مجلة الرسالة/العدد 49/في مدينة بروسة

مجلة الرسالة/العدد 49/في مدينة بروسة

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 06 - 1934



للدكتور عبد الوهاب عزام

هذه بروسة الجميلة تشرف العين على سهلها المشجر، تلوح سقوفها المسنّمة من خلال أشجارها منثورة في سفح الجبل وحضيضه. وهذا (يشيل جامع) الذي شاده السلطان العظيم (مجدّد الدولة) محمد بن بايزيد، وهو الذي اختاره القدر، بعد أن تقسمت اخوته الخطوب، ليجمع شتات الدولة بعد أن انفرط عقدها في موقعة أنقرة، وثوت الصاعقة رهن المحبس والقيد وبعد أن تنازع أشبال بايزيد ميراث أبيهم، وتمادى بهم الخلاف بضعة عشر عاماً. لقد قدر لمحمد أن يستأنف المسير في سبيل المجد الذي سلكه آباؤه. أين محمد ومجد محمد؟ تجيبك هذه القبة الخضراء وراء المسجد. فهناك رفات السلطان وبعض أبنائه.

وانظر إلى اليمن فهذا المسجد المشرف بين الأشجار على السفح، والذي يحاول السرو الباسق حوله أن يطاول منارتيه، هو مسجد الأمير محمد البخاري وهذه قبة ضريحه. وكم تحت هذه الأشجار من قبور عاذت بقبر هذا الرجل الصالح. ولله هذا الرجل العظيم، فما ينسى له التاريخ صرامته في الحق، ومجابهة السلطان بالنصح واللوم.

كان السلطان بايزيد يتهم بالخمر، فلما بنى مسجده الكبير دعا الأمير البخاري ليراه، وبيناهما يقلبان النظر في المسجد قال السلطان للشيخ: ما ترى في هذا المسجد العظيم؟ قال: حسن، ولكن لابد أن تقام في كل زاوية من زواياه حانة ليأتي السلطان إليه!

وأرى ذات اليمين جامع بايزيد تلوح قبتاه ومنارته، وبجانبه قبة تحنو على قبر السلطان العظيم. سطور من الخطوب والعبر لا تجد العين منها مهرباً.

ألا ترى إلى اليسار (أدلو جامع) ذا العشرين قبة؟ هذه قبته الكبيرة التي تنفذ الأضواء منها إلى الحوض الكبير، فيسيل عليه النور في ماء النافورة المنبجس ليل نهار؛ وكأن خريرها دعوة إلى الصلاة لا تفتر، وتسبيح مع المسبحين لا يصمت. وماذا على جدران هذا المسجد من بدائع الخط وسطور الجمال؟ لقد افتن الكتاب على مر العصور في تزيينها بكل آية من الخط الجميل، وإنها لحجة قائمة على الذين يريدون هجر الخط العربي إلى الكتابة اللاتينية. وكلما أدرت عيني في هذا المسرح الرائع عادت إلى هاتين المنارتين البيضاويتين المشرفتين على الجامع كأنهما شمعتان. وكل مآذن بروسة تشبه الشمعات، وما أشبه المآذن بالمصابيح: تهدي في ظلمات الضلال، وبحق سميت منارات.

وانظر هذا البرج البعيد على سفح الجبل في مكان من القلعة القديمة حيث قبرا الرجلين العظيمين عثمان وأورخان.

لست أرى جامع مراد الثاني وضريحه والقبور التي أطافت به وبينها قبر جم الأمير التعيس، ولا أبصر جامع مراد خداوند كار شهيد قوصوه، ولا قبر مشرفا على السهل منطوياً على سره وجلاله، ولا ينابيع المياه الحارة والباردة منبجسة بفنائه. وما أجمل ينابيع الماء في بروسة مساجدها وطرقها تلقى السائر حيثما توجه متدفقة بالحياة ليلا ونهارا.

وأين مسجد أورخان أقدم مساجد بروسة؟ غيبه عن عيني الجبل والشجر، ولكنه لم يغب عن القلب وجه المتواضع

وليت شعري ما خطب هذه المآذن الصغيرة، والقباب الخاملة المنثورة في المدينة؟ بناها قوم لم يبلغوا من حظ الدنيا ونباهة الذكر ما بلغ هؤلاء. ولعلهم كانوا أسعد حياة، وأعظم عند الله شأناً. وإن الجاه والمجد والسلطان وما يحيط بها من ضوضاء هذه الحياة لأسوأ ما يكافأ به الرجل الطيب ذو النفس الزكية في هذا العالم. فلا تأس على ما فات الصالحين من جلبة هذه السوق.

لا تقع عيني في مجلسي هذا إلا على أكداس من العبر، وأسطار من حظوظ البشر. وما أشقى هذه النفوس التي لا تقلب بصرها في هذا العالم إلا لتقرأ ما وراء صوره من عظات وآلام، يا لها ذكريات تجيش لها النفس، وينطلق بها الفكر في مسالك يعيا بها جهد المفكر.

لله بروسة الجميلة سهلها وجبلها، ودورها وشجرها، ولله فيها هذا التاريخ العظيم يملأ أرجاءها، ولله هذه النفس، كلما خلت وطلبت للفراغ مجلساً انهال عليها من العَبر والفكَر ما يكدّرها ويحزنها، وينفر بها عن الناس، ويسمو بها في معارج من الحقائق والخيال تلتبس فيها السعادة والشقاء.

أيها القلم حسبك، فما يتركني الناس أبلغ من خلوتي غايتها. فهاهم قد أقبلوا يتحدثون، وها هي أصوات النرد تُطير عنّي أسراب الأفكار. وقديماً قال أبو العلاء:

حوربتُ في كل مطلوب هممت به ... حتى زهدتُ فما خُلّيت والزهدا

إيه يا بروسة والدنيا غِيَر، والدهر قُلّب! ليت شعري، وأنا أحبك، وأود لو إنفسح الزمان للإقامة فيك أياماً، لتبلغ النفس من جمالك وجلالك أمانيها - ليت شعري أأراك مرة أخرى، أم تلك جلسة التسليم والتوديع إلى الأبد؟!. إنما العلم عند الله، وما نحن إلا ظلال متنقلة ليس لها من الأمر شيء.

عبد الوهاب عزام