مجلة الرسالة/العدد 496/خواطر ليلة الميلاد
مجلة الرسالة/العدد 496/خواطر ليلة الميلاد
للدكتور زكي مبارك
كان لي مع هذه الليلة تواريخ في القاهرة وباريس، تواريخ أبدعها الجو الطروب أو الجو العبوس، فقد كان يتفق في أحيان كثيرة أن تحمل ليلة الميلاد أكداراً ومنغصات، لأن الغالب في البيوت الفرنسية أن يكون الزوجان عاشقين، وأن تكون نيران الغيرة مما يشب في ليلة العيد حول (شجرة الميلاد)، وما أسعد من يعيش وهو معذب بلواذع الوجدان!
ما أذكر مرة أن تلك الليلة مضت بدون عواصف، إلا أن تكون في بيوت فرغ أهلها من مصارعة الأهواء، وهي فيما عدا ذلك ليلة متاعب وكروب
وهذه الظاهرة هي سر جمال هذه الليلة، فاصطراع العواطف ميلادٌ جديد، وقد يفعل فعل السحر في إحياء المشاعر والقلوب
كنت أقضي هذه الليلة في بيوت أعرف من أحوالها أشياء، فكنت أفهم الرموز والتلاميح، وكنت أجد التفاسير لبعض دقائق الأدب الفرنسي، وهو أدبٌ قام على أساس الفهم للسريرة الإنسانية، وسيعيش إلى أزمان وأزمان، ما دام في الدنيا ناس يحبون الأدب الصادق الصريح
ثم جاءت هذه الحرب فقضت في مصير فرنسا بما قضيت، ولم يبق لأصدقائي الفرنسيين من زاد غير الحزن الوجيع، فأنا لا أزورهم في ليلة الميلاد كما كنت أصنع، ولا ألقاهم إلا في الحين بعد الحين، فهناك أحزان تؤرثها المؤاساة وتزيدها اشتعالاً إلى اشتعال
وهنا أذكر أني عرفت أخيراً أن سقوط باريس لم يحزن أهل باريس بقدر ما نتصور، ولم يشعرهم بمعاني الامتهان. وتفسير ذلك عند الأستاذ توفيق وهبة أنهم قوم تعودوا الهزائم والانتصارات، ولم تكن الدنيا في أنظارهم غير مواسم للانخفاض والارتفاع
ولكني مع هذا أقرر أن حال الفرنسيين المقيمين بمصر يختلف عن حال مواطنيهم هناك، لأن المغترب يتعلق بوطنه تعلقاً لا يحسه المقيم، وقد تأكد عندي هذا المعنى في الأعوام التي قضيتها في باريس وفي بغداد، فقد كان الخبر السيئ يؤرق نومي مهما صغر وهان، وكان أي حرف يكتب ضد مصر يؤذيني، فأرد عليه في الحال
أكتب هذه السطور في ليلة الميلاد، وفي خيالي بيوت عزيزة كنت أحب أن أراها وكانت تحب أن تراني. وسيقول قومٌ كلاماً كالذي قالوه يوم نشرت (الرسالة) مقالي في التفجع لسقوط باريس!
كانت فرنسا أمةً استعمارية فشمت بانهزامها من يؤذيهم بغيُ المستعمرين، وفاتهم أن فرنسا أعطت جميع الشعوب درساً سينتفعون به حامدين أو جاحدين
كانت فرنسا ترى أن اللغة هي عنوان الأمة، وكانت ترى أن الوطن الذي لا يسيطر بالفكر على خصومه ومنافسيه وطن ضعيف. ومن أجل هذا أنفقت فرنسا ما أنفقت من الأموال ليكون لها مدارس في جميع البلاد، وبفضل هذه العناية صارت اللغة الفرنسية لغة دولية، وصار من حق الفرنسي أن يعفي نفسه من العناء في تعلم اللغات، لأنه سيجد من يتفاهم معهم بلغته في أي بلد يتوجه إليه، ولو في الصين!
