مجلة الرسالة/العدد 48/خولة بنت الأزور الكندي

مجلة الرسالة/العدد 48/خولة بنت الأزور الكندي

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 06 - 1934



بقلم. م. أسعد طلس

في السنة الثالثة عشرة للهجرة يزعم خليفة رسول الله أن يفتح الشام فيجمع الصحابة ويخطبهم قائلاً (. . . وإن رسول الله كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه، واختار له ما لديه، ألا وإني عازم أن أوجه أبطال المسلمين إلى الشام بأهليهم وما لهم؛ فماذا ترون؟) فلا يرى من المسلمين إلا ارتياحاً، فيعمد إلى بقية الأمصار الإسلامية من أطراف الجزيرة فيكتب إليهم بالأمر، ويستنفرهم خفافاَ وثقالاً ليجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وما هي إلا أسابيع حتى تقدم عليه الوفود في العدد العديد، والذراري والأموال، فيخرج إليهم المسلمون مستقبلين بوجوه باسمة، وقلوب جذلانة، ويعم المدينة روح مبارك، وكيف لا والمسلمون يجتمعون كلهم في صعيد واحد لنصرة دين الله، ورفعة شأو التوحيد.

وهاهي ذي حمير بدروعها الدوادية، وسيوفها الهندية، وتزحف بآلافها المؤلفة وعلى رأسها زعيمهاذو الكلاع الحميري، يكبر ويهلل والقوم من ورائه يكبرون ويهللون. وها هي ذي كتائب مذحج وطيء والأزد وكنانة بخيولها العتيقة، ورماحها الدقيقة، تؤم عاصمة الإسلام، فما أن يراهم أبو بكر حتى يخر لله شاكراً أن ألف من هذه القبائل المتنافرة أمة واحدة، نزع الله ما في قلوبهم من غل، وجعلهم بنعمته أخواناً ينصرون دينه وينشرون رسالة نبيه. في أطراف المعمورة.

اجتمعت هذه الآلاف العديدة فعسكرت خارج المدينة تنتظر إشارة خليفة رسول الله، وما أن تكاملت الوفود حتى خرج إليهم رضوان الله عليه في جمهرة من كبار الصحابة، فلما أشرف عليهم من عل ورآهم قد ملئوا السهول والجبال حتى حمد الله وقال (اللهم أنزل عليهم النصر وأيدهم، ولا تسلمهم إلى عدوك إنك على كل شيء قدير)

ثم أمر الأمراء وعقد الألوية، وأوصاهم وصيته الخالدة وفيها يقول (. . . شاورهم في الأمر، واستعمل العدل، فإنه لا أفلح قوم ظلموا، وإذا لقيتم العدو فلا تولوهم الأدبار، وإذا نصرتم على عدوكم فلا تقتلوا ولداً ولا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، ولا تغدروا إذا عاهدتم. وستمرون على قوم في الصوامع رهباناً يزعمون إنهم ترهبوا في الله فلا تهدموا صوامعهم ودعوهم. . .) فأمن القوم وهللوا فدوت بأصواتهم الجبال، ثم ساروا على يمين الله، وسار الخليفة وكبار الصحابة يودعونهم حتى ثنية الوداع.

سار القوم وكلهم أيمان وصبر، وعزيمة وحزم، وطاعة لأمرائهم، وجلد على السير، وتواد وتعاطف.

كان في هذا القوم شاب كندي ما جاوز العقد الثالث، جميل المحيا، عالم بفنون الحرب، فاتك في النزال، قوي الإيمان بنصرة الله عباده المخلصين، لا يعرف إلا الإقدام، يتقدم الجيوش والمنية مشهرة سهامها. ذلك هو الأمير (ضرار بن الأزور الكندي) الشاب الحدث الذي ما أغنى غناءه بطل في فتوح الشام إلا سيد القواد سيف الله خالداً.

وكان في الغازيات اللائي كن يتبعن هذا الجيش، كاعب عروب، ذات جمال باهر، وطرف فاتر، خرجت فيمن خرجن من عقائل حمير تأسوا الجرحى، وتعين على نصرة الحق. ولقد أبلت بلاء مغاوير الأبطال، فكان هذا الغزال الغرير ينقلب إلى أسد كاسر يصلي العدا ناراً حامية، يروع القلوب، وتجف من هوله الأفئدة، ولم لا وهي ابنة (الأزور) ذلك البطل الذي قضى بين يدي المصطفى دفاعاً عنه، وأخت ضرار صاحب فتوح الشام؟. . .

