مجلة الرسالة/العدد 499/ضحك كالبكي

مجلة الرسالة/العدد 499/ضحك كالبكي

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 01 - 1943


للأستاذ عباس محمود العقاد

الضحك في صورته الجسدية تنفيس عن الجسد المكظوم

ذلك معناه الحرفي كما نراه رأى العين. فالضحك في صورته الجسدية حركة متتابعة في الصدر والحلق والفم يكثر بها تجدد الهواء في الجسم المكظوم، فيشعر على أثر هذه الحركة بطلاقة بعد حبس، وفرج بعد ضيق

وخليق بهذه الحقيقة المحسوسة أن تقودنا إلى عرفان معنى الضحك من الوجهة النفسية، أو من الوجهة الفكرية

فهو أيضاً تنفيس عن النفس المكظومة، أو الفكر المكظوم، وهو تعويض للحرية الضائعة، والطلاقة المحدودة

ولهذا تكثر الحاجة إليه في أيام الاستبداد

ولهذا تشتهر الأمم التي طالت فيها عهود الاستبداد بكثرة التنكيت، وشيوع النوادر المضحكة بين أبنائها

وربما كان هذا مرجع الشهرة التي اشتهر بها المصريون في طوال العصور الغابرة، حين كانوا يُبتلون بالدولة الطاغية بعد الدولة الطاغية، تنالهم بالعسف والجور، وينالونها بالنكات والنوادر، فإذا هم يلوذون من الضحك بدرع تعينهم على الصبر وسلاح يعينهم على الانتقام.

وللاستبداد موقفان متناقضان من الضحك والضاحكين

فالمستبد المسيطر على الناس بالجبروت والطغيان يريد أن يهولهم وينزل منهم منزلة القداسة والتنزيه، فلا يحب أن يصبح بينهم عرضة للضحك، ولا أن يجترئوا عليه بالعبث والاستهزاء، ولو من وراء ظهره

ولكنه بعلم أنه يضيق عليهم الخناق، وأنه يلجئهم إلى التنفيس عن صدرهم بوسيلة من الوسائل، ولو على حسابه كما يقولون إن لم تكن ثمة وسيلة أخرى. ولهذا قيل إن الزعماء النازيين - وفي مقدمتهم هتلر - يقربون إليهم فئة من المضحكين والمتندرين يسمعون منهم نكات الجماهير وفكاهات العامة والخاصة، ويجتهدون مع هذا في تحويل النكات والفكاهات عنهم ما استطاعوا، ليضحك الشعب ويحتفظ الحكام المستبدون بهالة الرهبة والوقار في وقت واحد

ولست أذكر أن أصحاب الدعوة النازية غضبوا لشيء قبل الحرب كغضبهم لقول الخصوم عن الشعب الألماني إنه شعب محروم من ملكة الفكاهة، وأنه لا يعرف الضحك والسخرية، وإلا لما طال صبره على المظاهر الحكومية التي هي أدعى الأشياء إلى الضحك والسخرية!

فقد أثارت هذه التهمة غضب جوبلز وتلاميذه فأوعزوا إلى الصحف الناقدة عندهم أن تقيم الدليل على بطلانها، وراحت هذه الصحف تعقد عندهم أن تقيم الدليل على بطلانها، وراحت هذه الصحف تعقد المباريات لأصحاب النوادر والتعليقات الفكاهية وتغريهم على الظهور تارة بالتنويه والثناء، وتارة بالجوائز والمكافآت. وكانت البدعة الشائعة في تلك الأيام بدعة تقصير الملابس والإفراط في التجرد بين النساء الأوربيات ومنهن الألمانيات، فانهال المتندرون على هذه البدعة بالتنكيت والتسخيف واتخذوها هدفاً للمباريات والمسابقات. وأذكر من نوادرهم في ذلك نادرة لا بأس بها فاز صاحبها بإحدى الجوائز الأولى، وهي أن رجلاً دخل المنزل فرأى امرأته في كساء جديد يشبه أكسية الحمام في القصر والخفة، فبادرته قائلة: ألا تعلم يا فلان أنني ظفرت بخائط يبيعني الكسوة التي أحتاج إليها بالتقسيط؟

فنظر إليها حانقاً وقال: (وأظن هذا هو القسط الأول من الكسوة؟. . .)

