مجلة الرسالة/العدد 468/من وثبات العبقرية

مجلة الرسالة/العدد 468/من وثبات العبقرية

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 06 - 1942



نظام الزكاة في الإسلام

وهل روعي فيه العدل

للسيد علي حسين الوردي

ذكرت في مقالي السابق أن الضرائب المباشرة لم تكن معروفة لدى الأمم القديمة إلا نادراً، إذ أن النضوج السياسي لم يكن قد وصل بالناس إلى تلك الدرجة التي يستسيغون فيها دفع ذلك النوع من الضرائب

لم يكن الفرد، في الزمن القديم، يعتبر الحكومة تمثله أو تمثل مصلحته العامة؛ إنما كان على العكس يرى فيها عدوه الأكبر الذي لا هم له إلا ابتزاز أمواله وامتصاص دمه من غير منفعة محسوسة تأتيه من وراء ذلك، ولهذا فقد كان الفرد يعتبر الضريبة عبئاً ثقيلاً ينبغي التهرب منه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولم يكن جباة الملك يجرءون إذ ذاك أن يفرضوا الضريبة المباشرة على أموال الناس أو إنتاجهم حيث تجبي منهم حقاً مشروعاً كما هو الحال في هذا العصر، فجل ما كان الجباة يعملونه هو أن يقفوا عند مدخل البلد ليقتطعوا من التجار والفلاحين جزءاً مما يحملون على أنها حصة الملك جزاء حمايته إياهم أو سماحه لهم بتكسبهم في البلاد التي هي تحت سيطرته

هذا ولا ريب في أن في مثل هذه الضريبة غير المباشرة ظلماً لا شك فيه، إذ أن دافع الضريبة يستطيع عادة أن يحول عبئها إلى عاتق غيره، فإذا دفع التاجر مثلاً جزءاً من بضاعته إلى الحكومة أدخل ذلك غالباً في حساب تكليف البضاعة وأضافه إلى سعر البيع ليتحمل المشترون عبء الضريبة. وفي هذا يتمثل الظلم، لأن معظم الضريبة تقع حينئذ على كواهل الفقراء إذ أنهم هم معظم المستهلكين للبضائع ملابس وطعاماً. . . هذا بينما يدفع الأغنياء قسطاً ضئيلاً من الضريبة لا يتناسب مع ثرواتهم الطائلة. ولا مراء في أن ما نراه من تعسف في هذا النوع من الضرائب، لا يوجد إلا قليلاً في الضرائب المباشرة، لأن النسبة فيها تؤخذ ضخمة من الأغنياء، صغيرة من الكادحين، وحيث يعامل فيها كل فرد حسب مقدرته وظروفه الخاصة. وقد يُعفى منها كثير من الناس الذين كانوا يدف الضرائب غير المباشرة وهم لا يشعرون

ولكن الضريبة غير المباشرة، رغم هذه المساوئ، ظلت مستعملة طيلة القرون الماضية، ولا تزال مستعملة إلى اليوم في كثير من الأمم الحديثة، وذلك لسهولة جبايتها وقلة التكاليف فيها، إنما أخذت في الواقع تفقد أهميتها شيئاً فشيئاً، إذ بدأت الضرائب المباشرة تحتل مكانها، وهذا بلا شك سمو من المجتمع في أخلاقه السياسية

هذه نبذة موجزة من تاريخ الضرائب وددت أن أبين بها للقارئ شيئاً من مجرى التطور فيها حيث سار المجتمع في طريقه الطبيعي من غير تنكّب أو طفور. لكنّا إذا رجعنا إلى نظام الضريبة في الإسلام نجد ثم وثبة بذّت مجرى ذلك التطور وسارت في سبيل الكمال خطوات

لقد فرض الشارع الإسلامي أغلب صدقاته بنسبة معينة على ثروة الفرد أو إنتاجه تؤخذ منه مباشرة بعد النظر في ظروفه الخاصة وبعد استثناء حد أدنى من غير زكاة

لسنا ننكر أن من الصعب وضع حد فاصل يميز بين الضريبة المباشرة من غير المباشرة، فكثير من الضرائب التي نحسبها مباشرة لأول وهلة هي في الحقيقة غير مباشرة، لأن دافعها قد يستطيع بعد زمن تحويل عبئها إلى عاتق غيره. ولكنا على كل حال نستطيع أن نقول بأن الإسلام قد شرع في هذا الشأن شرعة جديدة لا شك في صلتها بالعدل والخير، إذ جعل الضريبة حقاً واجباً على الفرد يجب أن يؤديه للدولة بصفته عضواً فيها، وإذ أمر كذلك بأن تختلف نسبة الضريبة بين شخص وآخر نظراً إلى ما عليه الشخص من عسر أو يسر في وضعه الاقتصادي أو في إنتاجه

