مجلة الرسالة/العدد 464/من صور الشريف

مجلة الرسالة/العدد 464/من صور الشريف

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 05 - 1942


لحية بيضاء. . .

ليت شعري ماذا كان يمكن هذا المخلوق أن يكون لو انه تعلم؟ الغالب في الظن انه لو كان تعلم الحقوق لما برع إلا في ابتكار الحيل التي تحمي اللصوص، وتأليف الحجج التي تخدع القضاة، وتدبير الخطط التي تضلل الشرط. ولو كان تعلم الطب لما اشتغل إلا بتركيب السموم، وتزوير الشهادات، وتخدير المدمنين، وإجهاض الحوامل. ولو تعلم الأدب لما نبغ إلا في قصص التجسس والتلصص والائتمار والدعارة. ولو كان تعلم الزراعة لما برز إلا في زراعة التبغ والأفيون والحشيش. ولو كان تعلم الهندسة لما افتن إلا في اختراع المخابئ السرية والمزالق الجهنمية والمفاتيح التي تتحدى كل قفل

ذلك لان كل نزعة للشر أو نزعة للشيطان إنما وجدت أصلها فيه بحكم الطينة ومقتضى الفطرة، فهو قروي أمي فقير وضيع، ولكن غرائزه الشريرة العارمة تندلع من جوانب جسمه كألسنة اللهب أو أرجل الأخطبوط فتجعل له شخصية غريبة فيها لكل ضرر مصدر، ولكل خطر اتجاه!

نشأ بين لِداته من أطفال القرية كما ينشأ الزنبور بين النحل أو الثعبان بين الحمام؛ فكان لا ينفك ضارباً هذا بعصا، أو قاذفاً ذاك بحجر، أو خاطفاً لعبة من بنت، أو سارقاً شياً من بيت! فلما جاوز حد الطفولة دخل في خدمة الفجار والجان، فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم، ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم. وهو في غضون هذا العهد (التحضيري) كان لا يفتأ يمرن ملكاته الإجرامية لحسابه الخاص، فكان يسرق من البيوت الآنية والثياب، ومن الحقول القطن والذرة، حتى صار في حد الرجال، فعد من ذؤبان القرى وغربان الأسواق؛ فكل جريمة له فيها يد، وكل سرقة له منها نصيب!

وكانت مزيته بين اللصوص التجسس والاحتيال والمفاوضة وإخفاء المسروق وتعمية الأثر، لأنه كان ضئيل الحلقة فلا يرهب بمنظره، ضعيف القوة فلا يغني بعضله. ثم تفاقم شره واستطار أداه، فكان لا يقع إلا على منكر، ولا يتقلب إلا في معصية. غير إن إجرامه ظل من النوع الحقير لضعف بنيته وضعة بيته، فلم يستطع أن يكون رئيس منسر يفرض الإتاوة بالسطوة، ويستغل اللصوص بالنفوذ؛ إنما كان أكبر همه أن يسطو في الليل على أرزاق الأرامل، ويتدسس، في النهار إلى أموال العميان، حتى انقضت شبيبته وكهولته على حال متصلة من الإثم لم تسكن جوارحه في خلالها عن الشر إلا وهو مجروح في مستشفى، أو مطروح في سجن. كل ذلك ولم يدخل في ملكه عقار، ولم يجتمع في جيبه نقد، ولم يبت في داره قوت

