مجلة الرسالة/العدد 491/عثرت به وعثرت عليه

مجلة الرسالة/العدد 491/عثرت به وعثرت عليه

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 11 - 1942



للأستاذ محمد مندور

لم يكن في عزمي أن أرد على زكريا أفندي إبراهيم لأن المناقشة لم تكن بيني وبينه، وإنما فعلت لأنني رأيته قد أثار مسألتين حسبت في إيضاحهما فائدة لعامة القراء وقد اعتمدت في تأييد استعمالي (لعثرت ب) على مبادئ لغوية عامة لم يقتصر العلم بها على الباحثين في علم اللسان بل سبقهم إليها ولحقهم الفلاسفة وكافة المفكرين. فاللغات كما قلت مجازات ميتة في الكثير من مفرداتها، فنحن عندما نقول بالفرنسية مثلا بمعنى (أتلف) نستعمل مجازاً ميتاً لم يعد يحس به أحد، وذلك لأن معنى هذا الفعل الاشتقاقي في اللغة الفرنسية هو (يلقى في هاوية) (هاوية: وكذلك الأمر في اللغة العربية، فالرفعة والسمو والانحطاط مثلاً كل هذه الألفاظ كانت معانيها الأولى حسية، ثم ماتت تلك المعاني وأصبحنا نستعمل تلك الألفاظ في الدلالة على الصفات المعنوية المعروفة، وهكذا مما لا حصر له في كافة اللغات. ولقد كانت هذه الحقيقة من الأسس التي بني عليها الفلاسفة الإنجليز أصحاب المذهب الحسي في المعرفة ومنابعها مذهبهم، إذ لاحظوا أن معظم ألفاظ اللغة كانت في الأصل تدل على معان تدركها الحواس ثم انتقلت إلى المعنويات

وعلى هذا يتضح لنا أن عثر في معناها الأصلي لم تكن تفيد الاطلاع مصادفة أو عن بحث في شيء، وإنما أفادت هذين المعنيين تجوزاً، وحروف الجر في كافة اللغات من أدوات نقل المعنى، ومن ثم فعندما نقول عثر ب، أو عثر على، يجب أن نحدد المفارقات بين الاستعمالين تبعاً لدلالة حرفي جر ومنحاهما في نقل المعنى. والذي لا أشك فيه أننا نقول (عثر الجواد بحجر) ونكون بذلك في حدود المعنى الحقيقي بحيث إذا تجوزنا أو قلنا عثرت بفكرة نكون أقرب ما يكون إلى مضمون المعنى الحقيقي أيضاً. ومن الواضح أن في ذلك المعنى ما يدل على المصادفة لأن الجواد لا يبحث عن حجر ليعثر به. وأما عندما نقول عثرت على فكرة، فالحس اللغوي يبصرنا بأننا هنا قد بعدنا عن المعني الحقيقي وما يحمل من دلالة المصادفة لأنه على الأقل يتضمن العثور بالفكرة ثم الوقوع عليها، وليس من الضروري أن نعثر بالشيء ثم نقع عليه إذ قد يفلت منا؛ فالعثور على الشيء فيه معنى إيجابي هو ما أحسست ولا أزال أحس فيه بمدلول البح وأياً ما يكون الأمر فأنا بعد لا أرى مانعاً ما دام المجاز قد مات في عثر وأصبح الفعل يدل على الاطلاع في الاستعمالين من أن نقصد (يعثر ب) إلى الاطلاع مصادفة و (عثر على) إلى الاطلاع عن بحث. واللغة، كما قلت، كائن حي من الواجب أن نغذيه باستمرار بأن ننوع من طرق الأداء فيها كما نحدد من تلك الطرق على نحو ما نشاهد في لغات الأمم المتحضرة كلها

هذا رأيي أقف عنده لأن الأصول العامة تكفي لتأييده. ومع ذلك فقد حمل إليّ البريد هذا الصباح خطاباً من صديقي عبد الرحمن بدوي الأستاذ بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول؛ وهاأنا أنسخ لكم خطابه. قال بعد المقدمة:

(أود أن ألفت نظرك إلى نقط لعل بعدك عن المصادر هو الذي حال بينك وبين التنبه إليها وفيها تأييد لما تقوله فيما يتصل بالتعبير (عثر به)

وأولى هذه النقط خيانة زكريا إبراهيم (وهو من تلاميذي الآن بالسنة الثالثة قسم الفلسفة) لنص (لين) إذ هو بتمامه يؤيد استعمال (عثر به) بمعنى اطلع عليه فهو يقول ما نصه:

; , ; عثر به

((وأشرس وعثر به

معجم لين ص1952 عمود (1) س3، 4 من أسفل.

