مجلة الرسالة/العدد 49/الامتيازات والدين

مجلة الرسالة/العدد 49/الامتيازات والدين

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 06 - 1934


. . . حتى على حرم الدين، وموئل علومه، ومعقل آدابه، تعتدي الامتيازات الأجنبية المشئومة!! فقد حدثني من لا يجهل ولا يكذب، أن طالباً من جنوب أفريقية، يطلب العلم في أحد المعاهد الدينية، دهمه الامتحان وهو في سكرة النعيم المصري الخالص من الأذى والمن، فلم يجد في رأسه غير وساوس الشباب وغماغم الهوى، ففزع إلى الكتاب ينقل منه نص الجواب، فأخذته عين المراقب! ثم كان ما يقتضيه القانون والخلق والنظام في مثل هذه الحال من طرد التلميذ وإلغاء امتحانه.

ولكن جنوب أفريقية - وأرجو أن تتذكر - له على شمالها امتيازات بالواسطة، يُدل بها على مصر ادلال الخادم بسطوة سيده، ويصول بسيفها صولة العبد بسيف مولاه! حملها أبو الغلام على ظهره عشية الحادث، وراح يهدج بها في فناء الدار المشرفة على النيل وعلى أمة النيل، فاهتزت الدار لشكواهِ حفاظاً وأنفة، وأقبلت حجرات الحراس على حجرات الخدم يتساءلن: أين إذن الامتياز إذا تساوى الأجنبي والوطني في قانون عام؟ وأين إذن الامتياز إذا جرى المحمى والمصري في الأمر على منهاج واحد؟!

وفي الصباح الباكر كان مدير المعهد جالساً إلى مكتبه يذكر الله على إيقاع المسبحة، وذِكْر الله تطمئن به القلوب وتشجع به الأنفس، ولكن جرس التليفون كان اليوم على ما خيل إلى المدير أحدّ رنيناً، وأشد صلصلة، فزعزع القلب المطمئن، وضعضع النفس القوية!

- ألو! ألو! مَن؟

- الإدارة العليا! أعد إلى الامتحان الطالب الذي أخرجته منه أمس

- كيف وقد غش في الإجابة، وضبطت معه أداة الغش، وضاع من أيام امتحانه يوم، وذهب من هذا النهار حصة، وأعلن إلى الملأ أمر رفضه؟؟

- أعد هذا الطالب من غير مناقشة!!

وكانت اللهجة حاسمة، والإجابة مفحمة، فخرس التليفون، وخشع المدير، وتقاصر المكتب، وخزى القانون، وبُهت الخلق، وعجب المدرسون والطلاب إذ رأوا التلميذ الذي طرد بالأمس، يعود إلى مكانه اليوم وهو أضخم مما كان جثة وانضر طلعة وأطول رقبة!!

تخالست العيون نظرات العجب، وتبادلت الشفاه بسمات السؤال، ولكن المكاتب الرسمية ظلت واجمة، والأسباب السحرية الرهيبة بقيت محجوبة، حتى أذن الله لها أن تظهر، فسكنت طبيعة المعهد، وركدت ريح الفناء، وثقلت حرارة الجو، وأخذ الدارَ ما يأخذ الأرضَ قبيل هبوب العاصفة!

وهنالك اقتحم الدار ذلك الأفريقي الذي رأيناه بالأمس يقرع الباب الأحمر، والامتيازات تجأر بالشكوى على ظهره، ثم أثار من حلقه عاصفة هوجاء ترمي بالسباب والسفه، فلم تدع كرامة على منصة، ولا مهابة على مكتب، ولا جلالة في الإدارة، حتى تناولتها بالعيب والزراية

من الذي جرؤ على أن يطرد ابني يا. . . . . أين ذهبت أوامركم بالأمس؟ ما حال قوانينكم اليوم؟ كيف ترفعون رءوسكم غداً؟ ثم تربد وجه الرجل وتزبد فوه فأرسل على القوم من فحش البذاء ما نحمد الله على الجهل برسمه حتى نكتبه!

برح الخفاء واستعلن السر، فسكن القوم سكون الطير في ثورة الطبيعة! فلما هدأت زمجرة الأسود الممتاز، وانصرف عنهم انصراف الليل المرعد عن الصباح الوديع، أفاقت الطير من دوُار الزوبعة، وفزعت إلىالإدارة العليا تستصرخها للكرامة، وتستعديها على الرجل، وتسألها أن تعارض شكاية بشكاية، وتقول في حرارة الموتور ومرارة النادم: لقد قال الرجل فأسرف، وسكتنا فأسرفنا!

وتشاء المصادفات العجيبة أن يكون بين يدي الإدارة آنئذ دلَو من الماء النمير البارد فتلقيه على ثورة الغضاب فتقر! ثم قالت لهم بتلك اللهجة الحاسمة والإشارة الحازمة:

نعما فعلتم! الحلم سيد الأخلاق

كان رجال الدين في العهود العزيزة مفزع الفضيلة المروعة، وملجأ الفضل المضطهد. يبغي الحاكم، ويجحف السلطان، ويطغى المستبد، حتى إذابلغوهم شدوا الشكيمة، وردوا الجماح، واستقاموا على الطريقة. ثم كانوا في حضرتهم يستكينون لسلطان الدين، وسيطرة الضمير، وعزة القناعة، وصراحة الخلق، وشجاعة القلب، وإعلان الحق في وجه الباطل وإن ذهبت عليه الدنيا، وأريقت في سبيله النفس

وكان من ورع رجال الدين في الأزمان الصالحة سياج على حمى الشريعة، يرد عنها خبائث الطمع، ونقائص المادة، فلا تُسخر للظلم، ولا تُستخدم للحكم، ولا تُستغل للهوى، وكانت كلمة العالم هي كلمة الله، يقولها فتعنو لها الجباه، وتجمد لها الشفاه، ويستقيم بها ميزان العدل.

فلما ابتلى المؤمنون بنفاق الحياة، وفُتن المتقون بزهرة الدنيا، وذل العلماء لشهوة الترف، فرغبوا في وجاهة المظهر، وفراهة المركب، ورفاهة العيش، سلبهم الله ميراث النبوة، وحرمهم جلالة الدين، فأصبحوا كسائر الناس، يجري عليهم ما يجري على غيرهم من ذل الامتيازات، وغل الحزازات، وعنت السياسة

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما

احمد حسن الزيات