مجلة الرسالة/العدد 487/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 487/البريد الأدبي
في جماعة كبار العلماء: مصادرة كتاب ومؤاخذة عالم
روت البلاغ أن قد عرض على جماعة كبار العلماء في اجتماعها الأخير التقرير الذي كانت وضعته اللجنة المؤلفة من بعض أصحاب الفضيلة أعضاء الجماعة عن كتاب (رد الدرامي على المريس) الذي طبعه ونشره وكتب مقدمته الشيخ حامد الفقي من علماء الأزهر الشريف.
وقصة هذا الكتاب ترجع إلى أن أحد كبار العلماء وجد فيه أحاديث شك في نسبتها إلى الرسول ﷺ فعرض الكتاب على الجماعة وطلب بحثه فألفت اللجنة السالفة الذكر.
وقد رأت اللجنة في الكتاب جملة مآخذ خلاصتها أن الأحاديث التي يستند عليها المؤلف في روايته غير صحيحة، وأن الكتاب يدعو إلى عقيدة التجسيم للخالق سبحانه وتعالى، وأن مقدمة الكتاب فيها مآخذ شديد وطعن على علماء الكلام، واتهام صريح لهم بأنهم أفسدوا العقائد ببحوثهم والتغالي فيها وزيفوها وخرجوا بها عن سلامتها. وانتهت اللجنة في تقريرها إلى أن نشر هذا الكتاب وإباحة تداوله هو ترويج لمبادئ باطلة عفي عليها الزمان، وطلبت مصادرته ومحاسبة ناشره على نشره وعلى ما جاء في مقدمته من طعن على العلماء خصوصاً وأنه يرأس جماعة إسلامية للدعوة للدين هي جماعة أنصار السنةالمحمدية.
وقد طبع هذا التقرير ووزع على أعضاء الجماعة لبحثه. ورأى فضيلة الشيخ محمود شلتوت عضو الجماعة أن يرد عليه فكتب تقريراً وقدمه للجماعة ووزع على الأعضاء وقد عرض في الاجتماع نفسه. وقد تضمن أن الأحاديث التي طعن فيها والموجودة في هذا الكتاب لها أصل في كتب الأحاديث رواها أبو داود وابن كثير، وكثير من علماء الحديث. وقال عما جاء في المقدمة من كلمات نابية في حق علماء الكلام الإسلاميين أن المقصود بها أولئك الذين دخلوا في الإسلام تظاهراً وهدفهم الأول الإساءة إلى العقائد الإسلامية وتعاليم الإسلام السليمة، وهذا المعنى يتجلى في سياق كلام المقدمة، وضرب الأمثال الكثيرة لذلك
وعلى الجماعة أن تقرر مبدأ بالنسبة لهذا الكتاب وما يوجد من الكتب الأخرى وهو دراسته والرد على ما فيه؛ وهذا أسلوب القرآن الكريم؛ فسبحانه جل شأنه ساق آراء المشركين والمعارضين للإسلام وحجهم ودعاواهم وعقب عليها بالرد والتنفيذ. وهكذا كان شأن علماء الإسلام الأول يسردون أقوال معارضيهم ويردون عليها. وفي الكتب التي بين أيدينا آراء وأقوال لكثير من الطوائف الإسلامية رد عليها رووها وكان في هذا تنوير للباحثين والدارسين والوقوف على المزيف منها والسليم.
وقد أفاد هذا الأسلوب ونفع وأوجد ثروة واسعة للمكتبة الإسلامية وأدى إلى الوقوف على الحركات العلمية التي كانت موجودة في العهود السابقة. ولعل الأزهر لم ينس بعد الموقف الذي كان منه في سنة 37 إزاء كتاب تاريخ بغداد ومصادرته ثم فك المصادرة عنه.
وانتهى الأستاذ الشيخ شلتوت من تقرير إلى الاقتراح باتباع أسلوب السلف في حماية العقائد والدين بتنفيذ ما يرى أن فيه مساساً بهما والرد عليه وعدم مصادرة الكتاب أو مؤاخذة الناشر على نشره وما جاء في مقدمته.