وتحت مادة (أشرس) يذكر الشاهد الثاني: عثر بأشرس الدهر (أمثال الميداني المطبعة الخيرية بالقاهرة سنة 1310 ج1 ص313 س1 - 2)

وثاني هذه النقط أن (عثر على) بمعنى الاطلاع مصادفة وبلا طلب ليس متفقاً عليها بين اللغويين والمفسرين. فالذي يوردها صراحة من بين اللغويين الراغب الأصفهاني في (مفرداته) (تاج العروس) للزبيدي (وهو الذي يشير إليه لين هنا في الإشارة وغالب المفسرين عند كلامهم على الآية (وكذلك أعثرنا عليهم) والآية (فإذا عثر على أنهما استحقا إثما) يقولون إنها لا تدل على الاطلاع مصادفة. فالقرطبي يقول: (الجامع لأحكام القرآن ج6 ص358 طبع دار الكتب سنة 1938) (ومنه قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم) لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفي عليهم موضعهم) أي الناس الذين كانوا يبحثون عن أهل الكهف. ويرجح رأي هؤلاء أن الآية (فإذا عثر على أنهما استحقا إثما) يقصد منها كما يقول الرازي (ج3 ص478 المطبعة العامرة الشرقية. الطبعة الأولى سنة 1308 بالقاهرة). (فإن حصل العثور والوقوف على أنهما (أي الأمينين على الوصية التي يوصي بها من بات بأرض ليس فيها مسلم) أتيا بخيانة واستحقا الإثم بسبب اليمين الكاذبة، أي أن المعنى هو (فإن وجد أنهما. . .) وإلا فلا يصح حكم الآية إن وجد بعد التحقيق أنهما خانا. وهذا ما لا يمكن أن يكون القرآن قد قصده. وفيما يتصل بآية أهل الكهف (وكذلك أعثرنا عليهم) فالقصد هنا من الله واضح لأنه قصد أن يدل بعض الناس على وجود أهل الكهف فليس هنا مصادفة إذن.

ويؤيد كلامك أو شعورك بوجود معنى المصادفة في (عثر به) أكثر مما هو في (عثر عليه) أن الأصل في (عثر عليه) هو (أن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه، فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو، فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفياً عليه قد عثر عليه) (الرازي في الموضع نفسه)، فعثر به هي الأصل، وعثر عليه هي المجاز؛ وعثر فيها معنى المصادفة من أصلها فما هو أقرب إلى الأصل وهو عثر به يكون معنى المصادفة فيه أقوى

ونقطة ثالثة هي أنك لست أول من استعملها بهذا المعنى فقد وجدت إنها استعملت مرارا من قبل. أذكر منها الآن ما يلي إلى جانب ما أورده لين في المثل: (عثر بأشرس الدهر)

(1) استعملها ابن هانئ الأندلسي المتوفى سنة 362هـ حين قال:

منعوك من سنة الكرى وسروا فلو ... عثروا بطيفٍ طارقٍ ظنوك

(راجع ديوان ابن هانئ تصحيح الدكتور زاهد علي. مطبعة المعارف سنة 1352هـ ص531)

(ب) واستعملها ابن خلدون المتوفى سنة 808هـ حين قال:

(عثر بمجمعهم اتفاقاً) (تاريخ ابن خلدون طبعة دي سلان. الجزائر سنة 1847 ج2 ص342 س10 - وراجع دوزي: ملحق المعاجم العربية تحت مادة عثر ج2 ص95 عمود1 - الطبعة الثانية سنة 1927). . . . . .)

عبد الرحمن بدوي

. . . انتهى خطاب الأستاذ عن هذه المسألة.

وإذن فأنت ترى - كرئيس تحرير لمجلة محترمة - ولاشك يرى معك القراء أنني لست ميجارياً في محاجتي كما وصفني تلميذنا زكريا إبراهيم ونحن لا ريب نفتح صدورنا لنقد تلاميذنا، بل وأقول مخلصاً إننا نفرح به ونحثهم عليه، ولكن على أن يكون في حدود اللياقة؛ بل وخير من ذلك أن يكون في حدود الحقيقة والعلم الصحيح، وذلك لأنني لا أرى سفسطة في دفاعي عن عثرت به التي أفادت المعنى الذي أردت العبارة عنه مع عدم خروجها عن أصول اللغات عامة بما فيها لغتنا

وإن كان هناك شيء أنكره من زكريا إبراهيم، فهو عدم الأمانة العلمية، لأن اليوم الذي نرى فيه طلبتنا يتصرفون في نص لكي يحاجوا أستاذهم محاجة في هذا العناد أعتبره يوم فشل لكل مجهوداتنا العلمية ويوم حزن لي لا يعرف مداه إلا الله

محمد مندور