مجلة الرسالة/العدد 482/المصريون المحدثون

مجلة الرسالة/العدد 482/المصريون المحدثون

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 09 - 1942


41 - المصريون المحدثون

شمائلهم وعاداتهم

في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تأليف المستشرق الإنجليزي ادورد وليم لين

للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل ثالث عشر - الأخلاق

يثير احترام المسلمين للقرآن الدهشة؛ فهم يحصرون على ألا يكون المصحف أدنى الصدر سواء أكان محمولاً أم معلقاً. ويودعونه مكاناً مرتفعاً طاهراً ولا يضعون فوقه كتاباً ولا شيئاً آخر. ويقولون عادة عند الاقتباس منه: قال الله تعالى في كتابه العزيز. ويعتبرون غير لائق أن يلمس المصحف نصراني أو يهودي أو غير مؤمن بتعالمه، ولكن البعض يدفعه الجشع، وإن ندر ذلك، إلى بيعه إلى هؤلاء. ومن المحرم أيضاً أن يلمس المسلم القرآن ما لم يكن على طهر شرعي. ولهذا كثر ما يطبع قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) فوق الغلاف. وتنطبق هذه الملاحظات عينها على أي شيء يكتب عليه كلام من القرآن. ومما يستحق الاعتبار مع ذلك أن ينقش على أكثر النقود العربية القديمة كلمات قرآنية أو الشهادة مع أنها سكت ليستعملها اليهود والنصارى مثل المسلمين. ولكني سمعت أن هذا الإجراء ملوم بشدة

وقد سألت مرة صديقاً مسلماً هل يعتبر التين موافقاً للصحة في مصر؟ فأجاب: ألم يذكر التين في القرآن؟ إن الله أقسم به في قوله: والتين والزيتون

لا شك أن المسلمين المحدثين أتقياء إلى حد الحماسة وإنما يعوزهم الثبات ونبذ الخرافات، ويندر - على ما أعتقد - أن يوجد فيهم ملحدون حقا. وهؤلاء لا يجرءون على إظهار إلحادهم خوفاً على حياتهم. وقد سمعت عن اثنين أو ثلاثة منهم ارتدوا عن دينهم بمخالطتهم الأوربيين مخالطة طويلة وثيقة. وقابلت ملحداً واحداً كانت له معي مناقشات طويلة. وقد ذكرت عرضاً في الفصول السابقة عادات كثيرة تبين الشعور الديني السائد بين مس مصر. ويستعمل المتسولون في هذا البلد نداءات دينية سأذكر أمثلة منها فيما بعد. ويشبه هذه النداءات صياح باعة الخضر وغيرها. وقد أدهشني هتاف حارس الليل في الحي الذي سكنته أثناء زيارتي الأولى: (سبحان الملك الحي الذي لا ينام ولا يموت)؛ ويصيح الحارس الحالي في الحي ذاته: (يا رب يا دائم). ويمكنني أن أضيف أمثلة كثيرة أخرى توضح تدين الشعب الذي أحاول وصفه، إلا أنه ينبغي أن أقرر هنا أن التدين ضعف كثيراً بين المسلمين، فإنك لا تنفك تسمع منهم أثناء الحديث معهم مثل قولهم: (إنها نهاية الدنيا! لقد تردى العالم في الكفر). ويعتقدون أن حالة المسلمين الآن تدل إلى قرب النهاية. ويبين ما ذكرت في بعض عقائد الوهابيين على أنها عقائد المسلمين الأولين إلى أي حد كبير حاد المسلمون عن تعاليم القرآن كما بلغت أولاً.

يظهر الرجال - تحت تأثير إيمانهم بالقضاء والقدر - في أوقات الابتلاء صبراً مثاليا، وبعد الحوادث المفجعة استسلاماً وتجلداً عجيبين يكادان يقربان من البلادة؛ ويعبرون عن أسفهم بقولهم متنهدين: (الله كريم). أما النساء، فهن على النقيض يبدين حزنهن بالإسراف في البكاء والصراخ. وبينما يلوم المسيحي نفسه بحق على كل حادث مكدر يظن أنه جلبه على نفسه أو كان يمكنه تجنبه، يتمتع المسلم عند تقلبات الزمان وصروف الدهر بهدوء بال عجيب، ولا ينفك مستسلماً عند دنو أجله فيصيح: (إنا لله وإنا إليه راجعون). ويجيب من يستفسر عن حاله: (الحمد لله. . . الله كريم). ولا يمنع الإيمان بالقضاء والقدر المسلم مع ذلك من السعي إلى تحقيق غايته؛ فإيمانه بالقدر ليس مطلقاً، ولا هو يجعله يهمل تجنب الخطر، إذ حرم القرآن ذلك بقوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة). غير أنه في بعض الأحوال كانتشار الطاعون وغيره من الأوبئة أمر الرسول المسلمين ألا يدخلوا مدينة موبوءة وألا يخرجوا منها. ويختلف المسلمون في جواز الحجر الصحي، إلا أن عمومهم يرونه غير ملائم

