مجلة الرسالة/العدد 47/الامتيازات والأدب!

مجلة الرسالة/العدد 47/الامتيازات والأدب!

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 05 - 1934


الأدب عبير الروح، وشعاع النفس، ونضح العواطف. يتأثر حتما بما ينال أولئك من تطور الحياة، وتغير الناس، وتقلب الزمن؛ فهو يطيب أو يخبث، ويضطرم أو يخبو، ويمر أو يحلو، تبعاً لما يعرض للروح والنفس والعاطفة من أحوال الضعف أو القوة، والفساد أو الصلاح، والانحطاط أو السمو.

فالأدب العربي كان صادقاً حين فاض بالبطولة، وزخر بالحماسة، وجاش بالعزة، في عهوده الأولى أيام كان يمده العرب من قوتهم بالروح، ومن سلطانهم بالنبل، ومن حريتهم بالكرامة.

والأدب العربي كان صادقاً حين لج في الضراعة، وضج بالشكوى، وأن من الألم، وتحدث عن فسوق الخُلق المنحل، وإيمان القلب المستذَل، وضلال النفس المريضة في مذاهب القِحة، في عهوده الأخيرة أيام وهنت عزائم الملوك، ووهت دعائم الملك، وتخلت يد العرب عن زمام الدنيا، فوقعت الفوضى، وحدث الخلل، ولجأ الناس بعضهم إلى الله وراء شيوخ الطرق، وبعضهم إلى الشيطان وراء قطاع الطريق!

والأدب العربي الصادق اليوم في الإبانة عن هذا الشك المخامر في قدرتنا على التفكير الأصيل، واضطلاعنا بالأمر الجليل، واستقلالنا بتبعات الرأي وتكاليف الحياة. فان اعتقادنا الإيحائي المزمن بتفوق الأوربي وامتيازه سلب من نفوسنا الثقة، ومن قلوبنا الايمان، ومن عقولنا الاصالة، ومن شعورنا السمو، وتركنا كالعبد المملوك لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه، ينقل فيما يقول عن لسانه، ويصدر فيما يعتقد عن قلبه.

فأديبنا يجهل اللغة العربية كل الجهل، ويعلم اللغة الأوربية كل العلم، لأنه إذا تكلم بها أو كتب فيها شعر بذلك الامتياز الذي يلازم أهلها في بلاد الشرق. وأديبنا يقرأ الأدب الأجنبي ويغفل الأدب العربي، لأن هذا أدب قوم كانوا يلبسون العمائم، ويأكلون بالأيدي، ويجلسون على الوسائد، ويقولون له نحن أجدادك! وذلك أدب قوم يلبسون البرانيط، ويأكلون بالشوْك، ويجلسون على الكراسي، ويقولون له نحن أسيادك.

وأديبنا يعمى عن مناظر بلده، ومحاسن طبيعته، ومفاخر قومه، ومآثر شرقه، ثم يفتح عينيه بكلتا يديه ليستشف من خلال السطور السودّ قناطر (السين) وشعاف (الألب) وخمائل (التيرول) لأن هذه ذكرها جوته ولامرتين وبيرن، وتلك إنما ذكرها البحتري والرض وشوقي!

زارني ذات يوم شاعر من شعراء الشباب، وفي يده قصيدة يريد نشرها بالرسالة، وكان موضوع القصيدة كما يقول: تصوير منظر قروي في ريف مصر: مشرق الشمس في القرية أو مغربها لا أذكر. فلما نظرت إلى الصورة - وأنا قروي - أنكرت ما رَسم فيها من الخطوط، ووضع بها من الألوان، وحشد إليها من الطبيعة. فقلت له: يغلب على شعوري أنك ترجمت. فقال وهو يعقد من التيه عنقه: ثق أنها من وحي خاطري وفيض لساني. فقلت له: إذن ما هذه النواقيس التي ترن في الأبراج؟ أفي قريتكم كنيسة؟ فقال كلا، وإنما آثرت رنين الناقوس على أذان المؤذن، لأني أجد للأجراس والأبراج من الروعة والشاعرية ما لا أجده للمئذنة والمسجد. فألطفت للفتى في الاعتراض والاعتذار مخافة أن يرميني في سره بالجمود والتأخر!

كذلك قدم إِليّ كاتب من ناشئة الكتاب قصة مصرية، سمى أشخاصها: جان، وألبير، ولورا، وهيلين. لأنه يجد هذه الأسماء في الحوار والحديث أرق وأعذب من علي، وإسماعيل، وسعاد، وفاطمة!

فالأدب المصري الحديث، كالمجتمع المصري الحديث، يقوم على موت الشخصية، وفناء الذات، ونسيان التاريخ، ونكران الأصل، فهو يستلهم المطابع الأوربية، ويخضع قريحته للقرائح الأوربية، ويعقد لسانه بالألسن الموهوبة منها، فيحكى ما تقول في لعثمة نكراء من أثر العقدة، وهو لو وضع عن كاهله نير الامتياز، وفهم هذه الكلمة المخزية على المجاز، فأخذ عن طبعه، وترجم عن طبيعته، لفجأ الغرب بأدب قدسي الإلهام، سحري الأنغام، شرقي الروح، مصري الطابع، يحل أهله من أدب العالم ما أحل أدبُ الهند إقبالا وطاغور!

إن الطبيعة المصرية أولى أن تلهم الشاعر تأمل الصحراء، وأحلام النخيل، وابتسام الصحو، لا أن تلهمه ما تلهم الطبيعة الإنجليزية من أمثال (الملاح التائه)، و (الزورق الحالم)، و (وراء الغمام)! فان الفن لا يخضع خضوع العلم للعقل المشترك والوطن العام، وإنما يخضع قبل كل شيء لطبائع الاقليم، وخصائص البيئة، ومنازع الشخص، فإذا استنزل شعراؤنا الشبابُ على خواطرهم هذا الوحي الغريب، فذلك أثر ما نشكوه من هذه العبودية العقلية التي ضربت على الآذان، وغلبت على الأذهان، وجعلتنا للأجانب في كل شيء تبعاً.

فمتى يعلم المصري أن له مجداً يجب أن يعود، ووطناً ينبغي أن يسود، وصوتاً يحق أن يسمع، وأدباً يصح أن يحتذى، وتاريخاً يليق أن ينشر، وحقاً على أرضه تؤيده الطبيعة ويقره القانون ولا ينكره عليه إلا جبنه وذله؟!

أحمد حسن الزيات