اقترحتُ في سنة 1938 أن ننشئ مدرسة مصرية تنافس المدرسة الفرنسية في طهران، فلم أجد من يسمع كلامي. وأين من يعرف أن طهران جريدة إيرانية لغتها الفرنسية؟
فوجئت يوماً وأنا بدار المعلمين العالية في بغداد بمجموعات فخمة ضخمة من المؤلفات الفرنسية، وحين سألت عن مصدرها عرفت أنها هدية مرسلة من باريس
وقد استوحيت هذا الشاهد فاقترحت فيما بعد أن ترسل وزارة المعارف المصرية هدايا من الكتب المكدسة في المخازن إلى المدارس الأجنبية، فترددت الوزارة عامين، ثم تلطفت فأهدت مجموعات هزيلة، مع أن في مخازنها مجلدات مهجورة ستباع يوماً بلا ميزان، لأن حراستها وصيانتها تجشمان الوزارة ضروباً من التكاليف
كانت فرنسا تقول بمبادلة الأساتذة والتلاميذ، لتعطي وتأخذ، ولتفيد وتستفيد، وقد أقامت في إحدى ضواحي باريس مدينة تبني فيها أية أمة لأبنائها ما تشاء، ولقد استفادت أممٌ كثيرة من هذه المزية، إلا مصر، ولهذا تفضيلٌ قد يتأذى الشمسي باشا من تسجيله في هذا الحديث
ونحن اليوم في أوج صلاتنا مع الشرق، فعند الشرق مدرسون مصريون يعدون بالمئات، ومع هذا لم تفكر مصر في رد الجميل
ما الذي يمنع من أن تستقدم مصر بعض الأساتذة من الشرق ليدرسوا في معاهدها العالية بأساليبهم الخواص: فهذا في كلية الآداب، وذاك في دار العلوم، وذلك في كلية اللغة العربية، إلى آخر ما يصلح له علماء الشرق؟ ليس معنى هذا أن مصر في احتياج إلى مدرسين، وكيف وفي خريجي المعاهد العالية شبان أكفاء لا يجدون ما أعدوا له من المناصب التعليمية؟
إن لهذه المسألة وضعاً غير هذا الوضع، والمراد هو أن تفكير مصر في إتاحة الفرصة لبعض أساتذة الشرق، الفرصة التي تمكنهم من الوقوف على التيارات العلمية والأدبية في الديار المصرية؛ فمصر اليوم في ازدهار علمي وأدبي لم تشهد مثله من قبل، وهو ازدهار يوحي إلى الأساتذة أكثر مما يوحي إلى الطلاب، وقد يكون في وجود أولئك الأساتذة فرص لمنافسات علمية وأدبية تعود علينا بأجزل النفع، وقد يكون في وجودهم خير للطلبة الذين حضروا إلينا من بلادهم، فأنا ألاحظ أن أكثر الطلبة الشرقيين لا يجدون من يعاونهم على الاستفادة الصحيحة من الإقامة بهذه البلاد
خطر في بالي مرة أن أقترح على مشيخة الأزهر الشريف أن تنشئ كرسياً للفقه الجعفري، وكان هذا الخاطر لأني لاحظت أن النضال بين المذاهب الفقهية قد انعدم في مصر أو كاد، مع أن لمصر في التشريع الإسلامي تاريخاً من أمجد التواريخ
إن مناصب (شيوخ المذاهب) صارت مناصب شكلية بسبب السلام الذي ساد بين المذاهب، وهل نسمع اليوم خبراً عن شيخ الشافعية أو شيخ المالكية؟
إن النضال بين المذاهب أدى للتفكير الإسلامي خدمات تفوق الإحصاء، وله فضلٌ عظيم في مرونة اللغة العربية، وأكاد أجزم بأن الفقهاء خدموا اللغة أكثر مما خدمها الشعراء
لو استقدمنا عالما شرقياً لتدريس الفقه الجعفري بالأزهر لأثرنا النضال بين المذاهب من جديد، وأعطينا مصر فرصة عظيمة ليقظة فكرية نادرة المثال