ويجعل الإيمان بالقدر المسلم مجرداً من الادعاء بمعرفة أعماله المستقبلة أو أي حادثة آتية، فلا يتحدث أبداً عما ينوي عمله أو يتوقع حدوثه دون أن يقول: (إن شاء الله)؛ وكذلك عندما يروي واقعة سابقة غير محققة، يقدم كلامه أو يختمه بقول: (الله أعلم)

يتمتع المصريون بفضيلتي الجود والإحسان - اللتين يبثهما الدين في قلوبهم - إلى درجة عالية. ولكن يبدو من تصريحهم أن انتظار الثواب في الآخرة يحرضهم على الصدقة بقدر ما تحرضهم الشفقة ببني جنسهم أو الرغبة المنزهة في القيام بما يأمر الله. ويمكن من بعض الوجوه أن نعزو كثرة المتسولين في القاهرة إلى ميل السكان إلى الإحسان.

ومن آثار هذه الفضيلة أيضاً إقامة السبل الجميلة التي نراها في هذه المدينة، والسبل الوضيعة في القرى والحقول. كان يسرني كثيراً أول اختلاطي بالمصريين أن أشاهد شفقتهم في معاملة الحيوان وأن أرى البعض يجمع أطراف ثيابه المرسلة ليتحاشى لمس الكلب، ثم يقذف للحيوان الدنس قطعة من الخبز الذي يأكله. وكانت جرائم القتل والسرقة وغيرها نادرة حينئذ. ولكني أجد اليوم أغلب المصريين قد انقلبوا إلى الأسوأ في شفقتهم نحو الحيوان وبني جنسهم. ويبدو لأول وهلة أن شدة الحكومة المفرطة قد أوجدت في الشعب البغي والميل إلى الإجرام، إلا أنني أميل إلى الظن بأن سلوك الأوربيين أفضى كثيراً إلى هذه النتيجة، إذ لا أتذكر أنني رأيت قسوة في معاملة الحيوان إلا حيث يسكن الفرنج أو حيث يترددون مثل الإسكندرية والقاهرة وطيبة. ويتقزز المرء من رؤية حمير النقل التعسة في القاهرة، فأكثرها مصاب بجروح قرمزية كالياقوت الجمري، وتعقرها على الدوام حبال غليظة من مسد تربط بظهر البرذعة. وكثيراً ما يضرب الأطفال والرجال الكلاب في الشوارع لمجرد اللهو. وكثيراً ما رأيت أطفالاً يلهون بمضايقة القطط التي كانت محبوبة كثيراً قبلا. وكانت جرائم السرقة والقتل تحدث أسبوعياً تقريباً أثناء الشهرين أو الثلاثة التالية لقدومي الثاني. وكان الحكام الترك يجورون على الفلاحين ولكن بعض هؤلاء منذ خلفوهم على الحكم فاقوهم في الطغيان. والرأي العام أنهم ألعن من الأتراك

ومع أني أشاهد الآن على التوالي الكلاب الشريدة تضرب في شوارع القاهرة وهي هادئة لا تضر، فلا أزال أرى بعضهم يطعمونها وأغلبهم فقراء. ويوجد في كل حي من أحياء المدينة أحواض صغيرة تملأ يومياً للكلاب. ويؤجر أصحاب الحوانيت في شارع واحد سقاء لرش الشارع وملء أحواض الكلاب. ويوجد أيضاً حوض للكلاب عند كل دكان لبيع الشراب. ويمكن أن نذكر هنا أن كلاب القاهرة، وقلما يكون لها صاحب، تكون جماعات منظمة مختلفة تقصر كل منها نفسها على حي تطرد منه كل كلب دخيل. وهذه الحيوانات تكثر جداً في القاهرة. وهي تحرص على العموم أن تتجنب الإنسان كما لو كانت تعلم أن أغلبية السكان تنبذها، ولكنها كثيراً ما تنبح عندما ترى أحداً يلبس الملابس الإفرنجية. وتضايق المارة ليلاً، وهذه الكلاب مفيدة لأنها تأكل سقط الذبائح التي يرمي بها من حوانيت الجزارة والبيوت، كما أن الكثير منها يتردد على أكوام الزبالة حول العاصمة فتقتات مع الصقور من رمم الجمال والحمير التي تنفق في المدينة. وأغلب الكلاب صهب اللون، والظاهر أنها تماثل بنات آوى شكلاً وميولاً.

