مجلة الرسالة/العدد 479/كرري. . .

مجلة الرسالة/العدد 479/كَررَي. . .

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 09 - 1942


للأستاذ عباس محمود العقاد

وما كَررَي؟

شئ من الشرق أو من الغرب، ويشار إليه بضمير المذكر أو ضمير المؤنث، وقديم هو أم حديث؟ كثير من الناس لا يعلمون! وكان ينبغي أن يعلموا ولو بعض العلم، لأنه شئ متصل بما نحن فيه، وبما العالم كله فيه، ولو بعض الاتصال

اسم كَررَي متصل بتاريخ مصر والسودان في العصر الحديث.

ومما لا شك فيه أنه على اتصال بالحرب العالمية الحاضرة في جملة أسبابها البعيدة التي توارت الآن وراء أسبابها القريبة. فإن كانت للحرب العالمية الحاضرة، وللحرب العالمية التي قبلها أسبابٌ لها سنوات، فاسم كَررَي لا ينفصل من أسبابها الأولى أقل انفصال؛ لأن علاقته بالأطوار الأوربية أواخر القرن الماضي كأوثق علاقة تكون.

كَررَي كان له شأن في تحول المآرب الاستعمارية عند كثير من الدول التي أثارت الحرب العالمية الماضية، وعادت فأثارت الحرب العالمية الحاضرة

كان له شأن في سياسة (بين القاهرة ورأس الرجاء)، أو (بين القاهرة والكاب)

وكان له شأن في اندفاع الألمان إلى القارة الأفريقية، وفي موقف فرنسا من مراكش وأفريقية الشمالية، وفي ظهور إيطاليا على شواطئ البحر الأبيض بعد شواطئ البحر الأحمر، ثم فيما تلا ذلك في تجدد الأحلام بالدولة الرومانية

ومتى اتصل شأن كَررَي بهذا، فقد اتصل بجميع ما يخوض فيه العالم اليوم، وكان له من قبل ذلك اتصال بمصر والسودان.

كرري هو الوادي الذي انهزمت عنده جيوش الخليفة عبد الله، ودخل وادي النيل من جرائه في تاريخ جديد، ولك أن تقول: بل هو العالم كله قد دخل من جرائه في طور جديد.

وقفتُ على ساحة (كرري) في مثل الوقت الذي جرت فيه وقعته الفاصلة

كانت زيارتي للوادي في أوائل أغسطس، وكانت الوقعة في أوائل سبتمبر، قبل أربع وأربعين سنة

فالمنظر الذي رأيته هو منظر الوادي يوم الوقعة بغير كبير اختلاف: هو النهار الضاحي، وهي السحب التي تبشر وتنذر: تبشر بالمطر وتنذر بالصواعق، وكانت وما يبالي بها أحد صبيحة يومه المشهود، لأنهم كانوا يرجون ما هو أرجى من المطر، ويرهبون ما هو أرهب من الصواعق، ويستقبلون مشرقاً يعرفون ما يستقبلهم من مغربه إذا انتصروا، وما يستقبلهم منه إذا انهزموا: مجد أو موت، والفاصل بينهم وبين واحد منها بضع ساعات

وكم تصنع بضع ساعات في تواريخ الأمم؟

هناك التلال المتجهمات للشمس، أعلاها لا يعلو فوق مائة متر في الفضاء

وهناك الحجارة والحصباء، أحدث أخبارها التي تتحدث بها إليك غضبة بركان قديم!

وهناك الأخدود الذي كانوا يتوارون فيه من المستطلعين فيواريهم ويخفي آثارهم، لأن مطية الهواء لم تكن في ذلك العهد مما يكشف ذلك الخلاء، ولا أي خلاء

وهناك السكون ثم السكون ثم السكون. سكون اليوم، وسكون أمس، وسكون عام مضى، وسكون أعوام، ما عدا ذلك اليوم في ذلك العام

ولو أنك سألت (كرري) ماذا صنعت يا كرري؟ أو ماذا صُنع فيك؟ فيم تراه يجيب؟

أكبر الظن أنه يستعيدك السؤال مرات! ماذا صنعت؟ ماذا صنعت؟ لا أدري!

- لا بل صنعت كثيراً (يا كرري). . . أفلا تذكر؟ ألم يبق في ذكراك غير هذا السكون؟ ثم هذا السكون، ثم هذا السكون؟

- غضبة بركان قديم لم يغضب منذ آلاف السنين؟ أتسألني عن هذا وتلك آثاره تنبئك بغير سؤال؟

- لا. بل غضبة بركان أقرب من ذاك جداً إلى ذاكرة من يذكر، ولا أثر له فيك يغني عن سؤال! ألا تعرفه؟ ألا تعرف تلك الحمم؟ ألا تعرف تلك النيران؟

- تلك براكينكم يا صاح تسألون عنها أنفسكم وتصلون منها بحممكم ونيرانكم، وتحتفظون بآثارها وآثاركم، وتسمونها الأسماء، وإن هي إلا هواء يعبر بي كهذا الهواء

