مجلة الرسالة/العدد 465/الخطاب الذي احترق بسعير الأنفاس
مجلة الرسالة/العدد 465/الخطاب الذي احترق بسعير الأنفاس
(للكاتب المجهول)
هو خطاب تلقيته من (فلانة) في سنة 1919
فما صبرُ القلب على غرام مشبوب يدوم ثلاثة وعشرين عاماً هي كألف سنة مما تعدّون؟ ما صبر القلب على (فلانة) وفي مثلها قال المجنون:
وشاب بنو ليلى وشبّ بنو ابنها ... وأعلاق ليلى باقياتٌ كما هيا
كان الدهر سمح في غفلة من غفلاته بأن ألقاها بعد طول الفراق، ثم استيقظ الدهر فعرفت ما لم أكن أعرف، عرفت أني لن ألقاها بعد ذلك ولو انتظرت إلى أن تشيب ناصية الزمان
فمن يبيعني مثقالاً من الصبر الجميل عساني أتناسى أحزاني وأشجاني؟
وهل يباع الصبر في هذه البلاد؟
وهل ترك الاتجار فيها بما تحدث عنه القرآن من عدس وبصل وفول مجالاً للاتجار بالصبر الجميل؟
خذوا أملاكي وخذوا حياتي في سبيل لحظة واحدة أقضيها في حضرة (فلانة) لأجدد التوبة من ذنوبي، ولأجدد العهد، إن كانت ترتاب فيما بيني وبينها من عهد
أكان ذلك اليوم آخر أيامي؟
أفي الحق أني لن ألقاها بعد الوشاية اللئيمة التي نفرتْها مني؟
دنيا من الأحلام تقوّضت في لحظة أو بعض لحظة بفضل كلمة نقلها أو اختلقها نمامٌ أثيم، فما ذنبي ولم أقل في (فلانة) غير الصدق؟
ما ذنبي ولم أقل إلا أنها كانت على تطاول الأيام أحب إلى قلبي من سائر عرائس الشعر والخيال؟
ما ذنبي ولم أوجه إليها في حياتي كلمة واحدة تجرح الذوق؟
إنما الذنب ذنب من ائتمنته فخان، وكنت أحسبه أهلاً لتلقي سرائر الروح الزين، وهل كنت أول عاشق خدعه الواشون والرقباء؟
الله يعلم كيف انخدعت، فقد حسبت أن طهارة القلب تُعدى، وظننتُ لجهلي أن في الدنيا ناساً يتذوقون أخبار الحب العفيف، ولم أكن أدري أني أكتب لنفسي صحيفة الاتهام و بريء، وكم في السجن من أبرياء!
لن أرى ذلك الوجه الأصبح بعد اليوم لأن صاحبته لا تريد أن تراني
وكيف أراها وهي تصدر أمرها المطاع بأن أرد إليها الخطاب الوحيد الذي طلَّت به قلبي سنة 1919؟
ومن يصدق يا فلانة أننا كنا رفيقين في ذلك التاريخ؟
هو خطاب أحرقته أنفاس الوجد ولم يبق منه غير أطياف، فما حرصك عليه وهو خيال في خيال؟
سأردّ ذلك الخطاب بلا تسويف
لا، لا، لن أرد ذلك الخطاب ولو قُطِّعت أوصالي، فهو الوثيقة الباقية على أنك كنت رفيقة صباي، يا مثال الشرف والطهر والعفاف
سيوضع ذلك الخطاب في كفني يوم أموت، فانبشي قبري وخذيه إن عرفت طعم الحياة بعد موتي، يا قريبة العذول الذي أفسد ما بينك وبيني، وهي أول مرة عرفت فيها عن تجربة أن الدخان القريب يُعمي العيون
ولو كنت فاجراً لعرفت ذنبي واسترحت
وهل يكون الفجور أشنع مما وقعت فيه؟
أنا أسلمت زمام أسراري لمخلوق توهمته يدرك شرف الحب، فكان منه ما كان، فمن يصلح ما بيننا وقد ضاق في وجهي صدرك الرحب، ونقلك الغضب إلى الوقوف في صف الزمان
أنا حزين، حزين، حزين
وما أحزن على نفسي، فقد شبعت من الزمان وشبع مني، ولم يبق لي ما أخاف عليه بعد أن عانيت في دهري ما عانيت، وإنما أحزن لارتيابك في أمانتي، وعنك تلقيت دروس الأمانة والصدق والوفاء
فإن فقدت عطفك فقداً أبدياً فقد خسرت بجانبه مودة ذلك العذول، وكنت أحسبه أشرف الناس، وهو لك قريب، وظلم ذوى القربى أشد من وقع الجراز المصقول كما قال بعض القدماء
الوداع، يا رفيقة صباي، وداع الزهر الظامئ لقطرات الغيث. . . أما الخطاب فقد أحرقته أنفاسي، وأما العذول فسيحل عليه غضب الله ولعنة الحب، ولن يلقى في دهره غير الشتات، وسيكون هو وأهله ومن يحيط به طعاماً لنيران الوشايات والأباطيل
الوداع، يا رفيقة صباي، وداع الطفل لأمه الرءوم، وداع الموجة المتكسرة على شاطئ الأمين، وداع الوليد للحياة وقد أعجله الموت في يوم الميلاد!!
لقيتك بعد يأس، يا رفيقة صباي، فكاد يقتلني الجنون. . .
فما الذي سيجني الواشي وقد أفسد ما بينك وبيني بكلمة أقصر من ومضة البرق وأطول من كيد الزمان؟
ومن أعجب العجب أن يكون ذلك الواشي أنضر من طلعة الصباح في عين الشريد الذي طال شقاؤه بظلمات الليل
فما معنى ذلك؟
هو الحية الملساء التي تسربت إلى رياض الفردوس لفتنة أبينا (آدم) وأمنا (حواء)
هو السم المدُوف في طيات (البرشام) الملفوف
هو العذول الذي استعاذ من شره أقطاب الصبابة والوجد والحنين
لن أراك، يا رفيقة صباي، بعد اليوم، لأن قلبك أرق من أن يحتمل فظاظة الأراجيف، ولأن لك زوجاً يؤذيه أن يكون لزوجته في العشق تاريخ
الوداع، وداع القلب الخائف لأطّياف الأمان
الوداع، وداع الجسد للروح
الوداع، وداع الشاعر لديوان من أشعار الوجدان أكلته النار في يومٍ عاصف
الوداع، وداع المحب للمحبوب على غير أمل في اللقاء
الوداع، وداع المحكوم عليه بفراق الأهل إلى أن يموت في غيابات السجون
لن نلتقي بعد اليوم، يا رفيقة صباي، إلا في الفردوس
وأين أنا من الفردوس؟
وهل لمن باح بأسرار الحب أملٌ في الجنة والرضوان؟
زعم الإنسان أنه أعظم من سائر الحيوان بفضل النطق، وبالنطق هتكت أسرار الحب، فضاعت مني رفيقة صباي، فمتى أعرف فضل الصمت؟ الوداع، الوداع، وداع الكاتب لبياض الورق وسواد المداد
الوداع، الوداع، وداع الشاعر لعباب النيل في ليلة قمراء من ليالي الصيف، وإلى غير ميعاد. . .
(الكاتب المجهول)