مجلة الرسالة/العدد 469/التصوير عند العرب

مجلة الرسالة/العدد 469/التصوير عند العرب

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 06 - 1942



للمرحوم أحمد تيمور باشا

للدكتور محمد مصطفى

خيل إليَّ وأنا أقرأ كتاب (التصوير عند العرب) أنني أجلس في (الخزانة التيمورية) أراقب صاحبها - رحمة الله عليه - فأراه يقوم إلى أحد الرفوف ويتناول كتاباً معيناً، من بين الكتب الكثيرة المرصوصة بعناية فائقة، ليقرأ فيه ويسجل على حواشيه ما يخطر له من آراء وأفكار. وأكاد أرى هذا الكتاب وهو يهتز بين يديه طرباً وسروراً، بل أكاد أسمع هذا الكتاب وهو يتغنى بمديح صاحبه ويفخر بين الكتب الأخرى بما خط على جوانب صفحاته من ملاحظات ترفع من قيمته في أعين العارفين. نعم. . . إن الكتب ترقص وتغني إذا هي وجدت من يعني بأمرها ويرعاها في عطف وحنان. ولو تركت (الخزانة التيمورية) وشأنها - وما فيها من عشرين ألف مجلد - لملأت جو القاهرة وضواحيها بما تتغنى به من أناشيد، تشيد فيها بذكرى صاحبها الراحل الكريم، ولكانت تجلب السلوة والعزاء إلى قلوب الكثيرين من سكان هذا القطر والأقطار الشقيقة، بل إلى قلوب أناس عديدين عصفت بهم الشدائد في تلك النواحي النائية البعيدة، ولكانت تكف عن هذا الصراخ والعويل الذي ينبعث من (قبر) شاءت الأحوال أن تظل حبيسة فيه، بعيدة عن عشاقها ومحبيها

حقاً كان المرحوم أحمد تيمور باشا صاحب (الخزانة التيمورية) ومؤلف كتاب (التصوير عند العرب) من أولئك الذين أسعدهم الدهر بأن يولدوا في وسط عائلي مولع بالأدب وقرض الشعر، فهو الذي قالت في ولادته أخته عائشة التيمورية من أبيات:

لاح السعود وأسفر التوفيق ... وتلا لنا سور العلا توفيق

وكان قد سمى عند ولادته (أحمد توفيق) ولكن لقب العائلة غلب عليه. وقامت أخته عائشة على تربيته بعد وفاة والده إسماعيل تيمور باشا، فتلقى علوم اللغة والمنطق والقراءات على فطاحل أساتذة ذلك العصر أمثال رضوان محمد وحسن الطويل والشنقيطي الكبير، وظل مثابراً على الدرس ومجالسة العلماء والأخذ عنهم، حتى أصبح الحجة في اللغة من بعدهم. وكانت داره بدرب سعادة منتدى يؤمه شيوخ الأدب واللغة للبحث والمناقشة أمثال: أحمد مفتاح، وطاهر الجزائرلي، ومحمد عبده، ويحيى الأفغاني، وغيرهم كثيرون من علماء وأدباء الشرق والغرب. وفي هذا الوسط شب على حب جمع الكتب والتفنن في اختيارها واقتنائها، حتى بلغ ما جمعه في خزانته 15. 000 كتاب في نحو 20. 000 مجلد أكثرها من المخطوطات. ويؤكد الأستاذ حسن عبد الوهاب - وقد كان على اتصال به - أن (هذا العدد من الكتب قد اطلع عليه رحمة الله وعلق عليه ملاحظات له، ما بين وفاة مؤلف أو بيان ذيول وضعت على الكتاب، أو الإشارة إلى قوة المؤلف والاعتماد عليه في النقل) مما يدل على سعة اطلاعه وحبه للآداب والعلوم والفنون.

وكان رحمه الله دقيقاً في بحوثه العلمية، متوفر النشاط، يكثر من الكتابة والتأليف. وله مقالات كثيرة في اللغة والأدب والحضارة العربية والتاريخ الإسلامي، نشرها في جرائد ومجلات عديدة: كالمؤيد والضياء والمقتطف والمقطم والأهرام والهلال والهندسة والزهراء والهداية الإسلامية. أما ما ألفه من كتب فكثير، ولم ينشر بعضها بعد، وإني أذكر البعض مما نشر منها مثل: تصحيح لسان العرب، تصحيح القاموس، نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة وانتشارها، أبو العلاء المعري، تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر، قبر الإمام السيوطي وتحقيق موضعه، وأخيراً كتابه الفذ التصوير عند العرب

