مجلة الرسالة/العدد 485/من ملاحق كتاب (رسوم دار الخلافة)

مجلة الرسالة/العدد 485/من ملاحق كتاب (رسوم دار الخلافة)

مجلة الرسالة - العدد 485
من ملاحق كتاب (رسوم دار الخلافة)
ملاحظات: بتاريخ: 19 - 10 - 1942



دّنيَّةُ القاضي

في العصر العباسي

للأستاذ ميخائيل عواد

الدنية وتجمع على الدنيات، قلنسوة بشكل الدَّن (وهو الحب عند العرافين له عسعس)، محدودة الأطراف، طولها نحو شبرين تتخذ من ورق وفضة على قصب (عيدان)، وتغشى بالسواد، وتزين أحياناً بشنائق صفر طوال تتدلى على الصدر كان يلبسها القضاة عامة، في العصور الإسلامية السالفة، كما يلبسها الخطباء والأكابر أحياناً

قال الشريشي في شرح المقامة التاسعة للحريري: إن أصل الدنية: الدنينة كسفينة. . . وليست من كلام العرب، إنما هي من الألفاظ المستعملة في العراق. . . إه. والصواب: أن الدنية عربية منسوبة إلى الدن وليست بالدنينة

والغريب أن هذه اللفظة وردت في (النجوم الزاهرة) باسم (المدينة) وهذا تحريف ظاهر

وكان من أهم ماجريات سنة ثلاث وخمسين ومائة للهجرة، أن (أبا جعفر المنصور أمر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها، وأن يعلقوا السيوف في المناطق، ويكتبوا على ظهورهم: (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم). فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزي، فقال له أبو جعفر: ما حالك؟ قال: شر حال! وجهي في نصفي، وسيفي في لستي، وكتاب الله وراء ظهري، وقد صبغت بالسواد ثيابي. فضحك منه وأعفاه وحده من ذلك، وقال له: (إياك أن يسمع هذا منك أحد). قال أبو الفرج الأصفهاني: (ونسخت من كتاب لابن النطاح، فذكر مثل هذه القصة سواء وزاد فيها:

وكنا نُرَجِّي من إمام زيادةً ... فجاد بطول زاده في القلانس

نراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس

والظاهر أن الرشيد لم يحب هذا التغيير الذي أحدثه المنصور من قبله، فقد حكى الجاحظ أن العماني الراجز (دخل على الرشيد لينشده شعراً وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج، فقال: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة الكور وخفان دمالقان. . . فبكر من الغد وقد تزي بزي الأعراب فأنشده. . .)

ثم جاء المعتصم فأعاد لبس القلانس الطوال تشبهاً بملوك الأعاجم، فلبسها الناس اقتداء به، وسميت المعتصميات.

ومما ذكره الجاحظ في اختلاف الناس في صنوف اللباس قوله: (. . . وهل ذلك إلا كتعظيم كور العمامة، واتخاذ القضاة القلانس العظام في حمارة القيظ، واتخاذ الخلفاء العمائم على القلانس! فإن كانت القلانس مكشوفة زادوا في طولها وحدة رءوسها حتى تكون فوق قلانس جميع الأمة. . .).

ولم يكن لبس الدنيات قاصراً على قضاة العرب، بل تعداهم إلى غيرهم من الأمم، فهذا الاصطخري الرحالة البلداني يقول في عرض كلامه على صور أهل فارس وزيهم: (وأما قضاتهم فإنهم يلبسون الدنيات وما أشبهها من القلانس المشمرة عن الأذنين، مع الطيالسة والقمص والجباب، ولا يلبسون دراعة ولا خفاً بكسرة، ولا قلنسوة تغطي الأذنين. . .)

وكان القضاة يتفردون بلبس هذه القلانس الطوال أينما وجدوا، وقد يدفعهم الأمر إلى منع كافة الناس من لبسها. فقد أنبأنا الكندي في نحو سنة 230هـ بقوله: (كان زي أهل مصر وجمال شيوخهم، وأهل الفقه والعدالة منهم لباس القلانس الطوال؛ كانوا يبالغون فيها، فأمرهم ابن أبي الليث (القاضي) بتركها ومنعهم لباسها وأن يشبهوا بلباس القاضي وزيه فلم ينتهوا. قال ابن عثمان: فجلس ابن أبي الليث في مجلس حكمه في المسجد واجتمع أولئك الشيوخ عليهم القلانس؛ فأقبل عبد الغني ومطر جميعاً فضربا رؤوس الشيوخ حتى ألقوا قلانسهم. قال: وأخبرني محمد بن أبي الحديد قال: حدثني عتبة بن بسطام قال: رأيت قلانس الشيوخ يومئذ في أيدي الصبيان والرعاع يلعبون بها، وكانوا بعد ذلك لا يدخلون إلى ابن أبي الليث ولا يحضرون مجلسه في قلنسوة

وأنشدنا إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم بن تميم للجمل:

وأخفت أيام الطوال وأهلها ... فرموا بكل طويلة لم تقصر

ما زلت تأخذهم بطرح طوالهم ... والمشي نحوك بالرؤوس الحسَّر

حتى تركتهم يرون لباسها ... بعد الجمال خطية لم تغفر

يتفزعون بكل قطعة خرقة ... يجدونها من أعين ومخبِّر فإذا خلا بهم المكان مشوا بها ... وتأبطوها بالمكان الأعمَرِ