واعتقد الدعاة النازيون أنهم أبطلوا تهمة خصومهم بجملة هذه النكات، وأثبتوا للشعب الألماني ملكة الفكاهة التي ينكرها عليه المنكرون

على أن الواقع - بنجوة من المفاخرات القومية والخصومات السياسية - أن أبناء الحواضر في ألمانيا لا تفوتهم النكتة اللاذعة، ولا تخلوا تعليقاتهم على الحكام والنظم الحكومية من الفكاهة الصادقة، وإن لم يبلغوا فيها شأو أبناء العواصم الأخرى كفينا وموسكو ولندن وباريس

ويغلب على اعتقادنا أن الصرامة النازية قد شحذت هذه الملكة ولم تقتلها، لأن هذه الصرامة تلجئ الناس إلى التنفيس عن صدورهم بالنكات والفكاهات، وكل ما هنالك أنها لا تنطلق على الألسنة ولا في الصحف كما تنطق في البلدان التي تملك القول والنشر ولا تبتلي فيهما بالحجر الشديد

وقلما خرج من برلين - أو من ألمانيا على العموم - صحفي أو ناشر أو مذيع من الذين أقاموا فيها أيام الحرب إلا جاء معه بجعبة حافلة بالنوادر والفكاهات التي يتهامس بها أبناء برلين وميونيخ وغيرهما من الحواضر الكبرى

أحد هؤلاء وليام شيرر الذي كان يذيع من ألمانيا لمحطات الإذاعة الأمريكية المعروفة باسم (اتحاد كولومبيا) وقضى في أواسط أوربا سبع سنوات ثم غادرها بعد أن ضاقت به الحال وتعذر عليه أن يبلغ سامعيه شيئاً يستحق عناء التبليغ

ضاقت به أسباب الإذاعة لأنهم كانوا يحذفون معظم كلامه أو يحذفون كلامه كله في بعض الأيام، وكانوا إذا حذفوا كلامه كله خشوا أن يعزو السامعون ذلك إلى شدة الرقابة على الأنباء فاعتذورا عنه بغير علمه قائلين: إنه لا يذيع الليلة لأنه تأخر عن الموعد! ولم يقولوا إنه لا يذيع لأن الكلام الذي أعده للإذاعة قد حذف كله، أو لم يبق منه ما يستغرق الوقت المقدور لأنبائه

وحاول في بداية الأمر أن يعالج ذلك بما في وسعه فأقلع عن الصراحة ما استطاع وتعرَّض منها بالتلميحات والإشارات وتحميل اللهجة شيئاً من معاني السخر أو التوكيد أو الإيحاء. فما راعه ذات يوم إلا رقيب يلازمه ويشير على بعض الكلمات بالمداد الأحمر، ويقيس الفواصل بين جملة وجملة في أثناء الإلقاء حذراً من أن يكون المتكلم قد أراد بطول السكوت أن يلفت السامعين إلى أطواء كلامه السابق أو المقبل. فلما استحال عليه أن يقول كل ما يريد، وأن يقول بعض ما يريد، وأن يقول بالإشارة والسكوت ما يستحق أن يقال، لم يجد بداً من الرحيل، فرحل وفي ذاكرته وأوراقه جعبة من الخواطر والحواشي والتعقيبات تنبئ العالم بأضعاف ما كان ينبئهم به في أحاديثه ورسائله، وضمنها جميعاً كتاباً من الكتب النادرة في تاريخ الحرب الحاضرة، فما انقضى على صدوره عام واحد حتى كان قد أعيد طبعه ثماني مرات

