مجلة الرسالة/العدد 476/شعر علي بن أبي طالب

مجلة الرسالة/العدد 476/شعر علي بن أبي طالب

مجلة الرسالة - العدد 476
شعر علي بن أبي طالب
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 08 - 1942



للأستاذ محمد محمود رضوان

تمهيد

وفق الأستاذ السيد يعقوب بكر في بحثه الذي نشرته الرسالة عن شعر علي بن أبي طالب أحسن التوفيق. والحق أن هذه المسألة من المسائل المشكلة الكثيرة التي تحتاج إلى البحث والتمحيص في أدبنا العربي، وقد سبقنا المستشرقون إلى هذا النوع من البحث فجلوا كثيراً من الحقائق، وكشفوا كثيراً من الشبهات. ولولا ما يلبس آراءهم في كثير من الأحيان من تعصب تمليه النعرة الدينية، وما يجرمهم من شنآن تزكية العصبية الجنسية، لكان لبحوثهم شأن غير هذا الشأن.

وهذه المسألة - شعر علي بن أبي طالب - كتب فيها المستشرقون، وقد ناقش الأستاذ بكر في بحثه آراءهم ومن ثم اهتدى إلى رأيه الأخير. وعندي أنه أقرب إلى الحق والمعقول، وأعني به أن علي بن أبي طالب كان يقول الشعر وإن كان مقلاً، وأن بعض ما نسب إليه في المراجع العربية صحيح، وأن أكثر ما في ديوانه من الشعر مكذوب مصنوع.

لسنا نخالف الأستاذ إذن فيما وصل إليه؛ ولكن عنت لنا في بحثه بعض آراء ومآخذ نجملها فيما يلي:

الشعر المنسوب لعلي

ذكر الأستاذ جملة أشعار منسوبة إلى علي في عيون الأخبار ومعجم الأدباء ومقاتل الطالبين والعمدة وحماسة البحتري وكامل المبرد والعقد. ثم قال: (نستطيع أن نقول واثقين إن هذه الأشعار التي وجدناها هي معظم ما في هذه المراجع من الشعر المنسوب إلى علي) اهـ

وأقول إن ما رواه الأستاذ - وهو لا يعدو ثمانية وعشرين بيتاً - أقل من كثر مما نسب في المراجع العربية المعتمدة إلى علي، ولو أحصي لكان أضعاف ما روى. وأذكر على سبيل المثال ما رواه صاحب تاج العروس (ج7 ص85) أنه قال يوم خيبر:

دونكها مترعة دهاقا ... كأساً زعافاً مزجت زعاقا

وما رواه ابن هشام في المغنى. وقال السيوطي في شواهده (عزاه المصنف طالب):

فلما تبينا الهدى كان كلنا ... على طاعة الرحمن والحق والتقى

وغير ذلك كثير مما تجده في مروج الذهب والعقد وتاج العروس ونهاية الأرب، وشرح المضنون، وتاريخ ابن عساكر وكامل المبرد والتحفة الناصرية وجمهرة ابن دريد واللسان وغيرها.

ويلحق بهذا المأخذ فساد الاستدلال الذي بناه الكاتب على وجود هذه الأشعار في المراجع العربية إذ استدل بوجودها فيها ووجودها في ديوان علي على صدق نسبتها إلى علي.

أقول إن هذا استدلال فاسد إذ من البدهي أن الذي وضع ديوان علي أو جمعه قد نقل ما في المراجع العربية جميعاً منسوباً إلى علي ولعله زاد عليه. . . فليس في هذا دليل.

من أسباب الخطأ في نسبة الشعر إليه

ويرى الكاتب أن هذه الأشعار قد وضعها أناس مختلفون معظمهم من الشيعة وأنهم نسبوها إلى علي حباً فيه. . . ثم جاء جامع الديوان فجمع كل ما عثر عليه من الشعر المنسوب إلى علي الخ

وأنا مع موافقتي على هذا الرأي أرى أن هناك سبباً آخر غير مقصود في عزو كثير من هذه الأشعار لعلي، وذلك أن علياً رضي الله عنه كان كثير التمثل بشعر العرب. ومن ثم ظن الرواة أنه قائل الشعر الذي تمثل به فنسبوه له خطأ:

1 - خذ مثلاً قول الشاعر:

أفلح من كانت له مزخّة ... يزخُّها ثم ينام الفخَّة

ذكره صاحب اللسان فقال: (وفي حديث علي رضي الله عنه. . . أفلح. . . البيت) (اللسان ج4 ص10) وعبارة ابن الأثير (وفي حديث علي. . . أفلح. . . البيت) (النهاية ج3 ص187)