فلئن ذعرت طوالهم فلطالما ... ذعرت ومن برؤائها لم يذعرِ

كانوا إذا دلفوا بهن لِمفْضَلٍ ... أمضى عليه من الوشيج الأسمر

كم موسرٍ أفقرته ومفقَّرٍ ... أغنيته من بعد جهد مفقرٍ

ما إن عليك لقيت منهم واحداً ... أوفى العجاج مدججاً في مغفر

لبسوا الطوال لكل يوم شهادة ... ولقوا القضاة بمشية وتبخْتُرِ

ما بي أراهم مطرقين كأنما ... دمغت رؤوسهم بحمى خيْبَرِ

أخبرنا ابن قديد عن يحيى بن عثمان قال: لما عزل ابن أبى الليث ترك الكثير من الشيوخ لباس القلانس؛ منهم أبو إبراهيم المزني سمعت كهمس بن معمر يقول: لما أمر ابن أبي الليث بطرح القلانس لم يثبت على لباسها إلا محمد بن رمح فلم يعارض

أخبرني إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم بن تميم أن النيل كان توقف؛ فاستسقى أهل مصر وحضر بن أبي الليث الاستسقاء، فوثب المصريون بسبب غلاء القمح؛ وأخذوا قلنسوته فلعبوا بها بعدما فعل قلانس أهل مصر بثمانية أيام)

والظاهر أن الدَّنِيَات كان قد ضعف شأنها، وقل استعمالها في بغداد، في المائة الخامسة للهجرة، فقد أشار إلى ذلك هلال ابن المحسن الصابئ (المتوفى سنة 448هـ) في عرض كلامه على جلوس الخلفاء وما يلبسونه في المواكب، وما يلبسه الداخلون عليهم من الخواص وجميع الطوائف. قال: (. . . فأما العباسيون من أرباب المراتب، فزيُّهم السواد بالأقبية المولدة والخفاف، ولهم منازل في شد المناطق والسيوف وتقلدها؛ اللهم إلا أن يكون منهم من قد ارتسم بالقضاء، فله أن يلبس الطيلسان. وأما قضاة الحضرة ومن أهل للسواد من قضاة الأمصار والبلاد؛ فبالقمص والطيالسة والدنيات والقراقفات، وقد تركت الدنيات والقراقفات في زماننا وعدل إلى العمائم السود المصقولة)

وكانت الدنيات تبرز في أيام مواكب الخلفاء في بغداد؛ إذ يحضر صنوف الناس على مراتبهم ورسومهم. قال هلال الصابئ: (وإذا اتفق يوم الموكب حضر حاجب الحجاب بأكمل لباسه: من القباء الأسود المولد، والعمامة السوداء، والسيف، والمنطقة، وقدامه الحجاب وخلفاؤهم، وجلس في الدهليز من وراء الستر، وحضر الوزير وأمير الجيش، ومن له رسم في حضور الموكب؛ فإذا تكامل الناس راسل الخليفة بذاك، فإن أراد أن يأذن الإذن العام، خرج الخادم الحرمي الرسائلي فاستدعى حاجب الحجاب ودخل وحده حتى يقف في الصحن، ويقبل الأرض، ثم يرسم له إيصال القوم على منازلهم، فيخرج ويدعو ولي العهد، إن كان في الوقت ولي العهد، وأولاد الخليفة، إن كان له ولد، ثم يدخل الوزير، ويمشي الحجاب بين يديه إلى أن يقرب من السرير. . . وأدخل بعده أمير الجيش. . . ثم أصحاب الدواوين والكتاب، وأوصل القواد يقدمهم خلفاء الحجاب على مراتبهم ودعوهم، ووقفوا يميناً وشمالاً على رسومهم، ونودي ببني هاشم ومن يلبس الدنيات ويتقلد الصلوات، فيقدمون إلى أول البساط ويسلمون ويقفون مفردين

للدنية أخبار طريفة كانت في أكثرها مدعاة للسخرية منها، والتمثيل بها. فقد روى أبو الفرج الأصفهاني حكاية قال فيها: أخبرنا محمد بن خلف وكيع، قال: كان الخليجي القاضي واسمه عبد الله (بن محمد) ابن أخت علوية المغني، وكان تياهاً صلفاً، فتقلد في خلافة الأمين قضاء الشرقية؛ فكان يجلس إلى اسطوانة من أساطين المسجد، فيستند إليها بجميع جسده ولا يتحرك، فإذا تقدم إليه الخصمان أقبل عليهما بجميع جسده وترك الاستناد حتى يفصل بينهما ثم يعود لحاله، فعمد بعض المجان إلى رقعة من الرقاع التي يكتب فيها الدعاوى فألصقها في موضع دنيته بالدبق وتمكن منها. فلما تقدم إليه الخصوم، وأقبل عليهم بجميع جسده كما كان يفعل؛ انكشف رأسه وبقيت الدنية موضعها مصلوبة ملتصقة، فقام الخليجي مغضباً وعلم أنها حيلة وقعت عليه فغطى رأسه بطيلسانه وقام فانصرف وتركها مكانها حتى جاء بعض أعوانه فأخذها. وقال بعض شعراء ذلك العصر فيه هذه الأبيات:

إن الخليجي من تتايهه ... أثقل باد لنا من طلعته

ما إن لذي نخوة مناشبة ... بين أخاوينه وقصعتهِ

يصالح الخصم من يخاصمه ... خوفاً من الجور في قضيته

لو لم تدبقه كفّ قابضة ... لطار منها على رعيته

(البقية في العدد القادم) - بغداد

ميخائيل عواد