مجلة الرسالة/العدد 466/الزكاة

مجلة الرسالة/العدد 466/الزكاة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 06 - 1942



هي التأمين الاجتماعي من الفقر والجوع

للأستاذ عبد العليم رزق الدهشان

(إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم قدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم. ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً) (حديث)

(1) ما هو (التأمين الاجتماعي)؟ (2) أساسه (3) الفرق بينه وبين الإعانة (4) تطور فكرته واتساعها (5) التأمين ضد البطالة (6) الفكرة قديماً وحديثاً (7) المشرع الإسلامي أول من حقق الفكرة بفرضه (الزكاة) (8) مقارنة سريعة بين الزكاة وبين التأمينات الاجتماعية عامة (9) حاجتنا اليوم لضريبة خاصة تفرض لصالح الفقير.

1 - (التأمين الاجتماعي) تعبير حديث يطلقه المتشرعون على نظام من التأمين يقصد به حماية (الجماعة) ضد أخطار الطبيعة والاقتصاد التي لا يد لها فيها ولا حيلة لها لدفعها: كالموت والشيخوخة والبطالة. . . الخ. ويقصدون (بالجماعة) هنا مجموعة الأشخاص الذين اضطرتهم ظروفهم المادية إلى تكوين طبقة اجتماعية خاصة؛ ويخصصونها عادة لطبقة (العمال) لأنها الطبقة التي لا تستطيع - لفقرها - أن تدرأ عن نفسها وطأة هذه الأخطار

2 - وفكرة التأمين الاجتماعي هي فكرة التأمين العادي، فأساس كليهما الأقساط الدورية التي تدفع لضمان التعويض عن خطر متوقع. غير أن التأمين الاجتماعي يمتاز عن التأمين العادي بأنه ليس تأمين فرد لمصلحته الخاصة، ولكنه تأمين جماعة لصالح أفرادها. فهو مبني على فكرة التضامن بين أفراد الأمة، فيساهمون جميعاً - كل على قدر سعته - في دفع أقساط هذا التأمين، وتتولى الدولة جمعها منهم على شكل ضريبة أو رسم. فيصير التأمين بذلك التزاماً اجتماعياً عاماً كالخدمة العسكرية، والتعليم الإلزامي، والالتزامات الصحية وغيرها. وبهذا لا يتحمل المؤمن لمصلحته تكاليف التأمين الاجتماعي، بل يتحملها أفراد الجماعة القادرون، برغم عدم انتفاعهم بهذا التأمين

3 - ويختلف التأمين الاجتماعي عن (الإعانة) في أنه حق للعامل، له أن يطالب به بمقتضى نصوص القانون، دون أن يكون في هذا مساس بكرامته أو امتهان لآدميته، في حين أن الإعانة ليست إلا هبة لا حق له فيها؛ فهي صدقة تمنح أو تمنع بحسب رغبة المحسن، ولو كان هذا المحسن هو الدولة

4 - لهذا. . . أخذت التشريعات الحديثة بفكرة التأمين الاجتماعي، وطبقتها على كثير من أخطار النشاط الاقتصادي. وكان أول هذه المخاطر عناية منها (مخاطر الحرفة)، فأوجبت نوعاً من التأمين يقوم بدفع أقساطه أرباب الأعمال والدولة لصالح العمال ضد (حوادث العمل)

ثم اتسعت فكرة التأمين الاجتماعي، وشملت نواحي أخرى كثيرة، فظهر تامين ضد (المرض) يعطي العامل الحق في نفقات العلاج وتعويضه عما يخسره مدة مرضه؛ وتأمين ضد (العجز) يعطيه الحق في التعويض عما يفقده من قوته أثناء العمل، وتأمين لمصلحة (الأرامل والأيتام) ضد وفاة عائلهم، وتأمين ضد (الشيخوخة) يعطي لمن بلغ سناً معينة إيراداً سنوياً

