مجلة الرسالة/العدد 496/وحي العام الجديد
مجلة الرسالة/العدد 496/وحي العام الجديد
المصباح الأحمر
للأستاذ محمود الشرقاوي
هاأنذا أعود إليك. أيها المصباح الأحمر!
أعود إليك يا مصباحي الأحمر ولكني إنسان جديد.
ها أنت ذا كما كنت. يسطع نورك على قرطاسي ويغمر وجهي وأشعر بدفئك الرقيق يلمس جبيني في برد هذا الليل.
هذا هو الليل الساكن والدهر يحبو إلى عام جديد. وهذا نورك في غرفتي وبهجة لونك، هذا كل شيء كما كان، ولكني أنا إنسان جديد.
إني أكاد أشعر منك بالحياة يا مصباحي الأحمر ويخيل لي أنك تهمس وأنك تناجي وتذكر، لا بل إنك تنبض وتخفق أو تكاد تنطق.
إني أحس ما تريد أن تهمس وأن تقول، وإني أناجيك به وحدك وقد سكن الليل كأنما الليل وظلامه قد سكنا إلى النوم كما نام السعداء من الناس؛ لم يبق سواك وسواي يقظان.
لا تسلني أيها المصباح الأحمر فسأحدثك، وحديثي لك وحدك. لم يبق من يستمع حديثي ويصغي. لقد كنت منذ سنين شاهدي وسميري حين أكتب إلى من أعزهم، وكنت تبهج مكاني ويغمر جبيني دفئك في برد هذا الليل، كما يغمر قلبي ويشمل كياني الفرح الشامل السعيد حين أكتب لمن أحب. وحين يغمر قلبي ويغمر كياني ذلك الفرح الهادئ البهيج والنشوة التي تكاد تحملني فأخف معها وأنا أتلو رسائل من أحب، أسترجعها وأتلوها وأقف عند كل حرف فيها أستوحيه وأشعر منه بالسعادة وباللذة لا تساوي عندي الدنيا كلها رسالةً منها.
كنت شاهدي وسميري أكاد أحس فرحتك معي وبهجة نورك من بهجتي ومن نور قلبي، والآن أنت وحدك الذي أخاطب وأنت الشاهد والغائب، فقد ذهب العزيزان ولم يبق لي سواكَ من يصغي.
لا تسلني أيها المصباح الأحمر عن رسائل الثلاثاء من كل أسبوع، ولا عن رسائل الأحد من كل أسبوعين، ولا عن رسائل الغائب البعيد من وراء البحار إنك تعرف وتذكر من أمسياتي ومن ليالي هذه الساعات الطويلة يتبع بعضها بعضاً وأنت تفيض بالدفء على جبيني وبالنور على وجهي وقرطاسي وأنا مستغرق كما يستغرق الصوفي غيبوبة السعادة والمناجاة والتوجه، وهذه السطور والكلمات تلتوي وتنحدر ولا أشعر كيف تكتب ولا كيف يجري بها قلمي، ولكني أعرف كيف يمتلئ بها كياني وكيف يفيض بها قلبي وكيف يتحرق بها دمي. والليل ساج وليس من ساهر سواك وسواي، وأنا بالغيبوبة سعيد وبالليل سعيد
لقد ذهب العزيزان أيها المصباح فماذا أبقيا لقلبي؟
فرحت بهما حيناً من الدهر وأحببتهما الدهر كله وأقمت منهما وبهما القصور الشوامخ من الرجاء ومن بهيج الأمل، وكنت شاهدي وسميري حين أكتب إليهما في سكون الليل فأشد من عزم أحدهما وأهون له الأمور الصعاب أمنية بالرجاء والأمل، وأضع حياتي وقوتي وكدح نهاري وسهد ليلي له وحده، إنه أخي
وكنت شاهدي وسميري حين أكتب إلى أحدهما أقويه وأحييه وأبثه، وأرقب معه الحياة والصفو، وأجعل ما بقي من قوتي، وأجعل شبابي ومنامي ومقبل أيامي وهنيء عيشي بعد الكفاح المبذول والجهد الموصول، أجعل هذا كله منه وله؛ إنه حبيبي
كان سندي وكان محرابي وكان الواحة الهنيئة الحلوة المظلة في جدب أيامي، فانهار منه سندي وانهدم المحراب على العابد، وما خلته الواحة الهنيئة الحلوة كان السراب، وكان بردُ مائها العلقم. . .
قال لي وقلت: أصبر. فصبرت، حتى أفناني الصبر. وما صبر هو
أنت تعرف أيها المصباح الأحمر، إنهما كانا أخي وحبيبي.
أما أحدهما فقد خبطه الموت عشواء، وأما الآخر فقد خبطته الحياة، وللحياة خبط أشد مما يخبط الموت
لم أعد أكتب على ضوئك ودفئك أيها المصباح الأحمر رسائل الثلاثاء، ولا رسائل الأحد، ولا أكتب للغائب البعيد.
الذين أحببتهم ورجوتهم، والذين أناجيهم وأريدهم، وأناديهم وأفتقدهم، والذين قضيت عمري كله أرتقب قربهم ذهبوا لا يعودون، أحدهما بين التراب، والأخر أبعد من رفيع السحاب والذين لا أريدهم ولا أرجوهم ولا أفتقد بعدهم يعودون فأذكر بهم من لا يعودون فهم لقلبي حرقة
والذين أجدهم وقد أرجوهم. . . أيها المصباح الأحمر. . . إنك في زعمي تحس وتعرف فلن أبوح إليك
ماذا أقول يا مصباحي الأحمر؟ هذا لونك البهيج فيه الحياة والدم والفتوة؛ وهذا هو الزمن يحبو إلى عام جديد، وهذا دفئك يلمس جبيني ويغمر وجهي وقرطاسي. . . أكاد أسمع وقع إشعاعك وأسمع لمس دفئك في سكون الليل وأنا أكتب
أكتب عن عزيزي لا لهما، ويا بعد ما أكتب وما كنت أكتب! وما كل طلٍ طل، أكتب على ضوئك أبكيهم لا أناديهم وهيهات. . .! ما مضى لن يعود
هذا عام جديد كنت سوالفه أكتب لهما بالأمل والنجوى عن مقبل الأيام
والآن كلما حل عام جديد كتب وقد أغلقت قلبي وأغمضت عن مقبل أيامي، أنطوي على سالف الذي كان
هذا ضوءك أيها المصباح وهذه غرفتي، غرفة باردة، طقسها بارد، ولكنها حارة الذكريات
كل شيء كما كان، لم يتغير سواي. هل تقول أيها المصباح إني ما تغيرت، بل تلاشيت وانتهيت؟ لعني أيها المصباح الأحمر!
لقد ذهب العزيزان فماذا أبقيا لقلبي؟ إنها الحسرات
وقد أحسست من قلبي أيها المصباح كيف كان قلبي يعرف السعادة، ويشعر بالحب، ويبتهج بالرجاء، ويرتقب الأمل، ويصبر على الأيام. أحسست من قلبي حبه الصارم العارم الفاتك قوياً كالإعصار، راسخاً كالجبل، ثابتاً كسواد هذا الليل، بهيجاً كصحبه أحسست من قلبي أيها المصباح الأحمر حبه عزيزية كيف كان، فاعرف الآن أيها المصباح كيف يحس هذا القلب ما أبقيا من الحسرات!
محمود الشرقاوي