مجلة الرسالة/العدد 500/البريد الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 500/البريد الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 02 - 1943


الدكتور أمين المعلوف باشا

في ليلة الخميس 21 يناير العالم الجليل الدكتور أمين المعلوف باشا نفسه بعد مرض طويل حجبه عن الناس ومنعه عن العمل، فشق نعيه على جمهرة العلماء والأدباء، ممن عرفوا فضله على العلم واللغة، وعلموا مكانه في الأدب والخلق، وصادقوا فيه الرجل الذي لا يتغير، والعالم الذي لا يدَّعى، والعامل الذي لا يكل. كانت حياته رحمه الله كحياة النبع الصافي يرسل حوالبه النماء والخصب من غير هدير ولا كدورة. ثم توفاه الله أمجد ما يكون ماضياً وأطيب ما يكون سمعة. كان ضابطاً ممتازاً في القسم الطبي بالجيش المصري، ثم قضى بضع سنوات في الخرطوم. ولما قامت الحركة العربية في الحرب الماضية انضم إليها، وكان من العاملين الصادقين فيها. ثم اختاره المغفور له الملك فيصل الأول كبيراً لأطباء جيش العراق، فأدى واجبه العلمي والعسكري على أفضل وجه حتى ارتقى كفاءته وحسن بلائه إلى رتبة فريق. ثم بلغ سن التقاعد فرجع إلى القاهرة واشتغل بالبحث والتأليف فنشر مقالات ممتعة في الحيوان والنبات والمصطلحات العلمية والشوارد اللغوية، ووضع في الحيوان قاموساً يعتبر مرجعاً في بابه. وقد اتصف الفقيد بالوفاء والمروءة والإباء، فأحلته جميع هذه الصفات منزلة رفيعة بين جميع من اتصلوا به.

رحمه الله رحمة واسعة وعزى عنه أسرته وأمته خير العزاء.

1 - الأوامر بين الطاعة والعصيان

في العدد 212 من مجلة (الثقافة) مقال للأستاذ أحمد أمين بك عنوانه (في الطريق). وهو مقال ينطوي على فكرة دقيقة تستحق الإشارة وتستوجب التعقيب. فالأستاذ يظهر في كلمته العجب البالغ من هذه الطاعة التي يحظى بها (عسكري المرور) ويذهب في تعليل ذلك إلى احتمالات شتى ينتهي برفضها جميعاً: فليس لشخصية عسكري المرور عنده أثر في إيجاد هذه الطاعة، لأن هناك (من هم ضعاف الشخصية ويسمع لقولهم في الطريقي كأقوياء الشخصية سواء بسواء. . .) وليس لـ (قوة القانون)، ولا للخوف من (العقوبة الحتمية السريعة) التي يستتبعها الإخلال به، أثر أيضاً في تحقيق ذلك الخضوع العجيب. ولهذا يحار الأستاذ - كما يقول - في بيان السبب فيتركه لقرائه. وهو يستعرض عقب هذا أوام الأطباء التي تخالف، وأوامر العسكري نفسه - إذ جاوز المرور إلى البائعين والبائعات - وأوامر التسعيرة؛ تلك الأوامر التي تهمل جميعاً ويجملها كل مأمور بها تحت قدمه ودبر أذنه؛ أو يحتال على التخلص منها بألطف الحيل وأعجب المحاولات. . . ويخلص الأستاذ من هذا إلى تقرير الحقيقة التالية وهي أن (فعل الأمر وحده لا يكفي في التنفيذ، وإنما يحمل على التنفيذ أمران ممتزجان أتم الامتزاج، فعل الأمر ونفسية الآمر. فإذا كانت نفسية قوية وجدت السامع تتخاذل نفسه أمام الأمر، وأحس أنه أمام قوة كهربائية هائلة، فاضطر إلى تنفيذ فعل الأمر رغم أنفه) إلى آخر ما ورد في المقال

ولقد فات الأستاذ في هذا الموضع الإشارة إلى نقطة دقيقة كان ينبغي أن يوطد عليها نظريته في الطاعة؛ تلك هي (شعور المأمور ونفسيته) لا حيال الآمر في قوة شخصيته وضعفها، بل حيال الأمر نفسه في نفعه له أو ضرره، وفي مبلغ إدراكه لهذا النفع أو الضرر

فالمريض لا يقرن أمر طبيبه بقوة شخصيته أو ضعفها، فينفذه أو يخل به بحسب ذلك. وإنما يقرنه بمبلغ شعوره الخاص إزاءه.

ولتوضيح هذا نقول إن أكثر المخالفة إنما تقع في دور النقاهة والإبلال من المرض، حين يستروح المريض نسيم العافية، ويرى أنه جاوز غمره الداء وسلم من مضاعفاته. فقد يدخل في وهمه إذ ذاك أن أوامر الطبيب إنما هي من قبيل الاحتياط والتوقي، فلا عليه من مخالفتها أو إهمال الدقة في تنفيذها، إذ الضرر في ذلك يسير محتمل، إن لم يكن وهماً متخيلاً قد لا يتحقق له وجود. ولو عرف المريض ما تجر عليه هذه المخالفة وتيقن سوء مغبتها، لما أقدم على خلاف الطبيب في أمر له، جل أو حقر.

ومثل هذا نقوله فيما يُرى من مخالفة أوامر الوعاظ والمعلمين، وأوامر التسعيرة، وأوامر العسكري نفسه (حين يجاوز المرور إلى البائعين والبائعات). . .