المسلمون يحاصرون دمشق وأهلها في أشد الضيق، وبينا المسلمون يكادون يظفرون بالقوم، إذا هم برسول من قائد جند أجنادين، يخبر خالداً أن الروم تجمعوا عليهم في أجنادين في عدد عديد، فيشاور خالد أبا عبيدة في ترك دمشق، فلا يرى ذلك أبو عبيدة فيقول خالد (فأرى أن ترسل إليهم كتيبة عليها قائد درب، وأرى أن ترسل إليهم يا أمين الأمة رجلاً لا يخاف الموت أبداً، خبيراً بلقاء الرجال، قد مات أبوه في القتال، فقال أبو عبيدة ومن ذلك يا أبا سليمان؟ قال هو ضرار بن الأزور بن طارق، فقال أبو عبيدة لقد صدقت ووصفت رجلاً باذلاً معروفاً).

استدعى خالدا ضراراً فقال له (يا أبن الأزور أريد أن أقدمك على خمسة آلاف، قد باعوا أنفسهم من الله عز وجل واختاروا دار البقاء والآخرة على الأولى، فقال ضرار (وا فرحتاه يا ابن الوليد، ما دخل قلبي مسرة أعظم من هذه. ثم يسير ضرار على يمن الرحمن، فلما بلغ أجنادين رأى جيش الروم ينحدر كأنه الجراد المنتشر، وهم غائصون في الدروع وقد أشرقت الشمس عليهم، فلمعت دروعهم، وخوذهم، فقال أصحاب رسول الله لضرار ما لنا والله بهم حول، فان هؤلاء جيش عرمرم، وخير لنا أن نقفل) فيكره ضرار ذلك القول ويقول (والله لا يراني الله منهزماً، ولن أزال أضرب بسيفي في سبيله وأتبع سبيل من أناب إليه، ولا أوليهم الدبر، والله يقول (ولا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله). . .) ثم تكلم رافع بن عميرة فقال (يا قوم أما نصركم الله في مواطن كثيرة وأنتم قليلو العدد؟ ألا إن النصر مقرون مع الصبر. ولم تزل طائفتنا تلقى الجموع الكثيرة، فاتبعوا سبيل المؤمنين، وتضرعوا إلى رب العالمين، وقولوا كما قال قوم طالوت (ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين). .) فيسترد القوم قواهم ويهللون ويكبرون (الله أكبر، الله أكبر، سيهزم الجمع ويولون الدبر).

التقى الجمعان وضرار يتقدم القوم وهو يرجز:

الموت حق أين لي منه المفر ... وجنة الفردوس خير المستقر

هذا قتالي فاشهدوا يا من حضر ... وكل هذا في رضا رب البشر

ثم اخترق القوم وحمل عليهم حملة نكراء فأحدقوا به، فأخذ يستصرخ قومه ويقول: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) فيهجم المسلمون ويصيب ضراراً سهم في عضده فيطمع الروم فيه ويحملون عليه فيأسروه. ويجيء خالداً الصريخ فيولي على جند دمشق ميسرة بن مسروق سيد بني عبس، ويتوجه بطليعة إلى أجنادين، وكان بين جنده فارس على جواد فاره وبيده رمح طويلة، قد تجلبب بجلابيب سود، وتلثم حتى لا يرى منه إلا الحدق، وكان يسبق القوم وخالد يعجب من أمره، فلما أن أدرك خالد المسلمين في أجنادين وجد هذا الفارس المتلثم يهبط على الروم كأنه النار المحرقة، فزعزع الكتائب وحطم الأجناد. وكان يخترق قلب خميس الروم، فما هي إلا جولة جائل حتى يخرج وسنانه ملطخ بالدماء، وقد جندل رجالاًوصرع أبطالاً. ثم يعود فيخرق القوم ثانية معرضاً نفسه للهلاك والناس أمامه مصروع أو فار. وكثر قلق المسلمين عليه وهم لا يدرون من هو_وقد ظنه بعضهم خالد فما هي إلا جولات خالد - ولما رأوا خالداً بينهم سألوه عنه فقال أن والله لأشد إنكاراً وتعجباً.