وهنا نصل بالقارئ إلى نقطة جوهرية من هذا الموضوع ألا وهو التفاوت في فرض الضريبة حسب تفاوت الناس في أرزاقهم وحظوظهم في الحياة. إذن يجب علينا أن نفهم أهمية ذلك في النظام الحديث إذ يعني به كتاب اليوم عناية كبرى لما له من مساس بالعدل الذي هو أحد الأركان الأربعة للضريبة المثالية، وأهم تلك الأركان على الإطلاق

لقد كانت الضريبة في الزمن القديم تجبى على السواء من جميع الناس إلا الذين يستثنيهم الملك من رجال دين أو نبلاء، فلم تكن الحكومات تعني إذ ذاك بما تعني به الحكومة الحديثة - كما ذكرنا - من تفريق في نسبة الضريبة أو إعفاء منها حسب ما يمليه العدل أو مصلحة الأمة

لقد وضع الكتَّاب المعاصرون لهذا الغرض في مسألة التفريق والإعفاء أربع قواعد فيما يخص دافع الضريبة أو ثروته:

فالقاعدة الأولى: مصدر الثروة - إذ يميز فيها بين الثروة التي تأتي صاحبها نتيجة للعمل والمكابدة، وبين التي تأتي صاحبها وهو في بحبوحة من الراحة والنعيم

هذان فلاحان مثلاً، أحدهما يملك الأرض الخصبة أو يسقي زرعه ديماً أو سيحاً، والآخر لا ينتج إلا في أسوأ الظروف من أرض ضعيفة وماء بعيد. فهل من العدل أن تفرض الضريبة بنسبة واحدة على إنتاج هذا وإنتاج ذلك؟ لابد إذن من تفريق

والقاعدة الثانية: طبيعة الثروة - إذ يميز فيها بين الثروة الصالحة التي تفيد الأمة والتي ينبغي تكثيرها، وبين غيرها من الثروات؛ وقد يفرَّق مثلاً بين إنتاج الخضر والفواكه التي يسرع إليهما الفناء، وبين إنتاج الحبوب التي يمكن خزنها وادخارها

والتفريق في هذا ضروري في العهد الذي تصعب فيه المواصلات وتقل فيه وسائل الخزن المبرَّدة، حيث يجب على زارع الثمار أن يبيع ثماره في أوانها المناسب، وإلا خسر مجهوده وخسر فوق ذلك الضريبة التي دفعها إذا كانت مفروضة عليه

والقاعدة الثالثة: مآل الثروة ومصيرها - هل تصرف في إطعام العائلة والضيوف وفي الإحسان، أم تبذَّر هنا وهنالك على موائد الخمر والميسر، أو تكدس قناطير مقنطرة من غير تنمية أو إنتاج؟

والقاعدة الرابعة: هي أن ينظر إلى حالة الشخص (دافع الضريبة نفسه): أمتزوِّج هو أم أعزب؟ أمدين أم دائن؟. . . الخ

هذه هي الأسس التي وضعها الكتاب المحدثون في تحري العدل والصالح العام عند فرض الضريبة إذ يفرَّق بين إنتاج وإنتاج وبن ثروة وثروة. ولكن يجب ألا يغرب عن بالنا أنه لم تصل اليوم أية دولة على وجه الأرض إلى تطبيق هاتيك الأسس جميعاً تطبيقاً تاماً، إذ أن ذلك يقتضي جهداً هائلاً ويصادف كثيراً من العقبات العملية التي تحول دون النجاح التام فيه أو التي قد تنتج من المساوي ما هو أعظم مما كان يخشى منه

إن التفريق في الضريبة خير لا مرية فيه، ولكن من أين لنا العبقري النزيه الذي يضع لكل حالة نسبتها العادلة. كذلك ما أعظم الصعوبة التي تعانيها الإدارة إذ ذاك - ارتباكاً وتعقيداً، وهؤلاء الطامعون الماكرون من موظفين في الضريبة أو دافعين سيجدون في هذا الوضع المعقد أعظم الفرصة لغشهم أو تهربهم من دفع بعض الضريبة أو كلها. ويظهر من هذا أن المشرع الحديث أصبح بين نارين بين سوء الظلم في عدم التفريق، وبين الصعوبة والارتباك في إدارة الضرائب عند التفريق إذ يكثر الاختلاس والروغان. وبذا يتضح السبب في قلة اندفاع القوم في هذا السبيل، إذ نجد التفريق مهملاً في الأمم الحديثة أحياناً

