مجلة الرسالة/العدد 50/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 50/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 06 - 1934



ما هو الزمن؟

للدكتور عبد الله صبري

كثرت المناقشات في الأيام الأخيرة بين العلماء والمفكرين في موضوع الزمن حتى سرى الاهتمام بهذا الموضوع إلى عامة الجمهور مما دعاني إلى ذكر بعض الحقائق والملاحظات التي اسردها هنا مقتبسة من المصادر العلمية الصحيحة.

لا شك أن كلامنا يعرف الوحدات العادية للزمن. ولا أظننا ناسين انه يجب علينا أن نستيقظ غداً في ساعة معينة من الصباح (مع الأسف!). وبالرغم من كراهيتنا للمنبه فنحن مضطرون لطاعته - ليس منا من يتجاهل سلطة الزمن، ذلك السيف الجبار الذي إذا لم تقطعه قطعك، وليس منا من يتجاهل أحقيته ووجوده ودقته وتأثيره في أعمالنا اليومية. غير أننا بالرغم من اعترافنا به لهذا الحد قد نقع في الحيرة عندما يطلب إلينا تعريفه أو ذكر كنهه

فبالرغم من وجود الأجهزة الدقيقة التي تبين لنا مقادير الزمن، كثيراً ما نشعر في أنفسنا باختلاف تقدير هذه الأجهزة في أحوالنا النفسية المختلفة. فكثيراً ما نشعر بطول الوقت وبطء مروره عندما نكون في انتظار صديق في موعد، وعلى العكس نشعر بسرعة مروره عندما نكون سعداء أو منهمكين في عمل هام. فهل خاننا إحساسنا الزمني في هذا الشعور؟ أم هل خانتنا الأجهزة التي تبين لنا الزمن؟ وعلى أي قياس ينبغي لنا أن نعتبر الزمن؟ أبأنفسنا أم بالساعات؟

إذا رضينا بالساعات مقاييس حقيقية للزمن، فكيف يمكننا أن نتلاعب بها إلى الحد الذي نقدمها ونؤخرها فيه حسب أرادتنا كما جرت العادة في أوروبا عند اعتبار الزمن الصيفي الذي تقدم فيه الساعات ساعة زمانية في أبريل من كل عام؟ وكيف يمكننا أن نتلاعب بالتقاويم السنوية فنضبطها ونغيرها حسب الإرادة من غير أن يؤثر ذلك كله في العالم.

أن حكاية تعديل التقويم السنوي في أوائل القرن السادس عشر حكاية معروفة. إذ اتضح في ذلك الوقت أن التقويم الجريجوري قد اخطأ في مدة أحد عشر يوماً، وقررت الحكومات حينئذ تقديم التاريخ بمقدار هذا الزمن، وبذلك حدث هياج كبير في الرأي العام، واعتقد الناس أن الحكومة قد استقطعت من حياتهم هذه المدة لغير ما سبب، وتظاهروا صائحين: أعطونا الأيام التي اتخذتموها من عمرنا، ألا يكفيكم أن تسلبوا منا نقودنا فتسلبوا منا أيامنا كذلك؟

وفي الحقيقة أن تعيين وحدة حقيقة ثابتة للزمن من الأمور العسيرة. فقد ثبت لعلماء الفلك أن المدة اللازمة لدوران الأرض حول الشمس تزداد عاماً بعد عام، أي أن السنة الزمنية ليست ثابتة إذ كانت أطول في الزمن الغابر منها في الزمن الحاضر بمقدار محسوس. فهناك اتجاه حديث لاعتبار سرعة تحلل عنصر الراديوم مبدأ لتقدير الزمن إذ ثبت أن الراديوم في تحوله إلى الرصاص يستغرق أزمنة متساوية تماماً.

غير أن هذه الوحدة الزمنية سواء اعتبرت من الجهة الفلكية لدوران الأرض حول الشمس أو من الجهة الطبيعية لسرعة تحلل الراديوم فإنها في النهاية متوقفة على إدراك الإنسان وتابعة لاحساسه، وقد تكون هي في ذاتها خدعة عقلية. وهذا مما جعل كثيراً من المفكرين يتساءلون إذا كان في أجسامنا جهاز طبيعي لتقدير الزمن؟

ومن التجارب التي تدل على احتمال وجود ساعات حيوية في أجسامنا إمكاننا الاستيقاظ مثلاً في ساعة معينة من الصباح بمجرد حصر ذهننا في ذلك قبل النوم. وهنالك كثير من الناس الذين يمكنهم الحصول على هذه النتيجة بغاية الدقة. وهنالك تجربة مشهورة أخرى أجريت مراراً عديدة بحضور الشهود وهي بان ينوم شخص تنويماً مغناطيسياً، ويؤمر أثناء نومه بان يكتب كلمة (الزمن) بعد استيقاظه بعد تمام مليون ثانية تماماً (أي بعد حوالي عشرة أيام). وفعلاً يحدث. فمهما كانت ظروف المنوم في حياته العادية بعد هذه المدة فانه في تمام الثانية المليون تماماً يأخذ قلمه ويكتب الكلمة المطلوبة. وبديهي أن المنوم لا يتذكر شيئاً بعد استيقاظه مما قيل له أثناء تنويمه.

