مجلة الرسالة/العدد 482/مفاوضات الفتح العربي لمصر
مجلة الرسالة/العدد 482/مفاوضات الفتح العربي لمصر
للأستاذ السيد يعقوب بكر
(تتمة)
(ج) مفاوضة ثالثة
يحكى لنا الواقدي (ص25 - 28) أن أرمنوسة ابنة المقوقس كانت في طريقها إلى قيسارية لتزف إلى فلسطين (يقصد قسطنطين) بن هرقل، فلما علمت أن قيسارية قد حاصرها العرب، عادت إلى مصر بما كان معها من الخدم والمال، فما وصلت إلى بلبيس، حتى جاءتها جيوش عمرو وحاصرتها. ثم يقول الواقدي: إن العرب اقتحموا المدينة وأسروا أرمانوسة، ولكن عمراً إلى أبيها المقوقس، اعترافاً منه بحسن صنيعه (أي صنيع المقوقس)، حين أتته منذ سنين عدة رسالة النبي ﷺ، يحملها إليه حاطب بن أبي بلتعة. أرسل عمرو أرمانوسه إلى أبيها مع قيس ابن سعد، فيصل هذا ويدور بينه وبين أبيها حديث طويل يسجله لنا الواقدي (ص28 - 29). ونحن يعنينا هنا الجزء الأخير من هذا الحديث (ص29): (فقال المقوقس لقيس ابن سعد: يا أخا العرب، أرجع إلى أصحابك وأخبرهم بما سمعت وبما رأيت، وانظر فيما يستقر عندكم وبينكم؛ فقال قيس: أيها الملك، لابد لنا منكم، ولا ينجيكم منا إلا الإسلام أو أداء الجزية أو القتال. فقال المقوقس: أنا أعرض ذلك عليهم، وأعلم أنهم لا يجيبون، لأن قلوبهم قاسية من أكل الحرام)
فهل نعد ذلك الحديث مفاوضة؟ لا شك في ذلك. ولكننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذه المفاوضة لم تكن، وذلك لسببين: الأول أن قصة أرمانوسه نفسها موضوعة؛ فالأستاذ بتلر يقول فيها (ت3 ص191): ولا حاجة بي إلى إضاعة الوقت في تفنيد هذه القصة، فإن مجرد العلم بأن المقوقس كان بطريق الإسكندرية كاف لدحضها. . . ويجدر بنا هنا أن نذكر أن أبا صالح قال: إن (أرمنوسه) هي الاسم المصري القديم لمدينة أرمنت (ص279). وقد ذكر ابن عبد الحكم بغير دقة أنها امرأة المقوقس، وذكر كرماً كان لها أغرقته فصارت منه بحيرة مريوط. وإنه مما يؤسف له أن هذه القصص التي يمليها خيال ألف ليلة وليلة مما يجب علينا إبعاده من التاريخ)؛ والثاني أن المقوقس لم يكن هو الذ تسلم رسالة النبي عليه الصلاة والسلام وإنما الذي تسلمها هو (جرج) الذي سمى (بالمقوقس) في (الرسالة) خطأ، وهو حاكم الإسكندرية ونائب الملك في مصر (بتلر ص125)
(د) مفاوضة رابعة
يحكى لنا الواقدي (ص35 - 39) ما فعله العرب الذين كانوا سائرين لنصرة عمرو - مع العرب المتنصرة الذين كانوا سائرين لنصرة أرسطوليس وكيف أن أرسطوليس هذا استهدف لمكيدتين: مكيدة عمه أرجانوس الذي أدرك مقتل أخيه على يد ابنه (أي ابن أخيه)، ومكيدة العرب المسلمين الذين انبثت طائفة منهم في معسكره متظاهرة بأنها جماعة العرب المتنصرة الذين جاءوا لنصرته؛ ثم كيف هزم بسبب هاتين المكيدتين أمام الحصن وفر إلى الإسكندرية. وبعد ذلك يقول الواقدي (ص39): ((قال ابن إسحق) حدثني من أثق به أنه قتل في تلك الليلة من عسكر القبط خمسة آلاف، وغنم المسلمون أثقالهم وما كان فيها من الأموال. فلما أقبل الصباح اجتمع خالد بالمسلمين وسلم بعضهم على بعض وهنوهم بالسلامة، ودخلوا مصر وملكوا ديارها وأحاطوا بقصر الشمع. فأشرف عليهم أرجانوس بن راعيل أخو المقوقس، وقال لهم: يا فتيان العرب، اعلموا أن الله قد أمدكم بالنصر، وقد فعلت في حقكم كذا وكذا، ولولا حيلتي على ابن أخي لما انهزم منكم، وقد ظفرتم الآن، ونحن نسلم إليكم على شرط أنكم لا تتعرضون لنا ولا تمدون أيديكم لنا بسوء، ومن أراد منا أن يبقى على دينه يؤدي الجزية، ومن أراد أن يتبعكم يتبعكم. فقال له معاذ بن جبل: قد نصرنا الله على الكفار بصدق نياتنا وصالح أعمالنا واتباعنا للحق، وإنا ما قلنا قولاً إلا وفيناه، ولا استعملنا الغدر ولا المكر، وأنتم لكم الأمان على أنفسكم وأموالكم وحريمكم وأولادكم، ومن بقى منكم على دينه فلن نكرهه ومن اتبع ديننا فله ما لنا وعليه ما علينا. فلما سمع أرجانوس ذلك نزل إليهم بالمفاتيح، فأمنوه وأمنوا من كان معه في القصر، وجمعوا كابر مصر ومشايخها. . .)
