مجلة الرسالة/العدد 477/نحن في صراع دائم

مجلة الرسالة/العدد 477/نحن في صراع دائم

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 08 - 1942



للأستاذ حسين الظريفي

كان يعتقد في العقل أنه ليس إلا ما تمليه علينا تجارب الحياة؛ فالطفل يولد ولا عقل له، حتى يأخذ عن الوسط ما هو فيه، ويظل رهين شروط حياته الخاصة والعامة بلا حد ولا أمد، ومن شب عن الطوق وتفرد عن المجموع فقد أوتي حظاً كبيراً

تلك كانت نظرة العلم إلى العقل من حيث يظهر ومن حيث يتطور. غير أن فقهاً تمخضت عنه بداية القرن الحديث، نظر إلى هذا العقل الذي يولد بعد الولادة ويظل محدود في نموه وسموه بين المهد واللحد؛ فأحاط به ثم تجاوزه إلى ما وراءه فأيقن أن هناك عقلاً باطناً يكمن وراء عقلنا الظاهر أورثتنا إياه قرون تتصل بأول الخليقة؛ فهو ميراث ماضينا من حيث يبدأ إلى حيث يتصل به حاضرنا الذي نحن فيه، ولا تزيد الأحقاب إلا شداً ومداً

وقد أسفرت بحوث العلم عن إثبات ما لهذا العقل الكامن من الأثر البالغ، في تلوين النزعة والفكرة والإرادة واقتيادها إلى حيث يريد، على غير شعور منا بما نفعل ومالا نفعل

إن موضع القوة في هذا العقل قائم وراء ما له من مظهر الخفاء؛ ففي غفلة عما نعيه ونسترعيه من شئوون عقلنا الشاعر، يقوم العقل الباطن بعمليات التفاعل حتى تنبعث من أعماقه كلمته الآمرة أو الزاجرة فتدين لها الجوارح. ونحن لا نعي ما يدبر ويقرر إلا ذلك الأثر الذي نقوم به، غير شاعرين بالبواعث

إن قوة العقل الباطن آتية مما يبطن في فعله وانفعاله، في ذات نفسه وفيما وراءه من عقل واع تحيط به الظروف والوقائع. فالرغبة فيه خفية يضغط عليها ما تواضع عليه الناس من عرف وتقليد. والحركة فيه قائمة دائمة ولكنها في قعر غير قريب، وما أقول باستحالة الوصول إلى قاعه البعيد. ولكن دون ذلك أهوال

هنالك حيث لا يصل سمع ولا بصر، إلا ما ندر، تزدحم الرغائب وتتصادم، ويعلو بعضها على بعض درجات وطبقات، وكل رغبة منها تريد بلوغ القمة والخروج من الزاوية إلى النافذة، لتلقى النور، وتعرب عن نفسها بأعمال الجوارح؛ ولكنها لا تكاد تصل السلم حتى تجد عليه رقيباً عتيداً يدفع بها إلى الحضيض. وهكذا تبقى الرغائب حية في القبر تتنازع وتتصارع والرقيب يأبى عليها إلا أن تنحدر إلى ما وراء مجرى الشعور، مهما أستحرَّ هناك القتل وطال عليه الأمد. وما ذلك الرقيب إلا الضمير

فالرغبة الجامحة تصدم بقوة الضمير، فيضغط عليها حتى تنحدر إلى قاع النفس وتستقر فيه، غير قانطة من بلوغ منطقة الوعي من العقل وفرض نفسها عليه، وتحريك الجوارح به وفق ما تريد.

وما دامت الرغائب محجوراً عليها في قرارة النفس، فأنها تبقى في نزاع لا يهدأ، تستنفذ فيه ما هي بحاجة أليه مما نملك من طاقة. ونحن إن لم نشعر بجلبة هذا الصراع في داخل النفس فأن تأثرنا به ولا ريب كبير. وقد تبلغ شدة التنازع بين الرغائب إلى حد تبتلع فيه كل نشاطنا، حتى نظهر وكأنا لا نملك شيئاً من قوة الاندفاع إلى العمل وتجللنا مظاهر التردد والخمول.