وناشر هذا الكتاب - الدكتور زكي محمد حسن - غني عن التعريف، فقد تسنى لي أن أنشر على صفحات هذه المجلة حواراً علمياً بيني وبينه، قابله بما نعهده فيه من ترحاب وسعة صدر! والمؤلف والناشر يتشابهان في بعض الصفات كل على طريقته الخاصة وطريقة عنصره. فكلاهما من هواة جمع الكتب، الأول صاحب الخزانة الشهيرة في الشرق والغرب، والثاني كوَّن لنفسه مكتبة في الفن الإسلامي يتمنى الكثيرون - ومنهم كاتب هذه السطور - اقتناء مثلها. وكلاهما واسع الاطلاع، الأول يحفظ بالذاكرة ويدون ملاحظاته في (كراسات) للرجوع إليها، والثاني يعتمد في بحثه العلمي على طريقة (جذاذات الورق) - وإني أفضل الجمع بين الطريقتين. وكلاهما معتد بنفسه وبمركزه العلمي، الأول في تواضع، والثاني فيما تفرضه مقتضيات عصره من كبرياء لا ذنب له فيها

ولا غرابة إذن أن يقول الناشر في تصدير الكتاب: (إن المؤلف كان حجة في اللغة والأدب، واسع الاطلاع على كتب التاريخ والبلدان، نافذ البصيرة، دقيق الملاحظة. فكان طبيعياً أني لم أجد في متن الكتاب ما يحتاج إلى تقويم أو تصويب من الناحيتين الأدبية والتاريخية، ولكن دراسة الفنون والآثار الإسلامية لم تكن ناضجة في مصر حين كتب فصول هذا الكتاب ولم يكن المؤلف - رحمه الله - أخصائيا وثيق الصلة بالدراسات الفنية في الغرب، فدفعني هذا كله إلى الإقبال على التعليقات والدراسات الفنية مع توضيح الكتاب بالصور)

والحق يقال إن القارئ لا يدري هل هو تواضع المؤلف الذي يطغى على هذا الكتاب مع ما نراه من غزارة مادته في ناحيتي الأدب والتاريخ، أم كبرياء الناشر وما أظهر من سعة الإطلاع في تعليقاته ودراساته الفنية. وما الأدب والتاريخ سوى دعامتي الفن الإسلامي، بهما يثبت قوامه، وبدونهما تتقوض أركانه

وإني لا أجد لتوضيح ذلك أقوى مما قاله المؤلف في صلة الشعر بالفن، فهو يقول في مقدمة الكتاب: (وقد اعتمدت في كثير مما ذكرته على الشواهد الشعرية، لأني وجدت الشعر أصدق قيلاً وأفصح بياناً في هذه المواضيع، فالشاعر إذا وصف فإنما يصف شيئاً موجوداً وقع عليه نظرة فرواه لنا كما رآه، ولأنه يجتهد في تقريبه للأذهان فيصور من دقائقه في شعره ما لا تصوره عبارة أخرى، لا يقصد منها إلا رواية خبر ربما لا يهم راويه إلا ذكر جملته دون تفصيله)

وبدأ المؤلف كتابه بأنواع التصوير فذكر منها ما كان على الجدران والثياب والستور والأقداح والأواني والمصابيح والأثاث والسلاح والنقود والشارات والبنود، وفي الكتب والصحف والألواح. ثم أتبعها بذكر التماثيل على أنواعها من ثابتة ومتحركة ومصوتة بأنواع الحيل وتماثيل الحلوى والزهر والحقول واللعب وتماثيل الصبيان، وأتى بعد ذلك على ما عثر عليه من أسماء المصورين. ويقول في ذلك: (وفي هذا الفصل ما يدحض قول القائلين بقصور العرب في هذا الفن البديع)

ويقع هذا القسم من الكتاب في 114 صفحة هي متن الكتاب الذي حرره المؤلف مع الحواشي التي خطرت له. وليست قيمة هذا القسم في قلة عدد صفحاته أو كثرتها، بل فيما تحتويه هذه الصفحات من بيانات ونصوص، تدل على ما بذله المؤلف من جهود كبيرة ليجمعها من بطون الكثير من الكتب المطبوعة والمخطوطة. وليس أدل على ذلك من قول المؤلف في مقدمته: ثم لا يخفى على من عانى أمثال هذه المباحث أعتياص هذا الموضوع، والتواؤه على محاوله، لتشتته بين تضاعيف الأسفار بعد ذهاب ما كتب عنه، وجمع فيه. فلا غرو أن يعد صغيره كبيراً، ويسيره كثيراً، وألا يُستهان بما يظفر به منه، فإنه إن لم ينقع غُلَّة، ويصرح عن المحض، فلا أقل من أن يتخذ أُسًّا يبنى عليه)

وقد تحققت نبوءة المؤلف هذه واتخذ الكتاب أُسًّا وبُني عليه، وجاءت تعليقات الناشر ودراساته الفنية متممة لهذا (الصغير الكبير، واليسير الكثير) فرد النصوص إلى مصادرها، ووضح الكتاب بالصور، وعمل على إعداد فهرس هجائي طويل لمتن الكتاب وما كتبه من تعليقات وما رجع إليه من مصادر، وإني أشاركه رجاءه في أن يقبل المؤلفون على عمل مثل هذا الفهرس فيما يكتبون وينشرون