فأنت ترى أن البيت ورد في حديث لعلي، ومن ثم ظن الرواة أنه قائله فنسبوه إليه. . . ففي المزهر (ج2 ص206) ما نصه: (وقال ابن دريد: روي عن علي رضي الله عنه. أفلح. البيت). والذي رواه البطليموسي في (الاقتضاب ص383)

أفلح من كانت له قوصرَّة ... يأكل منها كل يوم مرَّة قال الشارح: (يروي هذا الرجز لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه) ثم ذكر البيت الذي معنا على أنه مثل هذا البيت

2 - وقال المبرد في (الكامل ج2 ص15 طبعة التجارية) (وأحسن ما سمع في هذا ما يعزى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقائل يقول هو له، ويقول آخرون قاله متمثلاً، ولم يختلف في أنه كان يكثر إنشاده:

فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا

وإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً

فأنت ترى تشابه القول على الرواة فيما كان يتمثل به

3 - وأبلغ من هذين الشاهدين ما نقله العيني عن البيت المنسوب لعلي:

أي يومي من الموت أفر ... يوم لم يقدر أو يوم قدر

أن ابن الأعرابي قال: (هو للحارث ابن المنذر الجرمي وليس لعلي رضي الله عنه، ولكنه تمثل به) (المقاصد النحوية بهامش خزانة الأدب ج4 ص447)

الزيادة فيما صح من شعره

وثم طريق آخر سلكه المزيفون على علي رضي الله عنه من الشيعة وغيرهم. ذلك أنهم عمدوا إلى البيت أو الأبيات اشتهرت نسبتها لعلي فزادوا عليها - قبلها أو بعدها - وتستطيع بقليل من النظر أن تتبين الزيادة من اختلاف النظم والأسلوب وتهافت المعنى

خذ مثلاً بيتيه اللذين أجمعت كتب الأدب على أن علياً قائلهما، بل إن المازني - وصوبه الزمخشري - لم يكن يصحح نسبة الشعر لعلي إلا هذين البيتين وهما:

تلكم قريش تمنَّاني لتقتلني ... فلا وربك ما بروا وما ظفروا

فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر

ثم ارجع إلى شرح شواهد المغنى ص176 تجد قبلهما ثلاثة أبيات وبعدهما ثمانية أبيات لا تشك بعد أن تقرأها أنها مصنوعة وترى فيها أثر الصنعة والتشيع والحديث عن المهدي المنتظر

وسوف يبعث مهدي بسنته ... فينشر الوحي والدين الذي قهروا

وسوف يعمل فيهم بالقصاص كما ... كانوا يدينون أهل الحق إن قدروا وغير ذلك كثير نمسك عن ذكره خوف الإطالة

رأي آخر في شعر علي

وثم رأي آخر أرادوا به التوفيق بين ما قاله المازني والزمخشري ويونس وغيرهم أن علياً لم يقل من الشعر إلا البيتين السالفين، وبين ما ذكره الآخرون من شعره

وقد وجدت هذا الرأي للزبيدي في تاج العروس (مادة خيس) فقد روي أن علياً بنى سجناً سماه المخيس فقال فيه:

أما تراني كيِّساً مكيَّساً ... بنيت بعد نافع مخيَّسا

باباً حصيناً وأميناً كيِّسا

قال الزبيدي: (قال شيخنا تبعاً للبدر: وهذا ينافي ما سيأتي له في ورق أنه لم يثبت عنه أنه قال شعراً. . . الخ)؛ قلت: (ويمكن أن يجاب أن هذا رجز ولا يعد من الشعر عند جماعة)

وأنت ترى أنه تخريج تافه، لأن كثيراً مما روي لعلي من الشعر، وإن كان له بعض الرجز. والبيتان اللذان سلف القول في صحته نسبتهما له من الشعر لا الرجز. هذا علاوة على أن الرجز من الشعر كما صححه جلة العلماء

تصويبات في الشعر المنسوب له

1 - نقل الأستاذ عن العمدة لابن رشيق أبياتاً لعلي قالها يوم صفين يذكر همدان ونصرهم إياه، منها:

ونادى ابن هند في الطلاع وحميراً ... وكندة في لخم وحي جذام

قلت: يلوح لي أن في هذا البيت تحريفاً كبيراً؛ وأرى أن صوابه:

ونادى ابن هند ذا الكلاع وحميراً ... وكندة في لخم وحي جذام

و (ذو الكلاع): رجل من حمير قاتل مع معاوية في صفين أخرجه معاوية حين أخرج علي سعيد بن قيس الهمداني سيد همدان؛ وأخرج معاوية أيضاً عبيد الله بن عمر بن الخطاب في حمير ولخم وجذام: (راجع مروج الذهب ج2 ص20)؛ وقد قتل ذو الكلاع في صفين