وما إن غابت الشمس ووقفت الحرب، حتى أحدق القوم بهذا الفارس وفيهم خالد يسألونه عن اسمه فلا يجيب، ثم ينتحي بخالد زاوية فيقول له: (ما سكت يا سيف الله حين سألتموني عن اسمي إلا حياء منك لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الحجال، وإنما حملني على ذلك أني محرقة الكبد، زائدة الكمد. فقال: من أنت؟ قالت: خولة بنت الأزور أخت ضرار أسير الروم، أتاني آت بخبر أخي فركبت وفعلت ما فعلت.).

أشرقت الشمس فجدد المسلمون عزائمهم وكروا على القوم وحملوا حملة عظم أمرها على الروم، وكانت خولة تجول في كل مكان تطلب أخاها وهي لا ترى له أثراً ولا يراه أحد من المسلمين فيعم القوم حزن شديد وتبكيه بقولها: (يا ابن أمي! ليت شعري في أي البيداء طرحوك، أم بأي سنان طعنوك، يا أخي، أختك لك الفداء. . . ليت شعري، أتراني أراك بعدها أبداً؟ فقد تركت في قلب أختك جمرة لا يخمد لهيبها ولا يطفأ، فعليك مني السلام إلى يوم اللقاء). فبكي القوم وبكي خالد لحالها. وبينا المسلمون في شدة واضطراب إذا هم بمن يخبرهم بأن الروم أخذوا ضراراً إلى صاحب حمص لينفذه إلى الملك، ففرح خالد وتهلل وجهه، وشكرت خولة الله، فدعا خالد رافع بن عمرة الطائي لينفذه إلى حمص فسار خالد في مائة منهم خولة، فما وصل القوم قرب حمص حتى كمنوا، فبينا هم كذلك إذا بنفر أقبلوا، فنبه رافع قومه، فلما قاربوهم كر عليهم رافع فإذا فيهم ضراراً فتجالد الفريقان حتى أنقذ ضراراً، فخرت خولة لله شكراً وشكر خالد لرافع بلاءه.

هذا موقف من مواقف بسالتها الخالدات، وما موقفها يوم أسر النساء في يوم صحورا والناس يغزون الشام بالأمر الذي ينسى فقد ذكر الطبري أنها أسرت في فريق من نسوة حمير. فجمعتهن وخطبتهن تستحثهن على الثورة على هؤلاء الأعلاج، وقالت (يا بنات حمير، وبقية تبع، أترضين لأنفسكن علوج الروم، وأن يكون أولادكن عبيداً لأهل الشرك، فأين شجاعتكن التي تتحدث بها عنكن أحياء العرب، ولا أراكن إلا بمعزل عن ذلك، وإني أرى القتل عليكن أهون من هذه المصائب، وما نزل بكن من خدمة الروم الكلاب) فقالت عفراء بنت غفار الحميرية (صدقت والله يا بنت الأزور، نحن والله في الشجاعة كما ذكرت، وفي البراعة كما وصفت، لنا المشاهد العظام، والمواقف الجسام. ولقد اعتدنا ركوب الخيل، وهجوم الليل. غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت، ولقد دهمنا العدو على حين غرة، وما نحن إلا كالغنم بدون سلاح) فقالت خولة (يا بنات التبابعة، خذوا أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب، نحمل بها على هؤلاء، فلعل الله ينصرنا فنستريح من المعرة) فقالت عفراء (والله ما دعوت إلا ما هو أحب إلينا) ثم تناولن الأعمدة وتقدمتهن خولة وهي تقول لهن لا ينفك بعضكن عن بعض، وكن كالحلقة الدائرة، وأوسعن أرجل أفراس القوم ضرباً، ولا تتفرقن فيقع بكن التشتيت، ثم هجمت وهي تقول:

نحن بنات تبع وحمير ... وضربنا في القوم ليس ينكر

لأننا في الحرب نار تسعر ... اليوم تسقون العذاب الأكبر

وما هي إلا جولات حتى خلصن إلى المسلمين.

هذان موقفان من مواقف البطولة في هذه المرأة العربية المسلمة ولقد كان لها رضوان الله عليها مواطن أخر غر صالحات. جعل الله منها أسوة حسنة لمرأة اليوم، هداها الله أقوم طريق.

م. أسعد طلس