وهو يتحدث إلى شاب راكع إلى يمينه، بينما يعتمد بمرفقه الأيسر على ركبة زوجته شيرين مولياً ظهره إليها. وإلى اليمين تجلس نيكيسا مطربة شيرين وهي تعزف على (الرباب). ويظللهم جميعاً فرع من شجرة زاهرة، وقف عليه عصفور رشيق له ذنب طويل، وقد انحنى إلى الأمام كأنه يتأهب لالتقاط قطعة الحلوى التي في يد شيرين. وهذه الصورة مرسومة على (لوحة) من نسج الحرير، كتب عليها من الخلف (عمل أستاْدان خطاي) فظهرت الكتابة مقلوبة في أعلى الصورة إلى اليمين. وهذه الكتابة تدل على أن مصور هذه الصورة فنان من التركستان الصينية، كما يظهر التأثير الصيني بوضوح في طريقة تصوير فرع الشجرة والزهور، وفي رسم العصفور الواقف عليه. ويعتقد الدكتور كينل أنها من تصوير فنان صيني أراد أن يمارس التصوير في إيران فرسم موضوع (خسرو وشيرين)، ويظهر أنه رأى صوراً كثيرة لخسرو وهو يضع سبابته اليمنى في فمه علامة لدهشته إذا فوجئ برؤية شيرين الجميلة، فرسمه هنا أيضاً في هذا الوضع، مع عدم وجود ما يبرر الدهشة، إذ تجلس شيرين إلى جواره، ولا يفاجأ برؤيتها. ويؤرخ الدكتور كينل هذه الصورة من الثلث الأول للقرن التاسع الهجري (15م) - وهو الأرجح - بينما يؤرخها الأستاذ (كوماراسوامي) في القرن العاشر الهجري (16م) وهذه الصورة محفوظة في متحف الفنون الجميلة بمدينة بوسطون.

هكذا مضت الأيام وتوالت السنون وخسرو ينعم بالحياة السعيدة مع زوجته الحبيبة، وقد خلبته الدنيا فاسترسل إليها. إلى أن كان ذات يوم وقد جلس في إيوان المدائن، وحوله الحراس الأشداء الأقوياء، وبين يديه رجال حاشيته وبلاطه، تحيط به من كل ناحية مظاهر القوة والأبهة والجلال، وكانت بيده مرآة صقيلة جميلة، هي تحفة نادرة تليق بمقامه السامي الرفيع، يتطلع فيها إلى وجهه في زهو وخيلاء وغرور. وعلى حين بغتة انتفض هذا الملك الجبار، إذ رأى بين شعور لحيته السوداء المرسلة بعناية فائقة، شعرة بيضاء تتألق بينها، كأنها نجمة بعيدة في ليل دامس الظلام. وبهت خسرو لهذه الظاهرة العجيبة، وأرسل يدعو معلمه بزر حميد الحكيم، ليسأله رأيه في هذا الأمر الغريب. ولما حضر ذلك الرجل الخبير بدواخل الأمور، ابتسم وحاول أن يسري عن الملك، ثم أخذ يشرح له نظام الكون، ومصير الخلق، وأفهمه أن دوام الحال من المحال، وأن مآل كل شئ إلى الزوال

وشب شيرويه بن خسرو من زوجته مريم بنت إمبراطور الروم، وقد تحقق فيه ما تنبأ به المنجمون عند ولادته، ومرق عن الدين، وخرج عن طاعة رب العالمين، فلم يحمد أحد سيرته إذ كان مطبوعاً على الشر والإثم. وصادف أن رأى يوماً زوجة أبيه شيرين، فراقت في عينيه الآثمتين، واشتهاها لنفسه. وهيأت له نفسه الشريرة أن يقتل أباه، فيحصل على العرش، ويستأثر بالملكة الجالسة عليه