2 - ونقل عن العمدة أيضاً من شعر علي في صفين:

لمن راية حمراء يخفق ظلها ... إذا قيل قدِّمها حصينُ تقدَّما فيوردها في الصف حتى يرَدْ بها ... حياضَ المنايا تقطر الموت والدما

قلت: في هذا الشعر تحريف في موضعين: الأول في حصين والصواب: (حضين) بالضاد المعجمة، وهو تحريف واقع في أكثر كتب الأدب: كالعمدة والعقد ومروج الذهب والبيان والتبيين والتصويب عن الأمالي (ج2 ص158) وسمط اللآلي ص817، وابن عساكر ج4 ص374، وتاج العروس ج7 ص80. قال البكري في سمط اللآلي: (هو حضين بالحاء المهملة والضاد المعجمة ابن المنذر بن الحارث الرقاشي يكنى أبا ساسان، وكان رئيس بكر وحامل رايتهم يوم صفين وله يقول علي بن أبي طالب: لمن راية، البيت)

وفي تاريخ ابن عساكر ترجمة له قال فيها: (ولا أعرف من يسمى حضيناً بالضاد المعجمة والنون وغيره)

والتحريف الثاني في (حتى يرد بها): وهو ظاهر لأنه لا عامل يجزم الفعل

والبيت ورد في (العقد الفريد) ثلاث مرات: ثنتان منهما (حتى يزيرها) وواحدة (حتى يردها)؛ وكل ذلك تحريف؛ والصواب: ما في تاريخ ابن عساكر من أبيات خمسة تختلف روايتها قليلاً: وفيها (حتى يقيلها)؛ وهي كذلك أيضاً في (تاج العروس) من أبيات أربعة ج7 ص85

هذا، ورواية العمدة (راية حمراء) أصح الروايات خلافاً لسائر كتب الأدب التي ترويها (راية سوداء)، لأن راية علي بصفين كانت حمراء لا سوداء

3 - ونقل عن حماسة البحتري لعلي - رضي الله عنه -:

من أي يوميَّ من الموت أفر ... أيومَ لم يقدرَ أم يوم قُدِرْ

قلت: الرواية كذلك في مروج الذهب (ج2 ص25)

وهذا البيت من شواهد الأشموني والمغني، والنحاة يستشهدون به في باب الجوازم على النصب بلم في لغة؛ ولهم في تخريجه كلام كثير وروايتهم له (في أي يومي الخ. . .)

والبيت كما ترى من بحر الرجز، ولكن كتب الأدب تذكر معه بيتاً ثانياً من بحر الرمل وتحرف في الأول بعض التحريف لإخراجه من الرجز إلى الرمل ليتفق البيتان، فرواية العقد الفريد (طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1 - 123، وطبعة العريان 1 - 83)

أي يوميّ من الموت أفر ... يوم لا يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجي الحذر

وهي شبيهة بالرواية في ديوان علي

ولم يشذ عن ذلك - على ما أعلم - إلا النويري، فقد ذكر البيتين من الرجز فقال (نهاية الأرب 3 - 227)

من أي يومي من الموت أفر=أيوم لا يقدر أم يوم قدر

فيوم لا يقدر لا أرهبه=ثم من المقدور لا ينجي الحذر

ثم نعود إلى نسبة هذا البيت لقائله؛ فبعضهم ينسبه لعلي رضي الله عنه، وآخرون ينسبونه للحارث بن منذر الجرمي، ومن هؤلاء العلامة الأمير في حاشيته علي المغني (1 - 217) والسيوطي في شرح شواهد المغنى (231)، ويظهر أنهم نقلوا ذلك عن ابن الإعرابي الذي نسب له العيني هذا الرأي فيما ذكرناه آنفاً. أما العيني فيقول (أقول: قائله هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كذا قاله أبو عبادة البحتري في حماسته)

وقد أخطأ السيوطي، فذكر في شرح شواهد المغنى البيت - من الرجز - ثم قال إنه أول مقطوعة للحارث بن منذر الجرمي وذكر بعده أبياتاً منها

إن أخواليَ من شقرة قد ... لبسوا لي عمساً جلد النمِر

وهذه الأبيات من الرمل كما ترى. والبيت كما تذكره كتب النحاة ومنها المغنى من الرجز، فلا يكون مطلعاً لها إلا إذا رجحنا رواية العقد الفريد وديوان علي التي ذكرناها آنفاً

(بني سويف)

محمد محمود رضوان

المدرس بالمدرسة الابتدائية