مجلة الرسالة/العدد 472/غراب وطفل!

مجلة الرسالة/العدد 472/غراب وطفل!

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 07 - 1942


حادثان وقعا في نهار يوم وليلِه، لَها بهما من لَها، وتفكر فيهما من تفكر؛ وبات أثرهما الباقي يعمل في نفسي وفي رأسي ما يعمل الهم إذا جاش، والألم إذا برَّح، حتى أصبحت فإذا بي لا أجد في ذهني ما أكتبه إليك، غير أني أقص نبأ هذين الحادثين عليك.

نشب جناح أحد الغربان في مشتبك الغصون من أعالي (الكافورة)، وجهِد الطائر الأسير أن يخلص جناحه بالاضطراب والاجتذاب والخفق فما استطاع. وكان قد حط بالقرب منه غراب فهبّ ينعب نعيب المستغيث، ثم حاول أن يجتذب بمنقاره الجناح الناشب فأعياه ذلك، فارتد يثب من حوله صاعداً هابطاً وهو ينعب، حتى أقبل على صوت الاستغاثة غرابان، فحوّما هنيهة فوق أخيهما المصاب، ثم أطلقا في الفضاء نعيقهما المنذر. فلم تكن غير لحظات حتى تتابعت الغربان فكان منها على ذوائب الدوحة الفينانه عصابة، وعقدت هذه العصابة مناحة، وظلت هذه المناحة بقية النهار لا ينقطع لها صوت، ولا تفتُر بها حركة. وكأنما كانت الغربان تضرع إلى الناس أن يسعفوا أخاها المسكين بحيلهم البشرية؛ ولكن الناس كانوا قد تجمعوا على طِوارَىْ الشارع تجمع البَلَه، لينظروا إلى الحادث العجيب نظر الفضول! وقلما تجد بين البَلَه والفضول مكاناً للمروءة!

فلما دنا الليل واستيأست الغربان انصرف بعضها وبقي بعضها الآخر. ولم تقصِّر الأغربة الباقية في مواساته والترفيه عنه، حتى لقد زعم بعض أصحابنا أنه رأى غراباً يزقُه بالحب والماء. وانصرفنا نحن كذلك عن القهوة بعد موهن من الليل، وليس في نفسي غير هذا المظهر الأخوي الرائع في نوع من الطير لم يرسَل إليه رسول، ولم تُنشأ لتربيته جامعة؛ وما كنت رأيت ولا قرأت ولا سمعت من قبل ما يشبه ذلك في عالم الحيوان.

لم أكد أسكت المذياع بعد إعلانه الأنباء الأخيرة حتى سمعنا صراخ طفل حديث الولادة ينبعث في سكون الشارع على حال غير مألوفة. فأطَّلعت من النافذة فإذا الصراخ يتتابع من ركن مظلم أمام حانوت جارنا النجار. فظننت أول الأمر أن إحدى الوالدات جلست تسترفه من التعب، أو تستدني أكف المارة. وكانت امرأة من سواد الناس تمر في تلك اللحظة فعاجت بحكم غريزتها على الطفل الباكي، وجعلت تجسه بعينها ويدها، ثم صاحت تقول في ارتياع وحسرة:

الله يلعنها في كل كتاب! زِنّي وقتل؟ ثم اندفعت المرأة في طريقها تهرول وتدمدم كأنما تريد أن تنجو بنفسها عن موطن الشبهة!

ووقف عليها على الوليد المنبوذ كل سائر. وكان كل واقف يشعل ثقاباً وينظر إلى محيا الطفل البريء ثم يحوقل وينصرف.

وكان الطفل على ما فهمت من وصف الواصفين (الواصفين من الواقفين أزهر اللون جميل الصورة قد وضعته أمه (الحنون) في قفة جديدة من الخوص ملفوفاً في خرقة بالية من قماش مهلهل النسج لا نقش عليه ولا خيط فيه! ولعلها خشيت، إذا هي ألبسته بعض الثياب أن يستدل الشُّرط بها عليها! والاحتياط لسلامة الخدر المصون من سوء السماع ومض الملام فوق كل اعتبار!!

