مجلة الرسالة/العدد 477/من وثبات العبقرية

مجلة الرسالة/العدد 477/من وثبات العبقرية

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 08 - 1942



نظام الضرائب في الإسلام

وهل روعي فيه الوضوح والملاءمة

للأستاذ علي حسين الوردي

لقد وضع الاقتصادي الأشهر آدم سميث، كما سبق ذكره، أربع قواعد يجب أن تتوفر في الضريبة الصالحة: هي العدل والاقتصاد والوضوح والملاءمة.

أما وقد انتهينا في مقالاتنا السابقة من بحث قاعدتي العدل والاقتصاد في الضريبة، فقد بقي علينا أن نأتي إلى موضوع الوضوح والملاءمة فيها.

قاعدة الوضوح

يريد العلماء بالوضوح في الضريبة أن تكون الضريبة معينة في مقدارها وزمان جبايتها ومكانها، بحيث يكون الناس على علم من ذلك كله فلا يبقى إذن مجال للزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، مما يؤدي إلى إساءة الاستعمال والاختلاس والإرهاق، إذ يغتنم الجباة فرصة جهل الناس فيستخلصون منهم ما لاحق لهم به

والحكومات الحديثة تحرص على اتباع هذه القاعدة كل الحرص، فنجدها تنشر على الناس الميزانية العامة في رأس كل عام، وتحاول بكل وسيلة أن يطلع المكلفون على ما فرض عليهم من ضرائب لكي يعدوا أنفسهم وأعمالهم وأموالهم في سبيل ذلك، ولكي يعلموا بشيء من اليقين ما تزيد به الضريبة على كلفة الإنتاج وما ينبغي لهم من تقرير الأسعار وتهيئة العرض حسب الطلب المقبل.

ولقد قيل بهذه المناسبة إن القديم الخبيث من الضرائب خير من الطيب الجديد. ويريدون بهذا القول: أن الضريبة القديمة، مهما كانت سيئة، فقد عرفها الناس وتعودوا عليها منذ زمن طويل، ثم اطمئن المنتجون إلى آثارها فهم ينتجون بعد أن يضعوا مقدارها في حسابهم واضحاً معيناً. وإذا كان السعر من جرائها مرتفعاً علم المنتجون بما يستطيعون بها من بيع وما يأتيهم بعد ذلك من أرباح. وعلى هذا يكون ميزان العرض والطلب في الميدان الاقتصادي هادئاً، ومحتملاته المقبلة على شيء من الوضوح أما إذا وضعت الحكومة ضريبة جديدة، اختل هذا الميزان طبعاً وأخذ يترجح يمنة ويسرة، لأن المنتجين تفاجئهم الضريبة فيضطرون إلى تحملها في أرباحهم أو إلى زيادة أسعارهم بها، وفي كلا الحالتين يطرأ الارتباك على سوق البضاعة: لقلة في العرض ناتج عن ضآلة الأرباح، أو لقلة في الطلب ناتج عن ارتفاع الأسعار

هذا هو ما دعا الحكومات الرشيدة إلى الإبطاء في تبديل نظام الضرائب الجاري في بلادها وقصر التعديلات فيه على أقل حد ممكن، لأنها تعلم خطر التغييرات المتعاقبة على النظام الاقتصادي المستقر على حالة راهنة

وإذا نظرنا إلى الإسلام نجد ضرائبه على قسط كبير من الوضوح والاستقرار، ولعله قد فاق كل نظام في هذا المضمار، إذ أن رسول الله قد وضع نظاماً ثابتاً للصدقات لا يتغير على مدى الأيام، وهاهو ذا جزءاً من الفقه يتدارسه المسلمون جيلاً بعد جيل، وعندما حدثت في الإسلام أوضاع جديدة احتاجت إلى أنواع أخرى من الضرائب كما حدث في عهد عمر، وضع الفقهاء كما بينا سابقاً ضرائب جديدة أثرت من بعدهم واتبعت اتباعاً طويلاً

وكأن الإسلام قد شعر بما يشعر به علماء اليوم من أن الضريبة القديمة ليست ضريبة فشرع للناس شرعة الضرائب الثابتة، وهي ما كانت الأمم القديمة لا تعرفه ولا تهتم به

فلا ريب في أن الملك في الزمن القديم كان يبغت الناس بين كل آن وآخر بضريبة جديدة، تبعاً لما كان يشعر به من حاجة إلى مال، أو رغبة في ادخار

وبهذه المناسبة نود أن نطلع القارئ على طريقة في الجباية كانت مستعملة في الزمن القديم، ولا تزال بعض الدول اليوم تعتمد عليها أحياناً، تلك هي طريقة التوزيع ويلاحظ فيها أن الحكومة لا تعين نسبة الضريبة في قانون ثابت، حيث تؤخذ من الفرد كل سنة كما تقتضي قاعدة الوضوح إنما تعين الحكومة مقدار حاجتها من المال في رأس السنة المالية ثم تقسم هذا المقدار على الولايات لتؤدي كل منها حصتها المتناسبة من الضريبة العامة. وحاكم الولاية بدوره يفرض على أفراد ولايته ما يشاء من وزيعة، إذ هو مسؤول على وفاء ما تطلب منه الحكومة المركزية بكل وسيلة