فلما قيده الكبر وحطمه، وعممه المشيب ولثمه، أصبح بحكم السن عاجزاً عن نقب الجدران وتسلق الدار، فأرسل لحيته شبراً تحت ذقنه، ثم ضخم العمامة، وبيض الجلباب، وأمسك المسبحة، ومشى في الأزقة الوقار والتؤدة، يتمتم بالأدعية، ويجهر بالتحيات، ويواظب على الصلوات، ويجلس على المصاطب يتحسس الأخبار، ويتسقط الأسرار؛ فإذا وقف على خلاف أو خصومة بين والد وولده، أو بين أخ وأخيه، أو بين صديق وصديقه، أو بين زوج وزوجته، اندس إليهما بالإغراء، وسعى بينهما بالنميمة، وحمل هذا على ذاك، حتى تقع الفرقة أو تحل الكارثة. فإذا انتهى الخلاف إلى المحكمة، وسوس للمتخاصمين أو لأحدهما بالحيل التي تطمس الحق أو توسع الخصومة أو تعرقل القضية؛ لأنه يزعم لنفسه العلم بالقانون والمرافعات لطول ما وقف أمام القضاء وعاش بين البوليس. أما إذا خذله الشيطان وتغلب السلام استفز بالسباب حمية بعض الشباب فيضربه، ثم تكون الترضية أو تكون القضية. فإذا تعذر الدس وتحاماه الناس عمد إلى قطعة متروكة مما يملك الغير فاحتلها واستغلها، فتنشب بينه وبين المالك معركة قضائية لا يصبر فيها صاحب الحق على بطء القضاء وتعقد الأجراء وفحش التكاليف، فيطلب مصالحة الغاصب بالنزول له عن بعض من حقه أو جزء من ماله

ذلك عمله بالنهار؛ أما عمله بالليل فصلاة العشاء حاضرة، ثم إحراق الحشيش جماعة، ثم التهجد طويلاً، ثم الهجود قليلاً. فإذا طلع الفجر الكاذب خرج إلى المسجد يهدج تحت الجدران، وعيناه تبصان في حلك الظلام بصيص الحباب؛ فإذا لقي في بعض الطريق حماراً أو عجلاً أو خروفاً أفلت من الحظيرة، امتطاه أو قاده ثم انطلق به حثيثاً في هوادي الليل إلى أقرب (مركز) من مراكز اللصوص فيتركه هناك ليصرفوه ويضيفوه إلى حسابه. ثم يعود إلى القرية وقد هتك الصباح ستر الظلام، فيأوي إلى بيته ندمان على أن فاتته صلاة الفجر مع الأمام! وفي ليلة نادية من ليالي المحاق خرج المتعبد القانت على عادته يريد المسجد. وكان الناس قد فطنوا إلى فقد الصغار من مواشيهم فأغلقوا الزرائب وأحكموا الإغلاق. فلما أرسل عينيه الثاقبتين في الخرائب والأجران فلم تقعا على حيوان مهمل أو متاع متروك، أخذ يهود في مشيه ثم وقف يفكر. وكانت نفسه الغوية قد استهواها الظلام والسكون فعض عليها وعصفت بها المغامرة، فرجع إلى داره وأخذ معولاً وعتلة ثم انحط من بعض السطوح على دار العمدة ثم شرع ينقب الجدار عن عجل السامري

دهم الشيخ في السحر وسيق في الصباح إلى مركز البوليس فحاول أن يدحض التهمة عن نفسه بانخراع متنه وابيضاض شعره وارتعاش يده فلم يوفق

ودخل المجرم السجن أشوق ما يكون إليه، وبدد الحلاق على أرضه الخشنة الغبراء، خصل لحيته الكثيفة البيضاء؛ ثم لبث فيه ما لبث، وخرج للناس يسلط عليهم النمائم، ويزرع بينهم الضغائن، ويدير فيهم المكايد، حتى سولت له نفسه بالأمس أن يخزن قمحه قبل أن تأخذ الحكومة نصيبها المفروض منه، فتجاهل السلطة، وتحدى العمدة، وضرب الحارس. ثم بات هو وأهله في سجن (المركز) ثم قدموا في الصباح جميعاً إلى المحكمة العسكرية!

تلك صورة من صور الريف الكريهة قدمناها مصغرة إلى المشتغلين بعلم النفس الجنائي لعلهم ينتهزون هذه الفرصة قبل أن تفوت، فيدرسون هذا الرجل العجيب قبل أن يموت!

(المنصورة)

احمد حسن الزيات