ويميل كثير من المفكرين على ضوء هذه التجربة ومثيلاتها أن يعتقدوا بوجود هذا الجهاز الحيوي الذي يعد الزمن في أجسامنا. وقد اكتشف أخيراً تيار كهربائي منتظم يمر في الجسم في كل من لحظات الحياة سواء أكان الإنسان نائماً أم مستيقظاَ ومهما كانت حالته العصبية أو الصحية مستمراً إلى لحظة الموت. فمن الجائز أن يكون هذا التيار هو الذي يعد الثواني والزمن الذي يمر ونحن أحياء. ومن البديهي انه لا يمكن اعتبار دقات القلب مقياساً للزمن إذ أن هذه الدقات يتغير عددها وانتظامها بين آن وآخر تبعاً لظروف الإنسان وحالته العصبية.

غير أن احتمال وجوده هذا الجهاز الحيوي الذي يقيس الزمن في أجسامنا لا يفسر لنا كنه كثير من التجارب الشخصية التي تحدث لكل واحد منا بين آن واخر، الا وهي معرفة بعض حوادث المستقبل قبل وقوعها. فكلما شعر أن كثير من أحلامنا تصور لنا صوراً جلية واضحة من المستقبل. وقد أجريت عدة تجارب علمية لإثبات ذلك واتضح منها صحة هذه النظرية، ويظهر أن الاعتقاد بإمكان رؤية المستقبل قد صادف ميلاً كبيراً عند كثير من المفكرين والمؤلفين وعند الجمهور في الأيام الأخيرة. فهناك كثير من الروايات التي تكتب على هذا الأساس وهناك الكثير من المؤلفات العلمية التي تبحث في هذا الموضوع الغريب. فمن اشهر ما كتب حديثاً عن ذلك كتاب (تجربة عن الزمن) تأليف الكاتب الإنجليزي ج. و. دن وهذا الكتاب يفسر تجارب المؤلف الشخصية في إمكان رؤية المستقبل، ويوضح ذلك بنظرية المتواليات الزمنية. وهناك كذلك كتاب المفكر الإنجليزي المعروف هـ. ج ولز عن كنه المستقبل وهو يعطى في هذا الكتاب تاريخ العالم في المستقبل القريب لا كخيال يتوهمه، بل كحقيقة واقعية رآها صديق له عند قراءته لكتاب حقيقي للتاريخ مكتوب في سنه مقبلة

والعلم الحديث لا ينكر رؤية المستقبل. إذ لو أننا تصورنا إمكان وجودنا في طيارة سائرة بسرعة اكبر من سرعة الضوء لما أيمكننا أن نرى أو ندرك شياً من العالم الزمني الموجود، بل إننا نصبح خارج نفوذ الزمن ونصبح أبديين. وهذا مما يقرب إلى العقل البشري إمكان خروج المادة والإنسان عن نفوذ الزمن وتقديره، ويمكن الإنسان من تصور رؤية المستقبل كحقيقة واقعية تحدث عند خروج الفكر وقتياً عن دائرة الزمن

ويميل بعض المفكرين إلى تفسير رؤية المستقبل بافتراض طبقتين للعقل الإنساني - الطبقة الأولى وهي التي نحس بها بالمقاييس الثلاثة المعروفة والتي نستعملها في حياتنا اليومية، وهي التي تشعرنا بمرور الزمن. والطبقة الثانية وهي التي نحس بها بالمقياس الرابع (وهي نتيجة نظرية اينشتين المعروفة التي ينسب فيها الزمن للمسافة) والتي تعطينا في بعض الأوقات قوة على إدراك المستقبل إذ تخرجنا وقتياً عن نفوذ الزمن وتجعلنا جزءا من الأبدية اللازمنية.

ومهما كان مقدار الصحة في هذه الافتراضات والنظريات، فليس هناك من شك في أن هذه المعضلة الغريبة المبهمة، ألا وهي الزمن ستكون بيت القصيد في كثير من الأبحاث العلمية والاكتشافات التي قد يتم بها تغيير جوهري في تفكير البشر في المستقبل القريب والتي قد توصلنا إلى بداية الطريق الطويل الذي أراد الله أن يصل البشر في نهايته إلى الحق المطلق.

عبد الله صبري

دكتور في الهندسة من جامعة كامبردج