مجلة الرسالة/العدد 480/سقوط بولندة

مجلة الرسالة/العدد 480/سقوط بولندة

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 09 - 1942



للشاعر (توماس كامبل)

للأستاذ محمود عزت عرفة

انطوت ثلاثة أعوام كوامل على حادث اجتياح (بولندة) الذي اندلعت بسببه نيران هذه الحرب القائمة؛ وفي الواقع أن بلداً من البلدان لم يُمَن بمثل ما مُنيتْ به (بولندة) من عدوان جاراتها المتتابع عليها. . . ففي منتصف القرن الثامن عشر - وكان نظام الإقطاع إذ ذاك يفتك بعوامل الاستقرار والهدوء فيها - أحست الدول الطامعة في امتلاكها - لأول مرة - بسنوح الفرصة التي طال ارتقابها؛ فاقترح فردريك الأكبر ملك بروسيا على كل من النمسا وروسيا الاشتراكَ معه في اجتياح هذه البلاد. وتم ذلك في عام 1772م، حيث اقتسم الجميع ثلث مساحتها، في حين وضعوا لسائرها استقلالاً اسميَّاً، وتركوا السلطة الحقيقية في يد معتمد روسي يقيم في (وارسو).

وبعد عشرين عاماً من هذا التاريخ، اتجهت أنظار أوربا جميعها إلى فرنسا وثورتها العارمة؛ واختلس الروس هذه الفرصة فاجتاحوا بقية بولندة واحتلوا عاصمتها عام 1792م.

وقد لاذ الوطنيون البولنديون بأذيال الفرار، حيث تجمعوا بإقليم سكسونيا (في شمال بوهيميا)، وكونوا حزباً سياسياً قوياً برياسة كوشيسكو.

وكان هذا الأخير ممن تعلموا في فرنسا، وتغلغلت في نفوسهم روح الحرية منذ طفولتهم؛ وقد اشترك في حرب الاستقلال الأمريكي انتصاراً منه للروح الوطنية أنى وجدت. . . فكان في الواقع خير من يقود مثل هذه الحركة!

وقد بدأ بتأليف جيش قوي تربص به حتى اندلع لهيب الثورة في بولندة عام 1794م، فدخل البلاد منتصراً، واحتل (وارسو)، حيث أنشأ حكومة وطنية حرة. . . وهنا استنجد الروس بالبروسيين، وتمكنوا متحدين من هزيمة الوطنيين واحتلال وارسو مرة أخرى عام 1795م.

وقد وقع (كوشيسكو) يوم ذاك أسيراً، وجرت مذبحة رهيبة عند جسر مدينة براغة (شرقي وارسو) راح ضحيتها عدد وفير من الوطنيين البولنديين. . . واتفقت حينئذ كلمة روسيا وبروسيا والنمسا على محو بولندة نهائياً من مصور أوربا السياسي! فكانت تلك أشنع صورة للطغيان يسجلها تاريخ القرن الثامن عشر؛ وقد ضجت أوربا والعالم المتحضر جميعاً لهذا الحادث الذي بدا فيه مبلغ استهتار القوة المسلحة بحقوق الأعزل الضعيف!

وفي هذه القصيدة يصور لنا (توماس كمبل) - وقد عاش بين سنتي: 1777م، 1844م - مأساة (بولندة) في عام 1795م.

وهو يبدو فيها معبراً عن شعور الوطنيين ومحبي الحرية في العالم جميعاً، ممن آسفهم هذا الحادث وأرمض نفوسهم. . . ولسنا هنا بسبيل ذكر كفاح بولندة لتخليص استقلالها طيلة القرن التاسع عشر، أو إيضاح ما تلا ذلك من أحداث انتهت باحتلالها الأخير في أول الحرب الحاضرة؛ فلكل ذلك مواضعه من أبحاث التاريخ؛ وإنما تختم هذه المقدمة الضرورية بقولنا: إن قصيدة (سقوط بولندة) نشرت - لأول مرة - في عام 1799م - أي بعد مأساة السقوط بأربع سنوات - ضمن ديوان للشاعر عنوانه (مباهج الأمل). . . وهاهي ترجمتها:

أيتها الحقيقة المقدسة! لقد تخلى عنك النصر، ولكن إلى حين، وفارقتْ أخاكِ (الأملَ) ابتسامتُه أسفاً عليك. . . عندما توجه الظلم الغاشم بجحافله إلى معترك الشمال، وتحركت فرسانه من العُتاة أولى القوة، ومشاته من (البندوريين) ذوي السبال والعثانين: خافقة أعلامهم الرهيبة مع نسمات الصباح مدويةً طبولهم في دقات كهزيم الرعد، مرتفعاً رنين أبواقهم في شبه العويل. . .!