ولعل الناشر ظن أن ذكرى مؤلف الكتاب لا تزال حية في قلوب أفراد الجيل الحاضر، فرأى أن ذلك قد يعفيه من الترجمة له، على غير المألوف في نشر المخطوطات. وقد كنا نود لو أن الناشر كان قد افتتح هذا السفر الجليل بترجمة وافية لمؤلفه - رحمه الله - يجمع فيها شتات ما قيل وكتب عنه، لتبقى ذكراه خالدة مع كتابه، لنا وللأجيال القادمة. وإني أرجو أن يحقق الناشر هذه الرغبة إذا أُتيح له أن ينشر من هذا الكتاب طبعة ثانية

وتكلم الناشر في تعليقاته (ص 119 وما بعدها) عن موضوع (حكم التصوير في الإسلام) وأراد أن (يفند الحجج التي يسوقها أصحاب القول بأن التصوير لم يكن مكروها في فجر الإسلام). فحلل هذه الحجج تحليلاً علمياً ورد عليها. وقد تكون لي عودة لمناقشة هذا الموضوع في مقال آخر

وقد توخى الناشر الدقة التامة في تعليقاته وفي توضيح ما نشره من الصور؛ وليس أدل على ذلك من صورة لشخص على دعامة وجدت مدفونة تحت قاعة العرش في قصر الجوسق بمدينة سامرا، وصفها الناشر: (ص 143 وحاشية 1) بأنها لامرأة (تحمل على كتفيها عجلاً)؛ ثم قال في الحاشية: إن (أكبر الظن أن هذا الرسم توضيح لقصة فتنة محظية بهرام جور) وبعد أن سرد هذه القصة اختتم الحاشية بقوله: (ويرى القارئ صورة لهذا المشهد العجيب في مخطوط من المنظومات الخمسة للشاعر نظامي، كتب في تبريز للشاه طهماسب)؛ وقد بدا للناشر بعد ذلك أن يغير رأيه في شرح هذه الصورة فقال: (ص 253 وحاشية 1) إن هذا النقش (قد يمثل سيدة تحمل فوق كتفيها عجلاً، فيكون ذلك توضيحاً لقصة فتنة محظية بهرام جور)؛ وبعد أن تكلم باختصار عن هذه القصة قال: (ولكن الحق أننا لا نستطيع أن نجزم تماماً بأن الرسم يمثل سيدة وليس رجلاً، وبأن الحيوان المحمول عجلاً لا خروفاً؛ وإذا كان من المحتمل جداً أن يكون المقصود رسم رجل يحمل خروفاً فإن المنظر لا يكون من قصة محظية بهرام جور، بل يكون منظراً مسيحياً يمثل قصة الراعي الصالح)؛ وفي الحاشية روى هذه القصة وجاء بمراجع قيمة لبعض صور الراعي الصالح

والحق يقال أنه لا يمكن للقارئ أن يجزم بأي شيء من هذه الصورة وهي في حالتها الراهنة، والناشر على حق في كلا التفسيرين، ولكن إذا تأملنا الرسم الذي حاول فيه الأستاذ هرتزفلد (شكل 65 ص 88 من المرجع الذي ذكره الناشر) أن يرجع هذه الصورة إلى أصلها مع مقارنتها بمثيلاتها على جدران قصر الجوسق بسامرا، أمكننا أن نتبين أنه لامرأة تحمل على كتفيها عجلاً، وأن نستبعد قصة الراعي الصالح البيزنطية الأصل، لما نراه في الصورة من التأثير الساساني الشديد، ولمشابهة صورة المرأة فيها من حيث الرسم والملابس لصور الآلهات على تيجان أعمدة قصر الملك خسرو الثاني الساساني. وكذلك لم يذهب الناشر بعيداً في ظنه أن هذه الصورة تمثل الراعي الصالح إذ لا يبعد - كما أثبت الأستاذ هرتزفلد ذلك في ص 89 من المرجع السابق - أن تكون الصورة البيزنطية للراعي الصالح وعلى كتفيه الخروف قد أوحت للفنان الساساني أن يستبدل بالرجل امرأة وبالخروف عجلاً، فيمثل في صورته هذه (فتنة) محظية بهرام جور، وهي تحمل العجل على كتفيها، كي تتفق الصورة مع القصة الساسانية

ولاشك أن مراجع (الفن الإسلامي) التي ضمها الناشر لما ذكره المؤلف من مراجع الأدب والتاريخ، قد جعلت لهذا الكتاب ميزة خاصة به، فصار وافياً في الغرض الذي كتب من أجله

محمد مصطفى

أمين مساعد دار الآثار العربية