حقاً، إن هذه الطريقة سهلة الإدارة واضحة المعالم بالنسبة للحكومة، لكن فيها ظلماً وفيها غموضاً بالنسبة لدافع الضريبة، ذلك لأنه لا يعرف مقدار الوزيعة التي تؤخذ منه كل سنة، فهي تختلف عاماً بعد عام

فإذا كانت حاجة الحكومة كبيرة في إحدى السنين، أرهق الفرد في دفع حصته من ذلك من غير اهتمام كبير في ما ينتج الفرد أو يستطيع؛ ولذلك يبقى حائراً في كل حين، لا يدري مقدار الوزيعة التي ستفرض عليه، ولا يقدر إذن أن يتضح أثرها الاقتصادي في تكاليفه المقبلة وأسعاره

أما الإسلام، فلا نعلم أنه لجأ مرة إلى مثل هذه الطريقة، وكل الذي نعرفه في هذا الموضوع، هو أنه كان يوصي عمال خراجه وصدقاته دائماً بالرفق والعدل من غير اكتراث بالمقدار الذي يستحصلونه بعد ذلك. وقد قال أحد العمال لعلي بن أبي طالب عندما أوصاه بالرفق: يا أمير المؤمنين، إذن أرجع إليك كما ذهبت من عندك (يعني من غير جباية)؛ فأجابه علي: وإن رجعت كما ذهبت. . . ويحك! إنَّا أمرنا أن نأخذ منهم العفو (يعني الفضل)

وقاعدة الوضوح هذه تكون واجبة أشد الوجوب عندما تجبى الضريبة بطريق الالتزام، لأن الملتزم الذي يتقبل جباية الضريبة على مقدار معين من المال، يرغب دائماً في أن يستفيد من غموض الضريبة، أو جهل الناس بها، وهو قد يتوخى تعمية الأمر ليتسع له مجال ابتزاز المال منهم تحت ستار من القانون!

وفي الحقيقة أن الحكومة مهما حاولت توضيح الضريبة للناس، فلا بد أن يبقى ثمة كثير من البلهاء الجاهلين

وهذه السيئة هي التي جعلت الحكومات الحديثة تتجنب - جهد الإمكان - منح الجباية إلى الملتزمين

هذا، والالتزام - فضلاً عن ذلك - مخالف لقاعدة الاقتصاد في الضريبة:

فلقد قلنا فيما مضى: إن الفرق بين ما يخرج من جيوب الدافعين، وما يدخل إلى خزينة الدولة، يجب أن يكون أقل ما يمكن، لكي يتوفر في الضريبة عنصر الاقتصاد

وفي جباية الضريبة عن طريق الالتزام، يحاول الملتزم أن يجبي لنفسه أكبر مقدار ممكن، لكي يوفر لجيبه الفرق العظيم بين ما يؤدى للحكومة وما يجبى من الناس، ونجده لذلك يعذب الناس باسم الحكومة ويرهقهم إرهاقاً وقد تضحك يا سيدي القارئ إذا علمت بما صنع عبد الله ابن العباس برجل جاء إليه فقال: أتقبّل منك الأُبُله بمائة ألف. فضربه ابن عباس مائة وصلبه حياً

من هذا نعلم إن الإسلام كان يبغض الالتزام كل البغض، ويحرمه كل التحريم. وإليك ما قال أبو يوسف في هذا الشأن يوصي به الخليفة هرون:

(ورأيت ألا تقبل شيئاً من السواد ولا غير السواد من البلاد فإن المتقبل (الملتزم) إذا كان في قبالته فضل عن الخراج عسف أهل الخراج وحمل عليهم ما لا يجب عليهم. وظلمهم وأخذهم بما يجحف بهم ليسلم مما دخل فيه. وفي ذلك وأمثاله خراب البلاد وهلاك الرعية. والمتقبل لا يبالي بهلاكهم بصلاح أمره في قبالته. ولعله أن يستفضل بعد ما يتقبل به فضلاً كثيراً، وليس يمكنه ذلك إلا بشدة منه على الرعية، وضرب لهم شديد، وإقامته لهم في الشمس، وتعليق الحجارة في الأعناق، وعذاب عظيم ينال أهل الخراج بما ليس يجب عليهم من الفساد الذي نهى الله عنه. إنما أمر الله أن يؤخذ منهم العفو، وليس يحل أن يكلفوا فوق طاقتهم. . .)