إن مصر في عهدها الحاضر تنشئ تاريخاً جديداً في الشرق، وهي في طريق الوصول إلى عقد معاهدات ثقافية مع أكثر أمم الشرق، وهذا يوجب عليها أن تعرف الشرق أكثر مما تعرف، فيكون لها فيه سفراء روحيون، ويكون عندها منه سفراء روحيون
لو دعونا جماعة من أساتذة الشرق ليحدثونا عما في بلادهم من تقاليد وآراء وآداب لحمدوا لنا هذا الصنيع، وعدوه تلطفاً يستحق الثناء
ويظهر أنه لا بد من إنشاء قلم بوزارة الخارجية لمراجعة ما يكتب عن مصر في جرائد الشرق، وتكون مهمته المبادرة إلى تصحيح ما يستوجب التصحيح، وتكون مهمته أيضاً أن يستصدر أعداداً خاصة من بعض جرائد الشرق للتعريف بمصر كالذي تصنع وزارة الخارجية في استصدار أعداد خاصة من بعض الجرائد الإنجليزية والأمريكية
وهنا أشير إلى حادث ما ذكرته إلا شعرت بالحزن يعصر قلبي
في سنة 1939 أصدرت مجلة (الحديث) ومجلة (العرفان) ومجلة (المكشوف) أعداداً خاصة بمصر، أعداداً نفسية جداً، ومع هذا لم أستطع إقناع وزارة المعارف بأن تشتري من تلك الأعداد مجموعات لمكتبات المدارس، ليعرف الذين فكروا في التنويه بمصر أن كرمهم لا يضيع
وفي تلك الأيام كنت أقترح على الأستاذ الزيات أن تصدر الرسالة أعداداً خاصة عن الأمم العربية فرحب بالاقتراح وأجل تنفيذه إلى انقضاء الصيف، ثم بدا له بعد ذلك أن يواجه المشروع من جديد، فصدته أزمة الورق عما يريد
مالي ولهذا الكلام؟
هذه ليلة الميلاد، والأثير ينقل إلى سمعي بعض ما يثور في شوارع مصر الجديدة من عجيج وضجيج، فكيف آثرتُ الاعتكاف في هذه الليلة، وقد تفضل شهر ذي الحجة فجعلها قمراء؟
لعني أردت الخلوة إلى قلمي، وهو الأنس الأنيس عند اعتكار الظلمات في دياجي الزمان
لعني أردت بهذه الخطوات القومية أن أتجنب الخلوة إلى قلبي، وهو عدوٌ صديق
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواٌ لهُ ما من صداقته بُدُ
قضيت ما قضيت من حياتي في دراسة الجمال، حيثما كان الجمال، فأنا لا أضيف حرفاً إلى حرف إلا بميزان، وأنا أصادق وأعادي بوحي الذوق لا بوحي النفع، وما الموجب لأن أكون نفعياً وقد أغناني الله عن جميع الخلائق، ولم أعرف ما الظمأ والجوع في أي يوم، ولا جاز في وهمي أن أتصور أن الله قد يتخلى عني؟
لي صداقات كثيرة مع أرواح تنطق بالأوراق لا بالألفاظ، وأقسم جهد اليمين أن بحديقة داري في سنتريس أشجاراً يعتريها الذبول إن صدقت عنها أسابيع
لي صديق هو اليوم أحد مدرسي الفلسفة بكلية الآداب، وهو الأستاذ محمود الخضيري، وكان لي معه حديث في (ايسكوار مونج) في نوفمبر سنة 1930، فما ذلك الحديث؟ كنت أجلس في بعض الضحوات (بذلك الإيكسوار)، وهو حديقة الحي في الإصلاح الفرنسي، كنت أجلس تحت شجرة يؤنسها أن ترى رجلاً بيده كتاب، وكان أصدقائي من بعثة الجامعة المصرية يعرفون كيف يلقونني هناك. وفي ذات يوم حضر الأستاذ محمود الخضيري فوجدني أجادل رجلاً يحاول تشذيب تلك الشجرة بعنف، فأنكر عليّ ما أصنع، فقلت إن الشجرة تصرخ، ومن واجب من استظل بظلها أن يدفع عنها العدوان. فقال: وهل يحس الشجر والنبات؟ فقلت: نعم، ويتألم الشجر والنبات كما يتألم الحيوان!