كان المارة يتجمعون على جوانب المهد الخشن والطفل يضطرب فيه بيديه ورجليه، ثم يتفرقون ولا يجرؤ أحد منهم أن يسبل غطاءه عليه، أو يمد يده إليه، كأنما هو في ذاته لعنة مجسدة تغلق بمن يمسها وتلحق بمن يقربها! والواقع أن اللقطاء أو أبناء السكك والدهاليز كما يسميهم الشرفاء، أشقياء بالولادة. وقد تشتمل الرحم الفاجرة على الشقي والشقاء في وقت معاً. فاللقيط وهو جنين يكون خطراً لا ينفك مهدداً بالعار إذا استمسك، وبالموت إذا سقط. فإذا سلم على طعن البطن باليد، وتسميم الرحم بالعقاقير، وُلد في الخفاء، وغمر بالظلام، وأحيط بالسكون، وأصبح في حجر أمه جريمة مولودة تطفئ نور البصر، وتذوي شباب القلب، وتقطع خيط الرجاء، فتحاول أن تتنصل من هذه الجريمة الواحدة، باقتراف جرائم متعددة! فإذا على سوء الولادة وجفاء المهد وقسوة الهجر، عاش موسوماً بالخزي، موصوفاً بالمهانة، لا يرتفع به بيت، ولا يشرف به منصب

يا حسرتا على اللقيط من بني آدم! يمر الإنسان بالمتروك أو الضال من جِرَاء الكلبة، أو خنانيص الخنزيرة، أو حملان النعجة، أو فراريج الدجاجة، فيؤويه إليه حتى يجد صاحبه؛ ثم يمر بالمتروك من جنسه فيشيح بوجهه وينأى بجانبه؛ لأنه إذا ضمه إليه اتهمته زوجه، وإذا أظهر العطف عليه اتهمه الناس. ومن ينكره أهله لا يعرفه أحد! ومن ضاق ذرعه بابنه لا يتسع صدره لمتبنّاه، لذلك كان الناس يمرون بالقفة المتروكة، وفيها ثمرة الحب يتضور ويبكي، فلا يجودون عليه لا بنظرة حنان، أو كلمة رثاء، أو إشارة إعجاب، أو لعنة انتقام. وخفت أن يبيت الطفل على قارعة الطريق فدعوت من حمله إلى مركز البوليس.

وأصبح الصباح فقيض الله للغراب من عالج جناحه بعود طويل من الخشب حتى خلص، وانطلق الأسير في رفاقه الأوفياء يرفه عن الجناح العليل في العشّ الناعم والفضاء الحر والإخاء الوثيق. وذهب صديقنا علي يسأل رجال الشرطة عن مصير الطفل فقيل له: منحناه اسماً من الأسماء، ونحلناه أباً من الآباء، وسجلناه مجهول الأب والأم؛ ثم أرسلناه إلى الملجأ ليعيش عمره الطويل أو القصير من غير أسرة ولا كرامة ولا ثروة ولا رجاء!

أما بعد فذلك غراب وهذا طفل! أما الغراب فلم يتركه قومه حتى أنقذوه وأخذوه؛ وأما الطفل فقد تركه أبوه لأمه، وتركته أمه للناس، وتركه الناس للقدر! فمن ذا الذي يقول بعد ذلك إن ابن آدم خير من ابن آوى، وإن بنت حواء أفضل من بنت اللبون؟ إن جد هذا الغراب هو الذي علم قابيل جد هذا الطفل أن يوارى بالدفن سوءة أخيه المقتول! وهل تجد أبلغ في تسجيل العجز على الإنسان من قول قابيل حين رأى الطائر يبحث في التراب: (يا ويلتا! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟)

(المنصورة)

أحمد حسن الزيات