قاعدة الملاءمة

ويسميها بعض المؤلفين قاعدة الرفق والسهولة. يقول فيها آدم سميث: تجب جباية الضريبة في الزمان والمكان وبالطرق الأكثر ملاءمة للمكلف

وهذه القاعدة لم يكن معنياً بها كثيراً لدى الأمم القديمة، ذلك لأن علاقة المصلحة بين الحكومة والفرد لم تكن متبادلة

أما الحكومة الحديثة فقد بدأت تشعر بأهميتها في حياة الأمة، وبأثرها في الإنتاج العام. واليوم ينصح علماء المالية بأن الجباة يجب أن يذهبوا بأنفسهم إلى حيث يجبون الضريبة في الأماكن التي يختارها المكلف، وليس بجائز أن يتخذوا لهم المكان المطمئن ويأمرون المكلف بجلب الأموال إليهم وهم ناعمون. . .

والإسلام قد نظر في الأمر نفس هذه النظرة، فقد قال رسول الله : (لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام، ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا على مياههم وبأفنيتهم)

يقول الإمام القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 هجرية في شرح ذلك: (. . . لا ينبغي للمصدق (الجابي) أن يقيم بموضع ثم يرسل إلى أهل المياه ليجلبوا إليه مواشيهم فيصدقها، ولكن ليأتهم على مياههم حتى يصدقها هناك، وهو تأويل قوله على مياههم وبأفنيتهم)

أما وقت الجباية فيجب أن يكون في الحين الذي يستسهل فيه المكلف دفع الضريبة أو عندما تتوفر لديه النقود بعد حصاد زرعه أو بيع بضاعته

سأل عمر واليه على حمص سعيد بن عامر بن حذيم: ما لك تبطئ بالخراج؟ فأجابه أمرتنا ألا نزيد الفلاحين على أربعة دنانير فلسنا نزيدهم على ذلك ولكنا نؤخرهم إلى غلاتهم. فقال عمر: لا عزلتك ما حييت

قال الإمام أبو عبيد القاسم: (لم يأت عن رسول الله أنه وقت للزكاة يوماً من الزمان معلوماً، إنما أوجبها في كل عام مرة. وذلك أن الناس تختلف عليهم استفادة المال، فيفيد الرجل نصاب المال في هذا الشهر، ويملكه الآخر في الشهر الثاني، ويكون للثالث في الشهر الذي بعدهما. ثم كذلك شهور السنة كلها. وإنما تجب على كل واحد منهم الزكاة في مثل الشهر الذي استفاده فيه من قابل. فاختلفت أوقاتهم في محل الزكاة عليهم لاختلاف أهل الملك. فكيف يجوز أن يكون للزكاة يوم معلوم يشترك فيه الناس. . .)

حقاً لقد كان الإسلام رفيقاً بدافعي الضرائب كل الرفق موصياً بهم من أجمل الإيصاء. أنظر إلى علي بن أبي طالب يوصي عامله على مصر في أهل الخراج: (. . . فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو باله أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ئنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم. . .)

تلك تعاليم سامية بلا ريب وهي مطابقة لما تملي قاعدة الرفق والملائمة ولما يلح على إتباعه علم المالية العامة إلحاحاً.

ولا مراء في إن الإسلام قد شرع للناس شريعة الضرائب الصالحة في الزمن الذي أنغمر فيه العالم في دياجير الظلم، وانحطت فيه الروابط الاجتماعية والاقتصادية انحطاطاً عظيماً. وكأن الإسلام قد جاء بتجربة اقتصادية كبرى برهنت للناس بالبرهان الحي على أن العدل أساس الملك حقاً، وإن الرفق أولى بإنماء الجباية من التعسف والتكالب. فقد يأخذنا العجب حين نرى الجباية قد بلغت - على عهد الإسلام - مبلغاً لم يحلم به القياصرة والأكاسرة، وهم الذين كانوا يستنزفون أموال الناس بالباطل، وهم على زعمهم غانمون. بلغت الجباية على عهد المأمون - حسب قائمة أبن خلدون التي أوردها في تاريخه - ما يناهز الأربعمائة مليون درهم عدا الحيوانات والسلع والعروض، وهي أموال طائلة لا يجوز مقارنتها بعملة اليوم لأن الدرهم كان حينذاك ذا قوة شرائية كبرى.

ولا يخفى أن هذا المبلغ كان حصة الخزينة المركزية الخاصة بالخليفة، حيث تأتي إليه خالصة بعد الإنفاق على إدارة الحكومات المحلية وإعانة الفقراء فيها. هي حصة الخليفة وحده يتصرف بها كما يرى في تدبير الشؤون العامة. فيا ليت شعري كم هو مجموع الجباية العامة إذاً قبل الإنفاق!

هذا مع العلم أن أقصى ما وصل إليه مجموع الجباية العامة عند الرومان في عنفوان مجدهم لم يتجاوز الأربعمائة مليون درهم، وهم الذين كانوا في دقة القانون وبراعة الإدارة مشهورين.

أليس في هذا حجة بالغة على أن العدل أساس الملك، وأن الرفق أولى من التعسف في إنماء الجباية

كاظمية - عراق

علي حسين الوردي