إن الرغبة المقموعة تريد حرية التصرف فيأبى عليها العرف الاجتماعي إلا أن تقهر، حتى إذا كثرت الرغائب المقهورة واستطال عليها الزمن بلغ التنازع فيما بينها ذروته وأصبحنا ونحن من أنفسنا في ساحة حرب تضيع فيها الجهود سدى. ذلك لأن من طبيعة الرغبة أن تملك حرية الاستمتاع بالإرادة، فإذا هي قهرت وانحدرت إلى ما وراء الشعور، اتخذت لنفسها هناك موقفاً عدائياً لكل رغبة فيه، تليدة أو جديدة؛ حتى إذا ازدادت الرغائب وتمادت على ما هي فيه من تكالب على الظهور، نشأ عندنا ما يعبر عنه بالقلق الداخلي أو النفسي، ونحن في مثل هذه الحالة لا نشعر إلا بذلك الشعور الغامض العميق الذي تسودنا فيه بلبلة الفكر فلا نعرف ما ينبغي أن يدرك أو يترك. وبهذه الحرب الدائرة بين مختلف الرغائب نستهلك الكثير مما نملك من طاقة عصبية وذهنية، فيبدو احتياجنا إلى مثل هذه الطاقة في أعمال وعينا الأخرى، ونظهر وكأنا عاجزين.

إن مجهودنا العصبي محدود بقدر، فإذا نحن لم نحسن التصرف فيه ونضعه في موضعه الذي يجدي ظهر عجزنا عما خلقنا قادرين عليه. وما استنفاد هذا المجهود في صراع الرغائب إلا كذلك الجيش الذي اقتتل أفراده قبل منازلة العدو فأبيد بأيديه، والفارق هنا أن قتال الرغائب لا يزال ولا يفتر وإنما تزيده الأيام حدة وشدة، ويختلف مصير المصاب به باختلاف قوة احتماله لهذا العبء الثقيل.

والرغبة لا تقل مهما استطال زمن جهادها وجلادها في سبيل استعلائها على أخواتها من الرغائب، ولا يدركها الفناء مهما امتد بها عهد المكوث في باطن النفس، حيث لا يصل وعي ولا شعور، وإنما تبقى في القاع تفعل فيما فيه وتنفعل به، حتى تنفجر من النفس فتثور وتظهر بأعراض قد تصل إلى حد الجنون، أو تحتال على الوعي، بالرمز تارة وبالمظهر مرة أخرى، وتخدعه عن نفسه وتظهر فيه

كل أولئك يفصح لنا عن مدى صراعنا، ويبعث فينا الرغبة في الوقوف على تطورات هذا الصراع وما يستخدم فيه من معدات النزال والقتال، ويود كل امرئ لو يعجل ببدء المعركة الفاصلة، وانتصار التفريج فيها على القمع والإرهاب

ونشير إلى أن لنا من صراع الرغائب في عقلنا الواعي مثالاً متناهياً في الصغر قد يفصح - ولو من طرف خفي - عن هول المعارك التي تدور في منطقة العقل غير الواعي، وتلقي خافت النور على ما لها من مركز ثقل فيما ندرك وما نترك. وفي الواقع أن الرغائب المتناقضة لا يندر وجودها في ساحة العقل الشاعر، فقد تتنازعنا الرغبة في الراحة وفي الاستمرار على المطالعة، ونقف لحظة قد تطول وقد تقصر بين هاتين الرغبتين حتى تتغلب الواحدة على الأخرى فنجيب تلك دون هذه؛ غير أن الشأن في صراع العقل الباطن يصل إلى مدى يضيق عن تصوره خيال الشاعر العبقري؛ ونحن بعد ذلك لا ندري من أمره شيئاً إلا من أوتي حظاً غير قليل من علم النفس الحديث

حسين الظريفي