هذا مجمل الوضع كما نراه اليوم في العالم المتمدن، أما إذا رجعنا ببصرنا إلى الدولة الإسلامية فقد تأخذنا الدهشة لما نرى فيها من اهتمام جدي بهذه المسألة فقد ميز الإسلام إنتاج الأرض التي تسقى عذباً أو سبحاً من إنتاج الأرض التي تسقى بالدلو والقرب والساقية، حيث جعل العشر على الأولى بينما فرض نصف العشر على الأخرى وذلك لمؤونة القرب والساقية والدلاء

أما التفريق في الضريبة حسب خصوبة الأرض وكلفة الإنتاج فقد ألمح إليه محمد بن الحسن وأبو يوسف وغيرهما إذ قالا: لا يحسب العشر على نفقات البقر، أو أجرة العمال العاملين في الإنتاج

ومن هذا نستنتج أن زارع الأرض الضعيفة يؤدي زكاة أقل من غيره لأنه يخصم من إنتاجه نفقات البقر والعمال، وهي أكثر من نفقات الأرض الخصبة في ذلك طبعاً.

ويقول أبو يوسف: إنه إذا أطعم رب الأرض غيره من مزروعه أو أكل هو فليس على ذلك عشر.

وقد جعل بعض الفقهاء ربع العشر على ما تكثر مئونته من المعادن المستخرجة من باطن الأرض، أما التي تقل فيها المؤونة ففيها الخمس.

وعن علي بن أبي طالب أن الخمس في المعادن المستخرجة من أرض خراج أو عشر. ولا خمس في الفيروزج الذي يوجد في الجبال ولا في اللؤلؤ أو العنبر وكل حلية تخرج من البحر لأنها متعبة كبيرة الكلفة.

وعن أبي حنيفة في رجل مر على العاشر بمال فقال أصبت منذ شهر أو عليّ دين أو قال أديت الزكاة إلى عاشر آخر أو أديت زكاته أنا وحلف على ذلك فهو صادق.

ولا تجب الزكاة عند الشافعي إلاّ فيما زرعه الآدميون قوتاً مدخراً؛ أما البقول والخضر التي ليس لها ثمرة باقية فلا زكاة فيها

أما المواشي فلا زكاة فيها إلا إذا كانت سائمة ترعى الكلأ فتقل مئونتها ويتوفر درها ونسلها، فإن كانت عاملة أو معلوفة لم تجب فيها زكاة. وبعدُ أليس في هذا كله تفريق؟. . .

وقبل أن نختم المقال يجب ألا يفوتنا ذكر النصاب الذي يحتم الفقه الإسلامي الوصول إليه حيث تؤخذ الضريبة متصاعدة بعده، ولا ضريبة على ما دون النصاب في جميع الممتلكات والثروة. وقد جعل الإسلام لكل شيء من ذلك نصابه المعلوم، فنصاب الغنم مثلاً أربعون، والبقر ثلاثون، ومحصول الزرع خمسة أو ست، والذهب عشرون مثقالاً، والفضة مائتان. . . الخ

ولا ريب أن في هذا عدلاً، إذ يستثني به كثير من الفقراء عن دفع الضريبة، ويقع معظم ثقلها على عاتق الموسرين المترفين

لعلي بهذا قد عرضت على القارئ صورة لما كان يراعَى في ضرائب الإسلام من العدل، ولكن تذكر يا سيدي القارئ، ما قلت لك آنفاً، من أن العدل ليس وحده هو ما يلزم للضريبة المثالية من أركان، فثمة، على الأقل، ثلاثة أركان أخرى، كما وضع آدم سميث، لازمة للضريبة المثلى هي:

(1) الإنتاج (2) والملاءمة (3) ثم اطمئنان الحكومة والدافعين إلى ما يؤخذ أو يعطى. . . ولكن يا ترى هل كان الإسلام معنيّاً بجميع هذا الأركان في صداقاته؟ أجل. . . ولعلي أستطيع أن أفي ذلك بعض حقه في فرصة أخرى

علي حسين الوردي

بالجامعة الأمريكية

ببيروت