وبعد شهور حدثتنا جرائد باريس أن جلالة الملك فؤاد قد استقدم عالماً هندياً اسمه (بوز) ليلقي في الجمعية الجغرافية محاضرات عن نظريته في إحساس النبات!
إحساسي بالوجود هو سبب عنائي، ولو عرف الناس هذا العناء لقاتلوني عليه، فهو أطيب الأطايب في ثمرات الحياة
لم أدخل بلداً إلا أحببته أصدق الحب، لأني أرى بضميري وجه الله في كل مكان. وما صادقت إنساناً وغدرت به أبداً، لأني أرى الصداقة من أظهر الدلائل على صحة القول بوحدة الوجود
وأنا أترحم وأتحسر وأنفجع كلما رأيت إنساناً يكذب أو ينافق في سبيل العيش، فالموت الذي يخافه الناس لن يصل يوماً عن طريق الجوع. ولو نظر الناس في أسباب أمراضهم لوجودها ترجع إلى الإفراط في الطعام والشراب ولو كانوا من الفقراء
ثم ماذا؟ ثم يبقى جواب الخطاب الوارد من (الأرمان) فماذا يريد ذلك الخطاب؟
هو يريد أن تكون مقالاتي كلها على غرار (دار الهوى في عيد القمر)، فأين أنا مما يريد؟ وأين الأعصاب التي تستطيع تدبيج تلك الأحاسيس في كل أسبوع؟
أمام عيني وبين يدي أرواحٌ موقوذة هي المقالات التي سطرتها بدمي، ولا أستطيع نشرها بأي حال، لأنها تخالف المألوف من تقاليد هذا الزمان
ثم يحاسبني ذلك الخطاب على هفوات قلمي، كأنه يجهل أني أمتشق القلم في كل مساء، وأني أراود أبكار المعاني في يقظتي ومنامي
أما بعد فهذه ليلة الميلاد، وقد قضيتها وحيداً فريداً لأتقي الله في نفسي فلا أعرضها لشواجر الأرواح وعواطف القلوب وقد بقيت ليلة ستأتي بعد ليال، وهي ليلة العام الجديد، وأغلب الظن أني سأحرم نعيمها على نفسي، لأني نذرت التبتل بعد فراق من تلقيت عنهم وحي الروح في اللحظة التي تفصِل بين العام الذاهب والعام الوليد
ما جزعي على ما مضى من أيامي، ولم يعيش أحد كما عشت، ولا استجاب الوجود لنداء شاعر كما استجاب لندائي؟
ماذا صنع الدهر بهم؟ ماذا صنع؟
إن دنياي بعدهم وهمٌ في وهم، وخيالٌ في خيال، ولن أتذوق طيب الحياة إلا بعد أن يصفحوا عني
إن ذنبي عندهم أني صيرت حياتهم أفانين من الارتياع والانزعاج. . . فهل يجهلون ما صنعوا بحياتي؟ وهل يجهلون أن الجروح قصاص؟
قد كان لي قبلكم حبٌ وكنت فتى ... لظل سلطانهِ أهلُ الهوى تَبَعُ
فكيف أشقيتموني كيف لا رَضِيَتْ ... ولا أرتني الليالي كيف أرتدعُ
هبوا فؤادي سلا واجتاز محنتهُ ... فمن بسلوة قلب الصب ينتفع
يا غاضبين تعالَوْا تشهدوا كبداً ... رجاؤها في خيال البرء منقطع
هوًى تهاوت أمانيه فليس لهُ ... فيما تجود به الأوهامُ منتفَع
هوى خلقتم وأفنيتم، ولا عجبٌ ... بعض الأحباء في قتل الهوى صَنَعُ
لا تحسبوا هجركم خطباً يروِّعني ... إني بوأد بنات الدهر مضطلعُ
زكي مبارك