مجلة الرسالة/العدد 474/ترتيب القرآن

مجلة الرسالة/العدد 474/ترتيب القرآن



للأستاذ أبو طالب زيان

(تتمة ما نشر في العدد 472)

اتفق العلماء على أن هذا الترتيب إنما يجب التزامه في كتابة المصاحف. أما في القراءة فليس بواجب يدل على ذلك حديث عائشة في البخاري حيث قالت للعراقي الذي سألها عن تأليف القرآن: (لا يضرك أية قرأت). وقد حمله جمهور المحدثين على أنه في القراءة بأية سورة أراد دون أن يلتزم الترتيب. قال ابن بطال: لا نعلم أحداً قال بوجوب ترتيب السور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ الكهف قبل البقرة والحج قبل الكهف. وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكوساً، فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها. وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر مبالغة في حفظها، وتذليلاً للسان في سردها؛ فمنع السلف ذلك في القرآن فهو حرام فيه. اهـ

والآن أعود إلى سبق النزول فأقول: لست في حاجة إلى أن أكرر أن القرآن ابتدأ نزوله من ليلة اليوم السابع عشر من رمضان للسنة الحادية والأربعين من ميلاده عليه الصلاة والسلام حيث أوحى إليه في غار حراء الذي كان يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وأن أول آيات القرآن نزلت على النبي الكريم وهو بالغار، وأن آخر آية نزلت يوم الجمعة، يوم عرفة، عام حجة الوداع. يدل على هذا ما رواه البخاري بسنده عن طارق بن شهاب عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود. قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال أي آية؟ قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي وهو قائم بعرفة يوم جمعة. ولقد روي البخاري هذا الحديث في عدة مواضع من صحيحه. ورواه أصحاب السنن إلا أبا داود. . . ولم ينزل على النبي بعدها شيء من الفرائض ولا تحليل شيء ولا تحريمه. ولم يعش النبي بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة

عن ابن عباس ومجاهد أن سورة (اقرأ) أول ما نزل من القرآن إلى قوله تعالى: (علم الإنسان ما لم يعلم) ثم نزل باقيها بعد. والجمهور على أن (الفاتحة) أول ما نزل ثم سورة (القلم) وسورة (الضحى) نزل منها أولاً إلى قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ثم نزل باقيها بعد، ولم ينزل من السور الطوال سورة بتمامها إلا سورة (الأنعام). فقد روي كثير من المحدثين نزولها جملة عن غير واحد من الصحابة والتابعين لأنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال المذاهب التي كذبت القرآن ولم يؤمن أصحابها بالبعث والنشور. وهي من المقاصد الأساسية للدين الحنيف التي لا يتوقف نزول آياتها على السؤال والحوادث أو الأسباب التي تقتضي الإنزال

ولقد رجح هذا المذهب الإمام الرازي في تفسيره الكبير والقرطبي وغيرهما من علماء التفسير، كالكشاف، والنسفي. ولم يضعفه إلا الأستاذ الألوسي في كتابه (روح المعاني) فقد أنكر نزول هذه السورة جملة وقال: كيف يمكن حينئذ أن يقال في كل واحدة من آياتها أن سبب نزولها كذا. . . ولكن إنكار الأستاذ. . . ضعيف لأن ما ذكره الجمهور في أسباب نزول آياتها بعضه لا يصح والبعض الآخر لا يدل على نزول تلك الآيات متفرقة لأن غاية ما قالوه أن تلك الآية نزلت في كذا وكذا أو في قول المشركين كيت وكيت. فإذا صح كان معناه أن تلك الآيات نزلت بعد الوقائع؛ وهذا لا يتنافى ونزولها دالة على ذلك في ضمن السورة. . .

