مجلة الرسالة/العدد 496/ذكرى المغفور له

مجلة الرسالة/العدد 496/ذكرى المغفور له

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 01 - 1943



أمين الرافعي بك

للأستاذ علي عبد الله

كان اليوم التاسع والعشرون من ديسمبر الماضي موعد الذكرى الخامسة عشرة لوفاة فقيد الوطن المغفور له أمين الرافعي بك

وليس أحق بالتكريم ولا أولى بالوفاء من ذكرى هذا الرجل الذي عاش حياته كلها يدافع عن الحق ويدعو إلى الله على بصيرة، ويبذل من ماله ومن دمه في سبيل أمته ما ليس وراءه غاية لمريد، ولا زيادة لمستزيد. ولو عرفنا أقدار الرجال بالمعنى الذي تعرفه الأمم الأخرى، لجعلنا ذكرى وفاة هذا المجاهد الصادق يوماً من أيام القومية المصرية، ولاتخذنا حياته الحافلة بالعظائم والجلائل نموذجاً لكمال الأخلاق، وشرف التضحية، والنزاهة المطلقة، وجعلنا من سيرته العاطرة كتاباً في الوطنية يدرسه الناشئون، ويسير على قواعده العاملون!

ولكنا من سوء الحظ نؤمن بالمظاهر دون الحقائق، ولا نعرف قيم الرجال إلا بمقدار ما لهم من الحول والطول، وما حولهم من المتاع والحطام! ولست أدري كيف ترجو الخير أمة تنسى حقوق أبنائها الذين استشهدوا في ميدان التضحية، وكتبوا صحائف جهادها الوطني بمداد من دمائهم، وقطرات من ذوب نفوسهم! ومن المؤلم حقاً أن يوجد في الأمة المصرية من يجهل فضل أمين الرافعي عليها، وهو رجل يعتبر تاريخه تاريخاً للحركة الوطنية في جميع أدوارها؛ إذ كان له في كل ميدان جولة، وفي كل معترك صولة؛ وكان قلمه سيفاً في يد الحق، إذا تصدى للباطل زهق، وإذا انبرى للطغيان مرق؛ كأنما كانت تؤيده السماء بالتوفيق، وتمده القدرة بالإلهام، ويوجهه الإيمان إلى السداد. ما عالج موضوعاً إلا أصاب الهدف، ونفذ إلى الصميم، وانتهى منه إلى الغاية المرجوة، لا سلاح له غير الحجة البالغة، والدليل الواضح، وقواعد البحث الدقيق، وقضايا المنطق السليم!

ولقد كان أمين عليه رحمة الله الكاتب الوحيد الذي حفظ الله قلمه من العثار، وعصم لسانه من الفحش؛ فما جارت الخصومة في يوم من الأيام على أخلاقه ولا ورطته العداوة في الكتابة إلى كلمة نابية أو عبارة مؤذية لا يرضى عنها الخلق، ولا يطمئن إليها الضمير.

على أنه لم يكن يخاصم إلا في الله والوطن والحق. ولم تعرف له في حياته خصومة شخصية، لأنه كان ينظر إلى زخارف هذه الدنيا بعين الزهد والاحتقار. ولقد حاول الكثيرون أن يشتروا قلمه أو يخففوا من حدته بالكثير من المال والجاه فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً. وعرضت عليه وظائف الدولة الكبرى، فكان جوابه: (لا تفسدوا عليّ إيماني؛ فأنا لم أخلق لهذه الوظائف!) وكان نعم العون للمرحوم سعد باشا زغلول؛ وكان سعد يؤثره برسائله وهو مع الوفد في باريس ويبدأ كتبه إليه بقوله: أخي أمين!. . .

وحينما اختلف معه في مبدأ المفاوضات، كان سعد مع ذلك يثق به ويلقبه بالخصم الشريف، والرجل النزيه. وكان يستعير منه الوثائق الخاصة بتسجيل أعمال الوزارات. ولما نفي إلى سيشل كان أمين أول المدافعين عنه مع اختلافه معه في الرأي، كما كان أول من نقد طريقة وضع الدستور. وفي ذلك يقول سعد باشا: إن أميناً كأنما يستمليني ما يكتبه. . . ومن مفاخر أمين التي تدل على التضحية والشجاعة أنه في سنة 1914 حينما أعلنت إنجلترا الحماية على مصر وقضت الأحكام العرفية على الصحف بنشر البلاغات الرسمية ومنها بلاغ الحماية، لم يشأ أمين أن ينشر في جريدة الشعب - الذي كان يتولى تحريرها في ذلك الحين - بلاغ الحماية، وقرر تعطيلها من تلقاء نفسه لكيلا ينشر فيها هذا البلاغ، ورضى بما ترتب على ذلك من السجن والاعتقال؛ وقضى مدة السجن صابراً راضياً وخرج منه مؤمناً قوي النفس والقلب. ونستطيع أن ندرك مبلغ التضحية إذا عرفنا أن جريدة الشعب كانت كل شيء في البلد لأنها كانت جريدة الحركة الوطنية، وكان الشعب يتلقف أعدادها بشوق وشغف. ثم تستطيع أن تؤمن بالرجولة الكاملة حين تعرف أن أمين الرافعي كان الرجل الوحيد الذي احتج على بلاغ الحماية البريطانية بعدم نشره!!