5 - ولم تقف فكرة التأمين الاجتماعي عند هذا الحد، بل اتسعت غايتها واتجهت حديثاً نحو نوع هام من التأمين، هو التأمين ضد (البطالة) ذلك الخطر الاقتصادي الذي يلحق بالعامل فيحرمه عمله، مصدر قوته، وعماد حياته، رغماً عنه، وبدون خطأ منه. . . فليس من العدل ولا من المنطق أن يوجد نظام للتأمين ضد أخطار وقتية، كالإصابة والمرض، دون أن يفرض نظام للتأمين ضد هذا الخطر الفادح. وخاصة بعد ظهور النظريات الإدارية الحديثة التي جهرت بأن وظيفة الحكومات لم تعد قاصرة على الدفاع عن البلاد وضبط الأمن في داخلها، وإنما عليها - إلى جانب هذا - واجب هامٌّ هو: (الإسعاف الاجتماعي) لحماية الشعب من التفكك والانهيار. و (البطالة) من أهم عوامل الاضطراب الاجتماعي، لأنها تخلق في نفوس العمال وفي الأمة بأسرها روح عدم استقرار، كما أنها تعطل قوى الدولة المنتجة وتزيد فيها نسبة الجرائم

لهذا - وبرغم الاعتراضات الكثيرة التي ووجه بها هذا النوع الجديد من التأمين - اضطر بعض الدول - أخيراً - إلى الأخذ به حماية للعامل المتعطل من مفاسد الفقر والجوع، وحماية لكيانها من انتشار الأفكار المتطرفة الهدامة. وكانت إنجلترا أسبقها جميعاً في هذا المضمار، ففرضته بقانون 16 ديسمبر 1911 بينما لم تأخذ به ألمانيا إلا عام 1927. وقد قدر ما دفعته إنجلترا على هذا النوع من التأمين وحده في مدة عشر سنوات من 1920 إلى 1930 بمبلغ 640 مليوناً من الجنَيهات.

والتأمين ضد (البطالة) هو أسمى ما وصلت إليه فكرة التأمينات الاجتماعية من الرقي؛ وتحمل مزاياه - التي يجنيها العامل والدولة معاً - على الاعتقاد بوجوب تعميمه بين كافة أفراد الأمة ممن هم في حاجة إليه. على أن هذا الاعتقاد لا يعدو - حتى الوقت لحاضر - طور الفكر والخيال عند الدول التي أخذت بهذا النوع من التأمين، فما زالت هذه الدول تقصره على بعض طوائف العمال في بعض الصناعات، ولم تجرؤ أكثر الحكومات مشايعة للعمال على تعميمه لأن الحكومات تراه عبئاً على الميزانية، وإثقالاً لكاهل دافعي الضرائب من الأغنياء. . .

6 - دع ذلك. . . ففكرة تعميم هذا النظام التي تشغل الآن عقول الدول، كانت قد شغلت قبلهم منذ أقدم العصور، عقول الاقتصاديين والفلاسفة.

ففكر (أرسطو) في وجوب التعاون بين أفراد الشعب أغنياء وفقراء في نظريته: (النقود لا تلد النقود). وتكلم (سان توما داكان) على وجوب التعاون بين الطرفين على إيجاد معيشة هادئة، في نظريته (الثمن العادل) وأخرج (لا سال) نظريته عن (الأجر الحديدي) قاصداً بها هذا المعنى. وتعتبر أفكار (سيسموندي) أساساً لفكرة التأمين الاجتماعي عندما تكلم عن وجوب تدخل الدولة لحماية العمال من المرض والبطالة. كما يعتبر (لبلاي) صاحب مذهب الإصلاح الاجتماعي، لأنه فكر تفكيراً جدياً في وجوب بناء الجماعة على أساس من الأخلاق والدين، لا على المادة وحدها، وقال بأن وظيفة الدولة بالنسبة لأفرادها، ووظيفة رب العمل بالنسبة لعماله، يجب أن تكون هي وظيفة رئيس العائلة بالنسبة لأفراد أسرته. كذلك نادى (البرت دي من) بوجوب الاحتفاظ بكرامة الإنسان، فلا يصح اعتباره آلة يركن إليها وقت الحاجة فقط. وقال (ليون بورجوا) بوجوب التضامن بين أفراد الدولة بناء على نظريته (شبه العقد)؛ فالإنسان يولد مديناً للمجتمع بعمل الأجيال السابقة، ووفاء دينه لا يكون إلا بمساعدته بقية أفراد الأمة. وظهرت حديثاً نظرية (الفائض الاجتماعي) لـ (أفتاليون) وفيها يقول بوجوب تدخل الدولة لتفرض على الأغنياء القيام بالتضحية لصالح الفقراء، لا على سبيل الصدقة أو الإعانة، ولكن لأن الملكية الخاصة نوع من الامتياز تمنحه الهيئة الاجتماعية للأفراد بناء على فكرة المصلحة العامة. وعند (برناردشو) في كتابه (رأس المال) أن الذهب المودع في المصارف إنما هو قيمة معادلة لما زاد على حاجة الغنى من أرغفة الخبز وقطع الجبن واللحم، وعليه إعادة بعضها لأخيه الفقير ليستعين بها على القيام بالعمل المنتج.

