مجلة الرسالة/العدد 5/في الأدب الشرقي

مجلة الرسالة/العدد 5/في الأدب الشرقي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 03 - 1933



نظرات في الأدب الفارسي منذ نشأته إلى إغارة التتار

للدكتور عبد الوهاب عزام

مهما تختلف الآراء في تاريخ اقدم أثارة من الأدب الفارسي الحديث فان مؤرخا يستطيع أن يقول أن ظهور هذا الأدب صحب ظهور الإمارات الوطنية في إيران، فهذه الإمارات بعثت الأمل في نفوس الفرس وأتاحت لهم فرصة يستطيعون فيها التقرب بالمدائح وغيرها إلى أمراء يفهمون عنهم، ويعجبون بهم، ويسرهم أن تحيا آداب لغتهم وآثار آبائهم.

وأمر آخر يسترعي نظر مؤرخ الآداب الفارسية، هو ظهور هذه الآداب في الديار النائية عن البلاد العربية وعن بغداد حاضرة الخلافة والمدنية الإسلامية، إذ كانت هذه الديار أبعد من سلطان الأدب العربي الذي كان ترجمان حضارة الإسلام كلها حقبا طويلة. ثم استقلال الإمارات كذلك يبدأ في الأقطار النائية، وإنما تنقص الأرض من أطرافها. ومن أجل ذلك أتيح لخراسان البعيدة مهد أول دولة فارسية عظيمة في العصر الإسلامي أن تكون مبعث الأدب الفارسي الحديث. ولم تنل هذا الشرف فارس مهد الدول القديمة على تبريزها في العلم وتقدمها على خراسان فيه. حتى يقول أبو أحمد الكاتب كاتب الأمير إسماعيل بن احمد الساعاتي:

لا تعجبن لعراقي رأيت له ... بحرا من العلم أو كنزا من الأدب

واعجب لمن ببلاد الجهل منشؤه ... أن كان يفرق بين الرأس والذنب

يريد ببلاد الجهل ما وراء النهر وجهات خراسان.

ولى المأمون طاهر بن الحسين خراسان ثم جعلها ولاية لذريته فاستمروا يلونها حتى سنة 259 نحو 50 عاما. ولكنها كانت أمارة صغيرة قصيرة المدة. وكانت الأسباب لما تتهيأ لانبعاث الأدب الفارسي. ثم بنو طاهر لم يعنوا بالأدب الفارسي، وروي أن رجلا أهدى كتابا إلى عبد الله بن طاهر وهو في نيسابور فسأله ابن طاهر ما هذا؟ قال قصة (وأمق وعذراء) التي ألفها بعض الحكماء للملك أنوشروان، فقال الأمير: نحن قوم نقرأ القران ولسنا في حاجة إلى غير القران والحديث. فما لنا ولهذه الكتب التي ألفها المجوس؟ ثم أمر ألقى الكتاب في الماء، وأمر أن يحرق كل كتاب في ولايته بلغة المجوس. ويقول عو عن آل طاهر: أنهم لم يكن لهم اعتقاد في لغة الفرس.

وفي سنة 247هـ سنة موت المتوكل ظهر في الشرق يعقوب بن الليث الصفار وهزم جند الخليفة أول الأمر وقال (كما يروي نظام الملك) أنه يريد خلع الخليفة، وكان شيعيا فيما قال، وخلفه أخوه عمرو إلى أن استنجد الخليفة المعتمد بني سامان فهزموه وأزالوا دولته.

والفرس يرون في يعقوب بطلا فارسيا لأنه أول ثائر على الخلفاء. أقام سلطانه على رغمهم اكثر من أربعين عاما. وقد سوغت لهم هذه العقيدة أن نسبوا إلى طفل ليعقوب أنه نطق بأول بيت من الشعر الفارسي الحديث، وفي الحق أن بلاد الفرس لم تعد إلى حكم الخلفاء الحقيقي بعد ثورة يعقوب.

ولكن أول دولة فارسية عظيمة لها أثر يذكر في الأدب الفارسي كانت الدولة السامانية. والسامانيون ينتسبون إلى بهرام جوبين أحد أعيان الفرس الذي ثار أيام الساسانيين على كسرى برويز، والبيروني يؤيد هذه النسبة. وقد بعثت الآداب الفارسية مع هذه الدولة (فيما نعلم).

وبينما كان السامانيون متسلطين في خراسان وما وراء النهر ظهر بنو بويه وعظم سلطانهم حتى استولوا على بغداد سنة 334، وساقوا نسبهم إلى بهرام كور أحد ملوك السامانيين؛ وما زالوا يصرفون الأمر حتى أديل منهم للغزنوية ثم للسلاجقة.

ظهرت دولة بني سبكتكين في غزنه وأديل لهم من سادتهم السامانيين أو (كما يقول بديع الزمان):

أظلت شمس محمود ... على أنجم سامان

وسبكتكين تركي لا فارسي ولكنه مكَّن لنفسه في بلاد الفرس، وكان لدولته شأن عظيم في آدابهم. وجاء السلاجقة فنسخوا كل هذه الدول، وكان لهم من السلطان وبسطة الملك ما لم يتح لدولة قبلهم من غير الخلفاء؛ وكان مه هؤلاء أو بعدهم دول ذات شأن: منها الدولة الزيارية في طبرستان التي منها شمس المعالي قابوس بن وشمكير وابنه منوجهر فلك المعالي وحفيده كيكاوس عنصر المعالي، ودولة ملوك خوارزم الصغيرة التي قضى عليها محمود، وملوك خوارزم العظام الذين تسلطوا على معظم إيران قرناً وربع قرن والذين كانوا سببا في إغارة التتار وكانوا أول هلكاهم، والدولة الغورية التي قضت على الغزنويين في أفغانستان.