فهل نعد ذلك مفاوضة؟ لا شك في ذلك. ولكن القصة كلها من أولها إلى آخرها موضوعة ليست فيها أثارة من صواب فقد قلنا من قبل إن المقوقس لم يمت في ذلك الوقت، وإن اسم أرسطوليس لم يرد غير كتاب الواقدي؛ ونقول الآن إن اسم أرجانوس لم نجده كذلك عند غير الواقدي. وليست بنا حاجة لتنفيذ هذه المفاوضة إلى القول بأن قصة العرب المنتصرة موضوعة وإننا لم نجدها في غير كتاب الواقدي
فخلاصة القسم الأول من البحث انه لم يصح عندنا إلا وقوع مفاوضتين: الأولى عند بلبيس بين عمرو وجماعة عليها أحد الأساقفة، ولم يرد إلينا نص ما دار في هذه المفاوضة. والثانية في جزيرة الروضة أثناء حصار حصن بابليون بين المقوقس وعبادة ابن الصامت، وقد ورد إلينا ما يقول مؤرخو العرب إنه دار في هذه المفاوضة، ولكننا لا نظن أن الذي نقله إلينا هؤلاء هو ما دار في هذه المفاوضة بالضبط، وإن كنا لا نشك في أنه لا يختلف عنه من حيث الروح المسيطرة على الطرفين المتفاوضين
فلنشرع إذن في القسم الثاني من البحث في تلمس هذه الروح في ما نقله إلينا مؤرخو العرب وتنسمها منه
القسم الثاني
كان عبادة بن الصامت وأصحابه تسيطر عليهم تلك الروح التي كانت تسيطر على العرب جميعهم في ذلك الوقت: الانصراف عن الدنيا وأعراضها وملذاتها، تلك الدنيا التي طلقوها ونبذوها وخلفوها ظهرياً؛ ثم السعي إلى لقاء الله تعالى والاستشهاد في سبيله والظفر بجنته ونعيم آخرته
وكان عبادة بن الصامت وأصحابه لا يجدون ما يصلح أساساً للمفاوضة بينهم وبين المقوقس وأصحابه غير هذه الثلاث الخصال: إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال. ذلك لأنها الأساس الوحيد الذي يرضى به المسلم المعمور القلب بالإيمان الخالص الضمير من أعراض الدنيا الموطن النفس على الاستشهاد
أما المقوقس فكان في أول الأمر تسيطر عليه نزعتان: الأولى هي خوف العرب وخشيتهم. والثانية هي الحرص على سلطان هرقل من أن يزول عن مصر. ولذلك وجدناه يصطنع الحيلة لصرف هؤلاء العرب عن البلاد؛ فيأخذ في تخويف عبادة وصحبه من جموع الروم التي تتجمع للقائهم وتوشك أن تنقض عليهم فلا يستطيعون لها ردا، ويأخذ في إظهار شفقته على هؤلاء العرب الذين يقاسون شظف العيش وضيق الحياة، ثم يأخذ أخيراً يقول: (ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار)
ولكن عندنا ما يدرك أن العرب قوم ليسوا كالأقوام وأناس ليسوا كالأناسي، وأنهم قد طلقوا الدنيا فلا يرضيهم منها إلا شظف العيش وضيق الحياة، وأنهم يتمنون لقاء الروم الذين يوشكون أن ينقضوا عليهم ليظفروا بالشهادة إن غلبوا أو ليعلوا منار الإسلام إن غلبوا، عندما يدرك ذلك تغلب عليه نزعة الخوف والرهبة، وينصح لأصحابه أن يسلموا البلاد للعرب ويدفعوا الجزية
ولكن أصحاب المقوقس كانوا قوماً لا يرضون الخروج من دين ابن مريم إلى دين لا يعرفونه، ولا تطيب نفوسهم بأن يذلوا ويهونوا، ولا يرون إلا القتال سبيلاً لهم. لذلك رفضوا نصح المقوقس وعادوا إلى القتال
هذه هي الروح المسيطرة على الطرفين المتفاوضين. ولكنا لا نحب آن نختم البحث قبل أن نقول إنها الروح المسيطرة على العرب والروم؛ فقد كان المقوقس رومياً (بتلر، الملحقان 3 و7 من كتابه)، وكان أصحابه روماً. أما القبط فلم يكن لهم اشتراك في سياسة البلاد ومفاوضة الغزاة، فقد كان المقوقس (قيرس) لا يزال على عهده العدو الأكبر لمذهب القبط (بتلر ص220، 221)
(تم البحث)
السيد يعقوب بكر