وذات ليلة أرسل شيرويه رجلاً من صنائعه، تسلل إلى مخدع الملك، وطعنه طعنة نجلاء أصابته في مقتل، ثم فر هارباً. وصحا خسرو والدماء تنزف من جرحه بغزارة وتبين أنه لا أمل له في النجاة من جرحه القاتل، واشتهى جرعة من الماء يخفف بها آلامه وأوجاعه. ولكنه أبى على نفسه أن يوقظ زوجته الحبيبة شيرين. وبعد أن ملأ من وجه شيرين، أغمض جفنيه، واستسلم للموت، فجاء برداً وسلاماً عليه، وأسلم الروح

وشيئاً فشيئاً صحت شيرين ورأت خسرو يرقد إلى جوارها وقد فارقته الحياة، فبكت وتوجعت، ولكنها تمالكت نفسها، إذ علمت أن أمامها واجباً نحو زوجها الراحل يجب عليها أن تؤديه وقامت إلى جثمانه، فغسلته وضمخته بالعطور والزيوت، وأعدته لموكبه الأخير

وفي (شكل 3) تقف شيرين مع إحدى وصيفاتها، وهي تبكي وتندب زوجها الراقد جثمانه على السرير، وفي صدره جرح غائر تتدفق منه الدماء. وإلى اليمين يفر القاتل هارباً من الباب وفي يده سيف مسلول يقطر منه الدم. ونلاحظ الزخرفة النباتية الجميلة في بلاط أرضية الغرفة، وما يظهر على الحائط من نقوش دقيقة من صور آدمية ورسوم حيوانات وطيور. وهذه الصورة في مخطوط للمنظومات الخمس للشاعر خسرو الدهلوي، كتبه الخطاط سلطان علي في سنة 900 هجرية (1496م) وهو محفوظ في مكتبة الدولة ببرلين

بعد أن هيأت شيرين جثمان خسرو لموكب الجنازة، جاءها رسول من قبل شيرويه، يبلغها هيام سيده بها وتظاهرت شيرين بالقبول، ولبست أبهى ملابسها، وتزينت بأجمل زينة لديها، فابتهج شيرويه وظن أنها رضيت به. ولما وصل الموكب إلى القبر، أدخل النعش إليه، وبقيت شيرين بمفردها في القبر إلى جانب جثمان زوجها تحرسه. ولما أقفل الباب رفعت الغطاء عن صدر خسرو وقبلت مكان الجرح، ووضعت خده واستلت خنجراً أغمدته في قلبها، ثم بقيت تحتضن حبيبها بين ذراعيها

خاتمة

يقول صاحب الشاهنامه: ينبغي لمن يطالع أحوال خسرو برويز ويقرأ أخباره أن ينفض ذيله من الدنيا الغرارة الغدارة، فلا يسترسل إليها، فإن سمها يغلب ترياقها، وآمال بنيها تنتج إخفاقها. وقبيح بالعاقل أن ينوي الإقامة في المراحل، ولو أمكن دفع طارق الحدثان، بالملك والسلطان، والتمكين والإمكان، والأنصار والأعوان، لكان خلقاً بذلك خسرو برويز الذي عم أمره طلاع الأرض، وأطاعته ملوك الشرق والغرب، وكان يحمل إليه خراج الهند والروم والترك والصين؛ وقد جاء خبر موته إلى النبي يوم صلح الحديبية مع أهل مكة

وفي وفاة خسرو يقول الشاعر:

هي الدنيا تقول بملء فيها: ... حذار حذار من بطشي وفتكي

ولا يغرركم حسن ابتسامي ... فقولي مضحك والفعل مبكي

بكسرى بروز اعتبروا فإني ... أخذت الملك منه بسيف هلك

وكان قد استطال على البرايا ... ونظم جمعهم في سلك ملك

فلو شمس الضحى جاءته يوماً ... لقال لها عتواً: أُف منك

ولو زُهر النجوم بغت رضاه ... تأبَّى أن يقول: رضيت عنك

فأمسى بعد ما ملك البرايا ... أسير الموت في ضيق وضنك!

(تم)

محمد مصطفى

أمين مساعد دار الآثار العربية