مجلة الرسالة/العدد 496/(توبال فايين) أو:
مجلة الرسالة/العدد 496/(توبال فايين) أو:
معجزة الحديد
للشاعر الإنجليزي تشارلس ماكاي
للأستاذ محمود عزت عرفة
(وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)
سورة الحديد: الآية 25
(وصلة أيضاً ولدت توبال فايين الضارب كل آلة من نحاس
وحديد)
سفر التكوين: 4: 22
تقدمة
كانت قصص الكتاب المقدس - وما تزال - مصدر وحي عميق لكتاب الغرب وشعرائه؛ فهي قد تركت بسهولة تعبيرها وبلاغة حكمتها ودقة تصويرها، أثراً بالغاً وسمةً واضحة الظهور في تفكير القوم وفي أسلوبهم؛ كما ترك القرآن الكريم أثره البالغ الخالد في مختلف علوم اللغة العربية وآدابها. . .
وهذه حقائق لا يتسع المقام هنا لشرحها. على أن في قصائد: مهلك جند سنحاريب، ورؤيا الملك بيلشاصر، ومرثية داود لأبنه أبشالوم وغيرها وغيرها من نفائس الأدب الإنجليزي، ما يعتبر دليلاً واضحاً على صحة ما أشرنا إليه آنفاً. . . والقصيدة التي نترجمها اليوم مما يدخل في هذا الباب.
وهي من نظم الشاعر الإنجليزي تشارلز ما كاي الذي عاش بين عامي 1814، و1889 م؛ وقد اشتهر بمقطوعاته الغنائية الرائعة، كما أنه ساهم في تحرير كثير من الصحف الصادرة على عهده، في إنجلترا واسكتلندا. وقد ورد في (معجم السير القومي: البريطاني أن هذه القصيدة نشرت لأول مرة في صحيفة (لندن المصورة) عام 1851 م.
ولكن المحقق الإنجليزي س. ب. هويكر يقول إنه لم يعثر عليها في هذا المصدر، وإنها نشرت لأول مرة عام 1856م ضمن ديوان للشاعر عنوانه: أغاني وأناشيد شعرية.
ترجمة القصيدة
عاش توبال قابين في بدء الحياة والكون طفل يحبو؛ وكان قيناً صَناعاً ذا أيدٍ وقوة، لا ينفك لمطرقته دويّ ولأتونه لهيب ولظى. . . كان يرفع مطرقته بساعده القوى المفتول ويهوي بها على الحديد الأحمر الوهاج، فيترامى من حوله الشرر كأنه شآبيب المطر الأرجواني. وما يزال حتى يستوي الحديد أمامه سيفاً قاطعاً أو سناناً لا معاً، وإذ ذاك يصيح من قلب جذلان:
ألا بورك في هذه من صنعة بورك في تلك الظُّبا وهاتيك الشَّبا! بورك لمن هزَّ مشرفياً أو اعتقل ردينيا فبهذين تمتلك النواصي، وتستدنى الآمال القواصي!
وكانت الرجال ما تنفك تهوى من كل فج إلى توبال قابين وهو على عمله عاكف يلتمس كلٌّ لنفسه سيفاً جزاراً أو نصلاً قاطعاً، ليحقق في الحياة مأرباً أو يحتاز رغبة. فكان يمدهم من السلاح فأنفذه ومن العدة بأقواها، حتى ليهتفون باسمه في نشوة من السرور، ويغمرونه بعطاياهم من نفائس النضار وكرائم الجوهر وهم يقولون: ألا بورك فيك يا توبال قابين؛ يا من تسبغ علينا من القوة لَبُوساً، ومن البأسِ سرابيل ودروعاً
بورك في القين وبورك في النار! بورك في الحديد ذي البأس الشديد!
على أن خاطراً فجائياً احتل موطنه - في إحدى الليالي - من قلب توبال قايين، فجاشت نفسه بالألم الممض، وامتلأ صدره من الكمد الموجع والهم المقعد المقيم على ما قدم من الشر وأسلف من سوء الصنيع!
رأى الناس قد اذكروا فيما بينهم نار حرب عوان، بدافع من نزوات الغضب ونفثات الحقد؛ وخضبوا وجه الأرض بمسفوح الدم، في لحظات من جنونهم ونشوات نفوسهم العوارم، فصاح من قلب مفجع منكوء:
وا أسفاه على ما قدمت يداي! وتعساً لتلك المهارة التي هيأت لهؤلاء القوم من آلات التخريب ومعدات الدمار ما تمادوا به في تقتيل أنفسهم؛ حتى اقتضبوا طويل أعمارهم، وخربوا معمور ديارهم! وقضى توبال قايين أياماً طوالاً يقض مضجعه التفكير في محنته، وقد أمسكتا يداه عن العمل، فما إن تطرقان قضيباً أو تضرمان لهيباً
وإنه لكذلك، إذ نهض ذات يوم بوجه متهلل ضحوك، وعينين ملتمعتين ببريق الرجاء والأمل، وشمر عن ساعده المفتول ليستأنف عمله من جديد؛ بيننا ارتفع لهيب أتونه المضطرم في الجو عالياً، وترامى الهواء من حوله بشرر كالقصر
وراح توبال قايين يغني وهو يعمل قائلاً: ألا بورك في هذه من صنعة. . . فما للسيوف دون غيرها نصقل الحديد أو نطرق المعدن. وأتم في هذه اللحظة عمل أول سكة لمحراث!
وكان الناس قد لقنوا الحكمة من ماضيهم، فتصافحت أيمانهم على عهد من المودة وثيق؛ ثم أغمدوا سيوفهم وركزوا رماحهم وأقبلوا على الأرض المدرة المعطاء يفلحونها ويجنون يانع ثمراتها وهم يغنون:
لنشكر جميعاً صديقنا الطيب توبال قايين، هذا الذي حقن دماءنا وحفظ ذماءنا؛ ولنتقدم إليه من الحمد بأبلغه ومن الثناء بأجزله على ما أولانا من صنعة هذا المحراث النافع
على أنه ترفع الفتنة يوماً رأسها، أو يطمع في السيطرة علينا طاغية متجبر؛ فلنكن مع شكرنا له على الانتفاع بمحراثه، غير جاحدين له مزية الدفاع بسيفه.
(جرجا)
محمود عزت عرفة