ولقد نزل كتاب الله في تلك الفترة بين مبتدأ الوحي ومنتهاه مفرقاً إلى أجزاء كل جزء منها يسمى نجماً؛ وربما نزلت الآية المفردة وربما نزلت آيات عدة إلى عشر كما صح عند أهل الحديث فيما انتهى إليهم من طرق الرواة. فقد نزلت عشر آيات في قصة الإفك جملة، ونزلت عشر آيات من أول المؤمنين جملة، يدل على نزولها جملة ما رواه الإمام أحمد بسنده عن عمر بن الخطاب قال: كان إذا نزل على رسول الله الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: (اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا) ثم قال: لقد أنزل الله علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة. ثم قرأ: (قد أفلح المؤمنون) حتى ختم العشر. . . وصح نزول (غير أولي الضرر) وحدها، يدل على ذلك ما رواه البخاري في كتاب الجهاد من حديث البراء بن عازب قال: لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) دعا رسول الله زيداً، فجاء بكتف فكتبها. وشكا ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر).

وفي هذه الرواية إبهام وضحته الرواية التي رواها البخاري أيضاً بعدها عن سهل بن سعد الساعدي، وفيها التصريح بأن الذي نزل غير أولي الضرر وحدها.

ومن السور القصار ما كان ينزل جملة ومنها ما كان ينزل مفرقاً. ولقد كان هذا التنجيم مثاراً لعجب المشركين ومنشأ لاعتراضهم على القرآن، فقد سمعوا أن الكتب السماوية السابقة كانت تنزل على الرسل جملة واحدة كما نزلت التوراة على موسى في الألواح مرة واحدة فقالوا إذا كان القرآن قد نزل على محمد من عند الله كما يدعي فما باله لم ينزل عليه جملة واحدة كما نزلت التوراة على موسى وما باله تنزل منه الآية أو الآيات تلو الآية أو الآيات في أزمنة متطاولة؟ أليست سنة الله في إنزال الكتب واحدة؟

ألا يكون مجيئه هكذا مفرقاً دليلاً على أن محمداً يصطنعه، ثم يدعي أنه من عند الله؟

نعم!! ليست هذا الشبهة بأولى جهالاتهم؛ فقد قالوا في القرآن ما هو أبشع من هذا، وغالطوا حسهم وعقلهم وكابروا وجدانهم؛ فقالوا: (إن هذا إلا أساطير الأولين)؛ وقالوا: (أساطير الأولين اكتتبها، فهي تملي عليه بكرة وأصيلا)؛ وقالوا: (إن هذا إلا أفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون)؛ وقالوا: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات، قال الذين كفروا للحق لما جاءهم: إن هذا إلا سحر مبين)؛ وقال الوليد بن المغيرة: إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا قول البشر: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا أفك قديم). وهكذا شأن كل جهول يحكم على الأشياء بجهله، وبما يوحيه إليه فساده واستبداده، وتصوره له سخافة فكرة

ولقد جهل المشركون أن نزول القرآن منجماً أمر اقتضته حكمة الله التي سمت عن عقولهم، وضلت عنها أفكارهم؛ وأنه لولاه لما أحدث القرآن الكريم في الأمة العربية ذلك الانقلاب الخطير الذي تسري أثره في الأمم؛ فكان حداً فاصلاً بين عهدين: عهد طفولة النوع البشري، وعهد بلوغ أشده، واستكماله خصائصه التي ميزه الله بها على كثير من خلقه؛ وقد حكى الله تعالى شبهتهم هذه في سورة الفرقان بقوله: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة)؛ وفندها ورد عليهم بقوله: (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا). فبين أن حكمة تنجمه هي تثبيت فؤاد النبي عليه السلام في مواطن اللجاج والخصومة بينه وبين المكابرين من أعدائه، واقتصر في بيان حكمة التنجيم على هذه الحكمة لمناسبة المقام؛ فإن المشركين كانوا يظنون أن هذه الشبهة الواهية التي شنعوا بها على القرآن كافية في هدم دعائم الدعوة المحمدية، فعكس الله عليهم ظنهم وبين أن تنجيمه من أقوى العوامل في تثبيت قلبه، وتقوية شوكته، وإحكام دعوته. واقتصار القرآن على هذه الحكمة لا ينافي أن لتنجيمه حكماً أخرى يجتلي البصير نورها إذا تأمل في المناسبات التي نزل القرآن لأجلها، والغرض المنشود من إنزاله كله، والظروف التي أحاطت بالرسول والمسلمين حين نزوله، وإلى الباحث البيان:

الأول: أن نزوله منجماً كان يحسب الوقائع والحوادث التي كانت تحصل في المجتمع الإسلامي على عهد نزول التشريع والأسئلة والمقترحات التي كانت توجه من المسلمين أو غيرهم إلى رسول الله ، والشبه التي كانت تدور في قلوب المشركين ويظهر القول بها على ألسنتهم ومما تقتضيه حالة المسلمين في أوقات السلم من تقرير عقائد الدين وشرائعه وفضائله، وقوانينه العامة التي يراد بها تنظيم المجتمع الإسلامي وتكوين أمة فتية متمتعة بكل خصائص الأمة الحية، وحالتهم في أوقات الحرب من الحث على الجهاد والغرض الذي يجب أن يقصد به، وبيان الأحكام المتعلقة به. كتقسيم الغنائم والفرد وحكم الأسارى وغير ذلك.

الثاني: أنه نزل تدريجياً ليكون أبلغ في التحدي وأظهر لإعجاز القرآن

الثالث: أنه نزل كذلك للتدريج في تربية الأمة العربية تربية دينية وخلقية واجتماعية وإعدادها لمنزلة الخلافة في الأرض ولقيامها مقام المصلح لما فسد من عقائد الأمم وما تسفل من أخلاقها وعاداتها وتقاليدها وما اختتل من أحوالها العامة ونظمها الاجتماعية

الرابع: وليسهل حفظه وفهمه والعمل به على المسلمين وامتزاجه بدمائهم حتى يصير جزءاً من نسيجهم العقلي ليمكنهم أن يضطلعوا بأعباء الدعوة المحمدية بعد رسول الله على بصيرة وهدى وأن يسيروا في هداية الأمم على نهج واضح، ولا تبعد عنهم الغايات التي ندبوا لتحقيقها في العالم الإنساني

الخامس: وليثبت الله تعالى به فؤاد النبي في مواطن الخصومة: (كذلك لنثبت به فؤادك) رداً على قول المشركين (لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) فالآية صريحة في نزوله منجماً كان المقصود منه تثبيت فؤاد النبي عليه السلام ليتفرغ لتبليغ الدعوة المحمدية بعزيمة قوية وهمة متقدة وقلب مطمئن لا تساوره الأحزان ولا تحتل ساحته الهموم والأكدار التي تكسر شوكة العزيمة وتضعف قوة إرادة وتطفئ جذوة النشاط الملتهب وتقيد الإنسان عن السير إلى المثل الأعلى الذي يتوخاه في عمله، خصوصاً في مثل المهمة الكبرى التي يراد بها صقل طبائع النفوس وتهذيب الفطر الإنسانية وإصلاح ما فسد من أحوال الأمم، وتوجيه العالم البشري في طريق الهدى والرشاد ليصل إلى سعادة الدنيا والآخرة

والخلاصة أنك ترى مما تقدم ذكره أن تنجيم القرآن الكريم مع كونه مقتضى الحكمة الإلهية كان ضرورة حتمية لا محيص عنها، وأنه لو أنزل جملة واحدة ما أتى بالنتيجة المطلوبة منه في تلك الأمة التي كانت عريقة في الجهالة والهمجية

أما بعد فلعلي بهذه العجالة ألقيت ضوءاً على هذا البحث الذي ألفيته من المباحث الشاقة في التنقيب، الوعرة في المسالك، فجاريته على سرعته. وصادقته على علاته فطرقت حكم التنجيم، لأنها منه كالتكملة والذيل والعلة للمعلول. ولعل من الباحثين من يبحثه بحثاً غير ما بحثت، ويحرره تحريراً غير ما حررت؛ ولنا في ثقافتهم آمال كبار.

أبو طالب زيان