ولا يمنع رأي المسلمين في الكلاب من الاحتفاظ بها للحراسة وأحياناً للتدليل. وقد حدث من زمن قصير حادث غريب من النوع الأخير، فقد اتخذت امرأة وحيدة في هذه المدينة، كلبا يؤنسها في وحدتها. فاختطف الموت هذا الأنيس الوحيد، فعزمت المرأة لحزنها وعطفها عليه أن تدفنه كأي مسلم في قبر لائق في مدافن الإمام الشافعي المقدسة. فغسلت الكلب طبقاً للقواعد المرعية عند وفاة المسلم وكفنته في كفن جميل ووضعته في نعش، واستأجرت نادبات وأقامت مأتماً حقيقياً. ولم يتم ذلك دون أن يثير عجب الجيران الذين لم يستطيعوا معرفة المتوفى ولم يتدخلوا لأنه لم يكن بينهم وبينها ألفة قط. ثم استأجرت المرأة مرتلين ليتقدموا الجنازة وتلاميذ لينشدوا ويحملوا القرآن أمام النعش. وسار الموكب في نظام مهيب، وتبعت المرأة والنائحات النعش وهن يملأن الجو بصراخهن؛ غير أن الموكب لم يسر كثيراً إذ اجترأت إحدى الجارات وسألت السيدة الحزينة: من المتوفى؟ فأجابتها: (إنه ابني المسكين) فكذبتها السائلة فاعترفت الثكلى بأنه كلبها ورجت جارتها الفضولية أن تكتم السر؛ إلا أن احتفاظ المرأة المصرية بالسر، وبسر مثل هذا، مستحيل. فأذيع الخبر في الحال، وسرعان ما تجمع جمهور غاضب أوقف الجنازة. وصب المرتلون والمنشدون غضبهم على مستخدمهم، حالما استخلصوا منه نقودهم، لأنه مكر بهم. ولو لم يتدخل الشرطة لذهبت المرأة على الأرجح ضحية هياج الشعب

والعجيب أن القطط الشريدة في مصر تطعم على نفقة القاضي. فيوضع في الساحة الكبرى أمام المحكمة عصر كل يوم مقدار من سقط الذبائح وتدعى القطط معاً لتأكل. وقد وقف السلطان الظاهر بيبرس على القطط، كما علمت من كبير كتاب القاضي، حديقة تسمى (غيط القطط) بجانب مسجده شمالي القاهرة. ولكن هذه الحديقة باعها الأمناء عليها ومشتروها على التوالي. وقد باعها السابقون بحجة أنها خربة فلا تصلح للإنتاج إلا بعد نفقات كثيرة. وتستغل الحديقة الآن حكراً بخمسة عشر قرشاً سنوياً تنفق في إطعام القطط المتروكة. ومن ثم ألقيت نفقة القطط كلها على القاضي بحكم منصبه الذي يجعله حارساً على الأوقاف الخيرية، فعليه أن يتحمل إهمال سلفه. ومع ذلك أهمل واجب إطعام القطط أخيراً. ويتخلص الكثيرون في القاهرة من القطط بإرسالها إلى بيت القاضي وإطلاقها في الساحة الكبرى

ذكرت قبلاً مؤانسة المصريين بعضهم لبعض. وهم يخاطبون الأجانب الذين لا يوافقونهم في الشمائل والعادات، ولا يذهبون مذهبهم في التفكير بأدب يشوبه الجفاء والحذر. وكثيراً ما يظهر المصريون نحو الأجانب وفيما بينهم أيضاً فضولاً وقحا. وهم يخشون كثيراً أن يجعلوا لهم أعداء فيدفعهم خوفهم هذا إلى أن يؤيد كل منهم الآخر ولو كان في ذلك جرم. ويعتبر السرور صفة ظاهرة من الشعب المصري. ويظهر البعض احتقاراً كبيراً للتسلية التافهة. ولكن الكثيرين يجدون فيها بهجة. ومن المدهش أن ترى المصريين يتسلون بأقل شيء، فهم يبتهجون حيثما يوجد حشد وضجة وحركة. وتخلوا حفلاتهم العامة مما يسلي الرجل المثقف. ويبدو أن الطبقات السفلى تسعد كثيراً بالجلوس في المقهى للتدخين وشرب القهوة بعد العمل اليومي.

عدلي طاهر نور