وكرري لا يقول غير هذا لسائله، إذا قال

لكن (كرري) جماد مسكين لا يعلم إلا ما يعلمه الجماد المسكين، ولم يدخل قط في علم الجماد المسكين أن براكينه صرخة في فضاء ما لم يتصل بهذا المخلوق الضئيل الذي هو نحن الآدميين! وأين غضبة ذلك البركان الذي تنبئنا به حجارة كرري من براكين هذه الأيام؟ وأين هو من معقبات ذلك اليوم الذي تقدم قبل أربعة وأربعين عاماً في خلاء أم درمان؟

ذلك بركان غضب ولم يعرف كيف يغضب. ذلك بركان حليم جد حليم. ذلك بركان يعرف نار الأرض ويعرف نار الصاعقة ولا يعرف النار التي يجمعها الإنسان في أوعية صغار، كل وعاء منها كأنه جبل من نار!

أو هو قد عرفها فمرت به كما يمر كل شئ بالجماد، وبالإنسان الذي فيه قرابة من الجماد

وغمضة العين هنا هي أولى بالنظر من فتحها في سطعة هذا الضياء، فلن ترى إن فتحت عينك في الوادي إلا يومك الذي أنت فيه، وقد تغمضها فترى أعواماً وراء أعوام

وكأني رأيت الوادي يموج بالعمائم البيض والطرابيش الحمر والقبعات الصفر والوجوه التي فيها من اختلاف الألوان كل ما في العمائم والطرابيش والقبعات

وكأني رأيت النصر يدور بين المعسكرين، فلا يدنو حتى يبتعد ولا يبتعد حتى يدنو، ولا يزال بين إقبال وأدبار، وبين طلوع وأفول في سحابة نهار

لقد كان في الميدان جيشان من الماضي والحاضر، ولم يكن به جيشان من عصر واحد. فحكم الزمن بمصير المعركة قبل أن يلتقي الجيشان

كانت الحضارة والمدفع الرشاش والأسطول الصغير في أحد الجانبين

وكانت البداوة في الجانب الذي يناضله، وليس معها من سلاح غير الحراب أو راميات بالنار تشبه الحراب، وكل أولئك من عمل الحضارة نفسها في أوان فات

وقيل إن السيف الذي شهره المهدي كان سيفاً لبعض الفرسان التيوثون في الحروب الصليبية عليه طابع شارل الخامس ثم انتقل إلى سلاطين دارفور، وهو تاريخ فيه من الحق أكثر مما فيه من الأساطير

فهذا السيف كان رمز القوة التي أعتز بها الخليفة عبد الله، فلم يزد عليه من العصر الحديث ما هو أقوى منه بكثير، إلى جانب المدفع الرشاش

لقد حارب بعد زمانه بسبعمائة عام، فأحرى ألا يصيب في غده ما لم يصيب في أمسه، وهو إذ ذاك أمضى سلاح

وأما الشجاعة فلا شجاعة فوقها، يتمناها لجيشه كل قائد في كل قتال وأما النظام فيخطئ من يحسبه لغواً في جيش الدراويش لأنهم كانوا على نظام في الحركة لا يخرج من زمام القيادة، وإن كانت القيادة نفسها مضللة الزمام

وأما الحيلة فهي ليست في ذلك الجيش بالقليلة، بل لعلها كانت وشيكة أن تفلح في يومها، لو لم يتأخر الموعد ببعض القادة عن الهجوم في حين الحاجة إليه

إنما كانت الغلبة لزمن على زمن، ولغد على أمس، وكل معركة فيها الغد والأمس قرنان متصاولان فالغد صاحب الغلبة فيها لا مراء

وكنت أقرأ عن حروب عمر بن الخطاب وأنا أطوف بين بيت الخليفة وكرري وأذكر هذا الصراع إلى جانب ذلك الصراع

أكان القدر هو الذي ساقني في تلك الفترة إلى كرري، أم هو الذهن يشتغل بالشيء في حين من الأحيان فيرد كل ما يراه وكل ما يسمع به إليه؟

ليكن هذا أو ذاك. فقد علمت شيئاً من (كرري) وأنا أنظر في حروب الفاروق مع دولتي الفرس والروم، ولم أكن لأجمع بين العبرتين لولا أن وقفت بكرري وعرضت فتوح عمر وأنا واقف هناك

إن العقيدة لتظفر بما تريد وهي مع الغد على وفاق، ولا تظفر بشيء ذي بال وهي مع الغد على عداء

ولم تكن العقيدة ناقصة في جيش الخليفة عبد الله، بل كان له حظ منها كأوفى الحظوظ، وكان الرجل من الدراويش يهجم على النار بغير سلاح ولا يبالي الموت، فقصارى جزائه من هذه الشجاعة كان أن يموت

وكانت العقيدة زاد المسلمين في جيوش عمر فشجعوا وظفروا وعاشت عقيدتهم بعد من ماتوا، لأنها كانت عقيدة يحارب معها الغد وتجري في طريق التقدم، فلا تتصارع العقيدة والغد إلا كان النصر للغد على العقيدة، ولا يتفقان ويغلبهما غالب كائناً ما كان حظه من الجند والسلاح.

عباس محمود العقاد