7 - هذه هي فكرة التأمين الاجتماعي وما بلغته من رقي، وتلك هي أحلام الفلاسفة والاقتصاديين عنها؛ فهل جحدها المشرع الإسلامي أو وقف منها موقف العاجز؟!. . .

الحق الذي لا مراء فيه أن المشرع عندما فرض الزكاة ركناً من أركان الإسلام الخمسة، منذ ألف وثلاثمائة وستين عاماً قد حقق بها أحلام هؤلاء الفلاسفة، وأوجد في حيز الإمكان والعمل ما عجزت عنه - حتى اليوم - أحدث الحكومات. بل إنه قد سما بالفكرة إلى درجة التقديس، وأنزلها منزل العقيدة والإيمان، وذكرها مقرونة بالصلاة في اثنتين وثمانين آية من القرآن، فجعل إعطاء الفقير والبائس والمحروم، ما يحتاجون إليه من غذاء وكساء ومأوى. . . عبادة لله. . .

8 - ولا شك أن (الزكاة) تأمين اجتماعي عام إجباري ضد الفقر والجوع:

(1) فهي (تأمين): لأنها مبنية على فكرة دفع أقساط حولية، لضمان التعويض عن خطر متوقع، أو واقع هو الفقر.

(ب) وهي تأمين (اجتماعي): لأنها مبنية على فكرة التضامن بين أفراد الأمة، فيساهم الأغنياء - كل بحسب ثروته - في دفع أقساطها لصالح الفقراء

وقد حدد الشرع فيصلاً بين الغنى والفقر بأشياء خمسة: منزل للسكنى، وملابس عادية ضرورية، وغذاء يوم كامل؛ وقال البعض شهراً: ودابة للركوب، وسلاح للجهاد. . . فمن زاد ماله على هذه الخمسة فهو غني تجب عليه الزكاة فيما زاد، ومن نقص ماله عنها، فهو فقير تجب له الزكاة

(ج) وهي تأمين (عام): لأنها لم تفرض لصالح فئة معينة أو طبقة معينة، ولكنها فرضت لصالح كل شخص اضطرته الظروف فأحوجته، سواء أكان عاملاً أم غير عامل.

(د) وهي تأمين (إجباري): لأنها واجب محتم على الأغنياء لصالح الفقراء، وعلى الحكومة أن تتقاضاها طوعاً أو كرهاً، حتى قال عنها الخليفة الأول (أبو بكر): (والله لو منعوني غفال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه)؛ وقد قاتلهم فعلاً. . .

وبهذا تمتاز عن التأمينات الاجتماعية الحديثة التي بقيت اختيارية في كثير من الدول فرنسا. . .!!

(هـ) وهي - أخيراً - تأمين ضد (الفقر والجوع): فهي لا تقتصر على نوع معين: كالإصابة، أو المرض، أو العجز، أو الشيخوخة؛ ولكنها تشمل هذا جميعاً، كما تشمل (البطالة) كسبب أساسي للفقر والجوع، بل وتمتد إلى الأخطار الطارئة، حتى تشمل من خانته الظروف، فأصبحت ثروته مثقلة بالديوان!!

ومن انقطعت به الطريق أثناء السفر فلم يجد ما يعينه على بلوغ الغاية أو الرجوع. . .