في هذا الكتاب طرَف من فكاهات أهل برلين وفكاهات الموقف هنالك على الإجمال، تدل على أن الإنسان في إبان الخطر يحتاج إلى منفس الفكاهة - إلى الضحك - حاجة لا يبالي معها بالموت أو العذاب، لأنها حاجة فردية شعبية لا حيلة فيها للحرب وضروراتها ولا للسطوة وطغيانها. فلا بد من التنفيس أو الانفجار

قال فيما رواه من تلك النوادر إن مدير مصلحة الوقاية نصح إلى الناس أن يبكروا بالنوم أول الليل قبل موعد الطائرات المغيرة. فكان أناس منهم يستمعون نصحه وأناس يؤثرون السهر وانتظار الموعد وهم أيقاظ

فإذا انطلقت زمارات الإنذار أقبل اللاجئون إلى المخابئ يحي بعضهم بعضاً بمختلف التحيات

أسعد الله صباحكم!. . . تلك تحية الذين بكروا بالنوم فلما استيقظوا تبادلوا التحية التي تعودوا أن يتبادلوها عند اليقظة

أسعد الله مساءكم!. . . تلك تحية الذين لم يناموا بعد، فهم يتبادلون تحيات السامرين في المساء

هيل هتلر!. . . تلك تحية الذين ناموا من أول الحرب، ولا يزالون نائمين. . .

وقال إن أهل برلين يزعمون أن هتلر وجورنج وجوبلز ركبوا طيارة فسقطت وهلكوا. . . ومن الذي نجا؟. . . الشعب الألماني

وربما كانت فكاهة الموقف أدعي إلى السخر من الفكاهة التي يخترعها المخترعون

فمن ذلك ما سمعه المراسل من بعض أهل (كولون) وأكد صدقه، وهو عجيب لولا أن الحروب لا تخلوا من عجيب

قال: إن الكساوى الرسمية قد كثرت في البلاد الألمانية أثناء الحرب حتى تعذر التمييز بينها

فمن ذلك أن ضابطاً من سلاح الطيران البريطاني تلكأت به طيارته على مقربة من كولون فهبط على الأرض ودخل إلى المدينة يائساً من النجاة لتسليم نفسه، وتوقع أن يقبض عليه الشرطة أو من يصادفه من رجال الحكومة فلم يقبض عليه أحد ممن رأوه، بل كانوا يقفون له ويتلقونه بالتحية ويخلون له الطريق فاطمأن بعض الاطمئنان

وكانت معه ورقات من عملة النقد الألمانية يحملها الضباط الطيارون عادة كلما حلقوا فوق ألمانيا، فخطر له أن يمضي بعض الوقت في دار للصور المتحركة ريثما يتفق له ما هو مقدور له من الاعتقال أو النجاة

فطلبت منه العاملة نصف الأجر المكتوب على التذكرة، لأنه يلبس الكسوة العسكرية

ثم خرج من دار الصور إلى حيث سلم نفسه إلى ديوان الحكومة، وذكر لهم أنه أمضى بعض الوقت في المدينة ولم يقبض عليه أحد. فلما سألوا عاملة التذاكر فيمن سألوه: هل بعتِ هذا الرجل تذكرة لحضور الصور المتحركة هذا المساء؟

قالت نعم. وبنصف الأجرة مع السرور، لأننا لا نظفر في كل ليلة برجل من سلاح هتلر الممتاز!

ذلك أن الضابط كان يحمل على كتفه هذه الحروف الثلاثة: (س. هـ. م) أي سلاح هوائي ملكي. . . ففهمت العاملة وفهم السابلة معها أن الحروف اختصار لسلاح هتلر الممتاز، وهو أحق الأسلحة عندهم بالتوقير، وأندرها في أطراف البلاد!

إن صحت هذه القصة فهي من فكاهات القدر، وعندما تجب الفكاهة على الناس لا تندر بينهم فكاهة الأقدار

ولكنه ضحك كالبكي

وصدق ابن الرومي حيث قال:

إن من نابه الزمان بخطب ... لأَحق امرئ بأن يتسلى

ومن كان في وسعه تسلية الفكاهة، ففي وسعه من التسلية كثير.

عباس محمود العقاد