هذه هي الدول التي صرفت أمور الفرس منذ القرن الرابع الهجري، ويرى منها أن الفرس لم يفلحوا في إقامة دولة عظيمة تضم أرجاء بلادهم، وإنما كان السلطان الشامل لدولتين تركيتين الغزنوية والسلاجقة، وما عرفنا أن ثورات فارسية عظيمة حاولت التخلص من هاتين الدولتين، وهذه مسألة جديرة أن تغير آراء الذين يريدون تفسير كل حركة في إيران في تلك القرون بالعصبية الفارسية.

الآن نرجع إلى الأدب الفارسي نراقب منشأه ونتعقب تطوره منذ بدأ إلى عصر التتار؛ فأما ما بعد التتار فنرجئ الكلام فيه إلى مقال آخر.

إنا لا نعرف شيئا عن الشعر الفارسي قبل الإسلام حتى ليظن أن الفرس لم يكن لهم منه حظ كبير، ولأمر ما نسب بعض كتاب الفرس أول شعر فارسي إلى بهرام جور، وقالوا: أنه اخذ الشعر من العرب إذ تربى في الحيرة. يذكر هنا محمد عوفي في لباب الألباب وشمس قيس في كتاب المعجم، ويزيد الأخير أنه قرأ في بعض الكتب الفارسية أن علماء عصر بهرام لم يستهجنوا منه الا قول الشعر، وأن آذرباد بن زرادستان الحكيم بالغ في نصحه ليترك الشعر تنزها عن معايبه؛ ثم يقول أن بهرام انتصح ومنع أولاده وذوي قرباه أن يقرضوا الشعر. ثم يقول: من أجل هذا كانت مدائح باربد وأغانيه عند كسرى برويز كلها منثورة لا نظم فيها.

ويقول ابن قتيبة:

(وللعرب شعر لا يشركها أحد من الأمم الأعاجم فيه على الأوزان والأعاريض والقوافي والتشبيه ووصف الديار والآثار، والجبال والرمال والفلوات وسرى الليل، والنجوم. وإنما كانت أشعار العجم وأغانيهم في مطلق من الكلام (منثور) ثم سمع بعد قوم منهم أشعار العرب وفهموا الوزن والعروض فتكلفوا مثل ذلك في الفارسية وشبهوه بالعربية.)

وأما في العصر الإسلامي فلا ريب أن الشعراء الذين يعرفهم تاريخ الأدب لا يتقدمون العصر الساماني. غير أن في كتب الأدب الفارسي روايات عن شعر قيل قبل هذا العهد، وهي على علاتها لا تخلو من دلالة على أدب فارسي أقدم مما نعرف عسى أن يبينه التاريخ يوما.

يقول محمد عوفي معللا ظهور الشعر الفارسي الحديث ما يأتي مترجما مختصراً: (حتى إذا سطعت شمس الملة الحنيفية على بلاد العجم جاور ذوو الطباع اللطيفة من الفرس فضلاء العرب واقتبسوا من أنوارهم ووقفوا على أساليبهم واطلعوا على دقائق البحور والدوائر وتعلموا الوزن والقافية والردف والروي والايطاء والإسناد والأركان والفواصل. ثم نسجوا على هذا المنوال).

ثم يروي أبياتا أربعة لشاعر اسمه عباس مدح بها المأمون في مرو سنة 193 منها:

كس برين منوال بيش ازمن جنين شعري نكفت ... مر، زبان بارسي را هست تا اين نوع

بين

ليك زان كفتم من اين مدحت ترا تا اين لغت ... كيرد أز مدح وثناء حضرت تو زيب

وزين

وترجمتها:

ما قال أحد قبلي شعرا كهذا وما كان للسان الفارسي عهد به، وإنما نظمت لك هذا المديح لتزدان هذه اللغة بمدحك والثناء عليك.

فأعطاه المأمون ألف دينار عينا، وبالغ في اكرامه، يستمر عوفي فيقول: (ولم ينظم الشعر الفارسي أحد بعده حتى كانت نوبة آل طاهر وآل الليث فظهر شعراء قليلون، فلما كانت دولة السامانيين ارتفع علم البلاغة، وظهر كبار الشعراء).

ويروي شمس قيس: أن أول من قال الشعر الفارسي أبو حفص السغدي من سغد سمرقند وكان حاذقا في الموسيقى، وقد ذكره أبو نصر الفارابي وصور آلاته الموسيقية وقد عاش حتى سنة 300هـ وينسب إليه هذا البيت:

آهوى كوهي دردشت جكونه دودا؟ ... جوندار ديار بي يار جكونة رودا؟

(كيف يعدوهذا الظبي الجبلي في الصحراء؟، أنه لا حبيب له فكيف يسير بغير حبيب؟)

فأما رواية عباس المروي فأن المؤرخ الناقد يرتاب فيها لأن غريبا أن يبدأ الشعر الفارسي بهذا الأسلوب المتين ثم يصمت الشعراء أكثر من مائة سنة لا يؤثر عنهم شيء. وأما رواية السغدي فراجعة إلى العصر الذي بدأ فيه الشعر الفارسي وسجل لنا التاريخ بعض شعرائه.

ومهما يكن من شيء فاتفاق مؤرخي الآداب على أن أول شاعر فارسي عظيم هو أبو جعفر الرودكي شاعر نصر بن أحمد الساماني، الذي يسميه معروفي البلخي (سلطان شاعران) ويقول فيه البلعمي: أنه لا نظير له بين العرب والعجم، ويعترف الدقيقي والعنصري بتقدمه.