9 - هذه هي (الزكاة): تأمين الإسلام ضد الفقر والجوع، وركن من أركانه الخمسة، فهل فكر فيها ولاة الأمور - في دولة دينها الرسمي هو الإسلام - كحل حاسم لما يعانيه الشعب الآن من عنت وضيق وحرمان؟ أو هل فكر فيها ولاة الأمور، لا على أنها زكاة، فليست العبرة بالأسماء، ولكن بالمسميات، بل على أنها قانون يجب أن يُفرض لصالح الفقير، كما فرض في بلاد العالم المتمدينة التي تعمل حكوماتها لصالح الشعب، لا لصالح طبقة المترفين؟!

نذكر أنه في أواخر شهر مارس من العام الماضي، وجه أحد النواب سؤالاً إلى رئيس الوزراء عن (إلزام الأغنياء بدفع زكاة أموالهم. . .)؛ فأجابه دولة سري باشا بأن: (الحكومة ترى أن نظام الضرائب المتبع في مصر لا يخرج عن أن يكون صورة من صور الزكاة. . .)!! وقد قابل النواب هذه السؤال بضجة، اختلط فيها الضحك بالاحتجاج!! (هكذا): الصفحة الأولى من (أهرام) أول أبريل سنة 1941

أما ضحك نواب الأمة على هذا السؤال فإنما يذكرنا بقول المتنبي:

وكم ذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا

وأما نظام الضرائب المتبع فليس صورة من صور الزكاة في شيء. فهذه التي تجبى، لا حق للفقير فيها، ولكنه حق الدولة تتقاضاه لتصرف منه على شئونها. . . ولا يوجد لصالح الفقير، في مصر، قانون ينظم له إعانة أو يفرض له حقاً. . بل على العكس يعتبر القانون طالب الإعانة متسولاً، والمتعطل ومن لا مأوى له متشرداً ومشبوهاً، ولا جزاء ولا صلاح لهؤلاء إلا السجن! وإعانة الحكومة - إن وجدت - فهي اختيارية، ويقتصر أكثرها على مكافحة الأمراض بإنشاء المستشفيات. فليس للفقير - في هذه الدولة أيضاً - أن يرغم الدولة على أن تبنى له مستشفى!

هذا. . . في حين أن (الزكاة) هي (تمليك مال معلوم لشخص معلوم) ذلك لأنها (تأمين) لا يصرف إلا للمؤمن له فحسب، أي للفقير. وقد قال أبو حنيفة: (لا يجوز أن تصرف الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو في حج أو جهاد أو في إصلاح طرق أو سقاية أو قنطرة، أو نحو ذلك من تكفين ميت. . . الخ وكل ما ليس فيه تمليك لمستحق الزكاة). ذلك لأن التمليك ركن من أركانها. . .

فما أوسع الفرق إذن بين (الزكاة) وبين الضرائب الحالية في مصر!!

وبعد. . لقد سمعنا، أخيراً، رئيس الحكومة يتحدث عن (العدل الاجتماعي) ويقول: (إن مصر ملك مشاع لجميع المصريين) و (أن هناك حداً أدنى لمطالب الحياة يجب على المضطلعين بتبعات الحكم أن يوفروه للفقراء. . .)

وسمعنا من مدير الجمعية الزراعية - في الاجتماع الزراعي - أنه يعمل شخصيَّاً في مزارعه الخاصة على أساس من الإصلاح الاشتراكي مستلهماً في ذلك أحكام القرآن الكريم؛ كما سمعنا مدير التفتيش الزراعي يتساءل قائلاً: (لماذا لا نسن قانوناً يحمي العامل عند الضعف أو الشيخوخة، كما يحمي من يتركهم بعده من ذرية ضعاف. . . .؟!)

سمعنا هذا إلى جانب ما سمعناه من صيحات دعاة الإصلاح، ومنهم الدكتور الهراوي الذي اقترح لعلاج مشكلة الفقر في مصر فرض نظام التأمين الاجتماعي (!!) الذي فرض في أوروبا منذ سنة 1880

هل معنى هذا الاتجاه الحديث أن النور بدأ يتسرب إلى قلوبنا وأن الإيمان سيصل حتماً إلى ضمائرنا. . . وإننا سنؤمن. . . قريباً بما آمن به الأوائل منا، والمحدثون في أوروبا وأمريكا، من أن الله قد فرض على الأغنياء في أموالهم قدر الذي يسع الفقراء. . . وأنه لن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع الأغنياء؟!!

عبد العليم رزق الدهشان المحامي