في نسب العبيدين
في العدد 485 من الرسالة كلمة بعنوان (حول الفاطميين) تراءى كاتبها برأي ابن خلدون في تصديق دعواهم في نسبهم المخالف لجماهير أهل التحقيق في التاريخ والأنساب العلوية، قال ابن خلكان في ترجمة عبيد الله المهدي: (أهل العلم بالأنساب من المحققين ينكرون دعواهم في النسب). وابن خلدون ليس بأقل خطأ في رأيه منه في (العرب والحضارة) و (العرب والعلوم)، وأغلاطه في ما دونه من أخبار الشرق غير مجهولة. إلا أن له هنا دافعاً نفسياً أوقعه في الشذوذ عن الجماعة، كما نص على ذلك المؤرخ الكبير السخاوي في كتابه (الإعلان بالتوبيخ) نقلاً عن شيخه الحافظ بن حجر، وذكر فيه أيضاً سبب شذوذ المقريزي في ذلك
هذا ورد كل شيء إلى السياسة مضيعة للحقائق، وليست كلمة (الغاية تبرر الواسطة) سوى قاعدة (مكيفلية) واهية يبرأ منها علماء الإسلام في جميع العصور. والحكم الذي أصدره كبار الأئمة من علماء بغداد في تزييف نسب العبيديين وافقهم عليه علماء الأمصار كالقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي منصور عبد القاهر التميمي وأبي المظفر الإسفرايني ومؤرخ الإسلام الذهبي وابن تيميه وغيرهم. ومن درس سير أولئك العلماء الذين وقعوا ذلك الحكم استيقن أن أحدهم يفضل الموت على إصدار حكم مخالف للشرع في نظره. ولم يكن الخليفة يومئذ القادر بالله بقادر على إكراههم على القول بما لا يعتقدونه لأنهمكانوا أهل الحل والعقد في الدولة مع عظم منازلهم في الأمة، على أن القادر بالله لم يوصم في التاريخ بظلم ولا عدوان بل ذكر بالدين والتقوى. ومما يدل على بطلان دعواهم في الانتساب إلى محمد بن إسماعيل ابن جعفر الصادق: أن إسماعيل مات في حياة والده، ومحمد لم يعقب كما قال النسابون الثقات على ما هو مبسوط (في الفرق بين) وغيره، فصلتهم بإسماعيل بن جعفر الإمام كصلتهم بالإسلام. وقال ابن طولن في (اللمعات البرقية في النكت التاريخية) في ترجمة الحاكم: وكان هو وأسلافه يدعون الشرف ويقولون: أبونا على وأمنا فاطمة، كان في كل أسبوع يقول ذلك على المنبر، وكانت الرقاع ترفع إليه وهو على المنبر فرفعت إليه رقعة مكتوب فيها هذه الأبيات:
إنا سمعنا نسباً منكراً ... يتلى على المنبر في الجامع
إن كنت فيما قلته صادقاً ... فأنسب لنا نفسك كالطالع
أو كان حقاً كلُّ ما تدعي ... فاعدد لنا بعد الأب السابع
وزاد غيره:
أو فدع الأشياء مستورةً ... وادخل بنا النسب الواسع
فرماها ولم ينتسب فيما بعد. ولما دخل المعز العبيدي مصر وسُئل عن نسبه سل سيفه وقال (هذا نسبي) ونثر الذهب وقال (وهذا حسبي)
ثم إن الكاتب لو رجع إلى بعض كتب الأصول لعلم أن الأحكام الفقهية مسائل كلية لا جزئية، فلا وجه لا دعاء تأثرها بالظروف والأحوال فضلاً عن ادعاء الحاجة إلى نسخها بالاجتهاد، وإنما الأحكام الجزئية هي أحكام القضاة في القضايا الجزئية؛ ولعلم كذلك أن (الأحكام) في كلمته جمع محلى باللام فيفيد العموم، فيكون حملها على بعض الأحكام تراجعاً عن نص المدعى ودلالته. على أن القول بنسخ حكم من أحكام الشرع بعد المصطفى ﷺ مما لا يعلمه الدين الإسلامي، ولذلك ترى إجماع الأئمة خلفاً عن سلف على إكفار من يقول بذلك، كما في مراتب الإجماع لابن حزم وغيره
صلاح الدين شفيق