ومن أعظم الأمثلة الدالة على عبقريته وسعة علمه بالشؤون الدستورية - أنه الصحفي الوحيد الذي نبه الأمة والزعماء والأحزاب إلى أن قرار حل مجلس النواب يعتبر باطلاً لأنه لم يحدد فيه موعد الانتخاب والتاريخ الذي يجتمع فيه المجلس. وما دام البرلمان لم يدع فإن من حقه أن يستأنف وجوده؛ لأن قرار الحل يعتبر ملغي. وأخذ الزعماء بهذا الرأي واجتمع البرلمان في فندق الكونتنيتال في يوم السبت الثالث من نوفمبر سنة 1925 واتحدت الأمة والأحزاب، وعادت الحياة النيابية إلى البلاد، وانتفع الجميع بفضل هذا الرأي ما عدا أمين الرافعي فقد كان الشخص الوحيد الذي لم ينتفع بشيء من هذا، واكتفى من كل ذلك بقوله: (لقد سررت بإنقاذ الدستور وفوز الأمة وارتاح ضميري ارتياح من يشعر بأن الله قد وفقه إلى دعوة صالحة كتب لها التحقيق والنجاح!)

وفي وسعنا أن نعرف مبلغ إيمان أمين وثباته من قوله: (يرى المؤمن الثابت العقيدة أن عقيدته مقدسة لا تحتمل تفريطاً ولا زعزعة، وأن لها من ضميره حارساً قوياً، فإذا وسوس له الشيطان أن يهمل هذه العقيدة على أية صورة من الصور، كان صوت الضمير وحده كافياً لأن يقطع على الشيطان وسوسته ويرده مدحوراً. وإذا ما تقدم خصوم العقيدة الثابتة بأموالهم الوفيرة، وهباتهم العظيمة، ووعودهم الخلابة؛ كي يلعبوا بالعقول ويزعزعوا الإيمان، وجدوا من يقظة ضمير المؤمن أكبر مخيب لآمالهم؛ لأن هذا الضمير الخالص الذي لا يخضع للماديات ولا يتأثر بأثرها المفسد لا يلبث أن يصيح بصاحبه: إياك والانخداع بما يعرضون عليك مهما عظم شأنه، فإن كنوز الأرض لا تعدل شرف الإنسان. ومتى استطاع المرء أن يحتفظ بشرفه فكل ما يفقده بعد ذلك لا يقام له وزن. لأن الحياة الشريفة يمكن احتمالها مهما بلغت مرارتها، أما الحياة المجردة من الشرف فإنها لا تساوي قلامة ظفر. وليست أيام الجهود والتعب والألم أسوأ أيام الإنسان. ويكفي صاحب المبدأ تشجيعاً أن ينال شيئاً من المكافأة المعنوية بأن يرى مبدأه يصيب بعض الفوز. . .

ومن المقرر أن المرء لا يجوز أن يشغل نفسه بمستقبل نفسه متى كان ضميره مرتاحاً وروحه مطمئنة وشعاره القيام بالواجب، وفعل ما يأمر به الضمير. وما عدا ذلك فليدعه لله تعالى لأنه من خصائصه وشئونه. وإذا كان في تأدية الواجب ما يورث الألم، فيجب أن يتحمل الإنسان الألم بغير مضض. لأن الآلام موجودة في هذا العالم ولكل مخلوق نصيبه منها)

وكان أمين عليه رضوان الله يستفتح يومه بتلاوة القرآن ويدعو بدعاء الرسول عليه السلام: (اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حرباً لأعدائك. نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة. وهذا الجهد، وعليك التكلان) ثم يتلو هذه الآية الكريمة (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) وبعد، فهذا قليل مما أعرف عن هذا الرجل العظيم أكتبه في مناسبة ذكراه الكريمة، وأبعث إلى روحه في مقاعد الصديقين والأبرار بأعطر التحيات وأطيب السلام

(المنصورة)

علي عبد الله