إنه الفزع الأكبر في ضجيجه وعجيجه، يتحدَّر مع طلائع الشر منذراً بولندة والعالم كله بالويل والثبور!

. . . أشرف بطل فارسوفيا الأخير من مربأه العالي على سهول ألم بها الخراب واجتاحتها جوائح الدمار، فصاح من قلب منكوء:

يا أهلي، ضمد جراح وطني الكليم. . . أما ثمة يد قوية تشد أزر الأبطال المجاهدين؟ ولكن. . . لِتعْثُ في أرضنا شياطين الفناء، ولتُثْجِم عليها سحائب المنايا. . . فالوطن حي برغم ذلك باق؛ وباسمه الرهيب نشهر أسيافنا البواتر. . . فانهضوا يا رفاق؛ وأقسموا جميعاً أن تعيشوا من أجله أو تموتوا فداءً له!

قال البطل هذا، ثم انكفأ إلى رجاله البواسل ينظمهم صفوفاً خلف الأسوار الحصينة. . .

فئة قليلة لا ينقصها الإيمان ولا تعوزها النجدة. . . قوة متماسكة مرهوبة السطوة، تخطو في ثبات وفي أناة معاً: مترفقة كأنها النسيم العابر، متدفقة كأنها العواصف الهوج!

. . . وانتقلت الأصوات خفيضة هامسة تموج مع الهواء موج البنود، مرددة شعارهم الذي به يتعارفون: (الانتقام. . . أو الموت)؛ ثم ارتفع الضجيج عالياً قوياً يستلب النهى، وطنّت نواقيس الإنذار تعلن الخطر الداهم، وتبلغ التحذير الأخير!

ولكن. . . يا للأسف! عبثاً أيتها القلة الباسلة أن تنثال قذائفك مدوية كالرعد بين الصفوف. . . إنها لأشنع صورة وأدماها يسجلها التاريخ في سِفر الأيام! (سَرْماتْيا) تسقط صريعة في غير جرم، فما تُبكَى عليها عينٌ بقطرة من دمع. . .!

واهاً لها. . . لم تجد الصديق كريماً ولا العدو رحيماً. . .!

لم تسعفها القوة وهي في سلاحها وعدتها، ولا أبقت عليها الرحمة وهي في محنتها وبلواها. . .

هو رديْنُّيها العسْال من يدها الواهنة قِصَداً، وأغمضت عيناها الوامضتان ببريق الحياة، وناءت بكاهلها أثقال الطغيان، فما أطاقت النهوض.

هاهو ذا الأمل يقرع سمع الدنيا بكلمة الوداع مولياً عنها إلى حين؛ والحرية تعول صارخة إذ ترى (كوشيسكو) يهوى من عليائه. . .

انحدرت الشمس إلى مغربها وما وقف سيل الدماء الموائر، وبدد ضجيج القتل والقتال سكون الليل الغارق في غفوته، وألقت لُهب الدمار ظلالها على قناطر (براعة) الفخمة؛ وتحدرت المياه من أسفلها مخضوبة بالدم القاني. ثم أعولت العاصفة فطغت على صرخات الجزع وصيحات الوهل المتصاعدة؛ بينا أفسحت الحصون الصماء للغزاة طريقاً مهادها الأشلاء.

ألا أصيخوا. . . إن الأبنية المحترقة لتنهار في دوي يصم الآذان؛ ومئات الأصوات الواهنة تجأر في طلب الرحمة والغوث وهي يائسة منهما؛ حتى لكأنما الأرض تزلزل زلزالها، والسماء ترمى من رجومها بكل شهاب ثاقب!. . .

إنها الطبيعة وقد أدركت هول الفاجعة تضطرب من أعماقها؛ والكون بأجمعه يهتز جزعاً لهذا البكاء والإعوال.

أيتها الأرواح الذواهب. أرواح الأبطال الكماة وكل ذوي النجدة من الهالكين. . . يا من أستنزفوا دماءهم ولفظوا آخر أنفاسهم في ساحات القتال من مراثون ولكترا. . . يا حلفاء العالم وأصدقاء الإنسانية جميعاً: أشهروا سيوفكم من جديد لأجل (الإنسان)؛ حاربوا في سبيل غايته المقدسة؛ وقودوا طلائعه إلى النصر. ثم كفروا بالدم الصبيب عن دموع (سرماتيا) التي تحدرت وهي بالنجيع مخضوبة؛ واجعلوا لها من العتاد والعدة كما جعلتم لأوطانكم. . .

آه لو يرتد إلينا الزمن برب الوطنية وربيبها (تيل). . . أو بالملك الفارس (بروس) بطل (بانكبرن). . . إذن لكان للحرية بهما قوة؛ ولأوى الحق منهما إلى ركن شديد!

(جرجا)

محمود عزت عرفة