ويؤدي بنا تقرير هذه الحقيقة إلى إدراك السبب الذي حار الأستاذ في بيانه فتركه لقرائه. . . إذ أن مخالفة (عسكري المرور) في إشارته معناها الموت المحق تحت عجلات سيارة قادمة، أو قاطرة ترام مندفعة؛ وطاعة أمره هي النجاة بعينها من موت محتوم والسلامة من خطر مائل يستشعره القلب وتراه العين. وهل يتردد العاقل لحظةً في الاختيار بين سبيلين: أحدهما مُفْض إلى الموت والثاني موصول بالسلامة محفوف بالنجاة والعافية؟. . .

2 - أين السليط من (السالاد)

يقول العلامة الكبير الأستاذ وحيد الأيوبي في إجابة له عن معنى السليط - الزيت -: (أرى أن منه ما يقال له (سلطة) بفتحتين. . وقد يوهم هذا الكلام أن ثمة علاقة لفظية أو معنوية بين الأصلين العربي والإفرنجي؛ وتسجيلاُ لرأيي في هذا الموضوع أقول:

جاء في قاموس القرن العشرين - الإنجليزي - في شرح مادة ما خلاصته أن هذه اللفظة تطلق على مركَّب غذائي يتألف من عدة نباتات غير مطبوخة كالخس والهندباء والخردل والجرجير والبصل والطماطم وغيرها. . . تقطع جميعاً وتعالج بالملح والخل وأصناف التوابل. . .

وثمة نوع من الزيت - زيت الزيتون خاصة - وعصارة لبعض الأفاويه المعروفة، يستعملان في (تهيئة) هذا الإدام المشار إليه، ولذا يطلق عليهما اسم - أو - فهذا كل ما وجدناه من علاقة بين الزيت المعروف ومدلول كلمة أما السليط في اللغة العربية فهو - كما ورد في القاموس - (الزيت، وكل دهن عُصِر من حّبّ) ولا يخرج إلى معنى غير هذا. . .

ومن ثم يتضح انقطاع العلاقة في المعنى بين الأصلين العربي والأجنبي، كما يتضح لنا انقطاع العلاقة اللفظية بينهما أيضاً، إذا عرفنا أن كلمة الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية بمعنى ملح. وواضح أن كلمة (سّلَطة) في لهجيتنا العامية تحريف لأحد هذه الألفاظ الأعجمية تسرب إلينا بحكم المخالطة؛ فهي لا تمت إلى الأصل العربي بأدنى سبب

ومن الغريب أن الاستعمال المجازي لهذه الكلمة جرى في اللغة العربية وفي غيرها مجرى متقارباً؛ فمن معاني السليط عندنا: الشديد، والحاد من كل شيء، والرجل الصخّاب (والمرأة سليطة). . . ويسمى الإنجليز أيام الشباب الهوجاء التي ينقصها الحنكة والتجارب

على أن هذا التشابه الذي أوجدته الصدفة المحض بين الأصلين - في لفظهما وفي معناهما الحقيقي أو المجازي - لا يحول بيننا وبين أن نقرر تمامَ انقطاع الصلة بينهما؛ إلا أن يُثبت لنا أحد الأدباء بدليل قاطع وجود علاقة بين الأصلين العربي واللاتيني، وهذا ما لا نستطيع الجزم به. . .

بقي أن نشير إلى أننا حاولنا تتبُّع اللفظ العربي إلى أصوله - إن كانت توجد - في اللغتين العبرية والسريانية؛ ولكن لم تُسعد المصادر التي بين أيدينا الآن على تحقيق هذه الرغبة؛ فهذا باب آخر للبحث نتركه مفتوحاً لمن يحسن وُلوجَه. . . والله يهدينا جميعاً إلى الحق.

(جرجا)

محمود عزت عرفة

الرجولة والرجولية

يذهب بعض علماء اللغة في كتبهم إلى التفرقة بين (الرجولة والرجولية) فيقولون: إن (الرجولة) مصدر يدل على مجرد الحدث وأما (الرجولية) فمصدر صناعي يدل على الحدث مع الدلالة على معنى المروءة والإقدام وحماية الذمار الخ. ويعللون لذلك بأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى

ويذهب بعضهم الآخر إلى أنه لا فارق بينهما، فكلاهما مصدر لا يدل إلا على مجرد الحدث، كما أنه لا فارق بين الطفولة والطفولية، ويستدلون لذلك بأن معاجم اللغة تكرها دون أن تفصح عن فرق بينها لو كان لنبهت عليه.

وأما قولهم (إن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى) فذلك لبيان الغالب وليس بمطرد. . .

فأي الرأيين أجدر بالصواب وأحق بالإتباع؟ هذا ما أسأل قراء الرسالة عنه ولهم جزيل الثناء.

علي محمود الشيخ

(إشراقة) ديوان التيجاني بشير

في سنة 1935 حملت (الرسالة) الغراء لواء دعوة من أكرم الدعوات، إذ بدأت تنشر على صفحاتها فصولاً تعرّف القراء فيها بالنهضة الأدبية الحديثة في الأقطار العربية، وكان من وراء ذلك أن رأينا أقلاماً عربية قوية تسمعنا أصوات أصحابها من الأقطار الشقيقة في ميداني النثر والشعر؛ وكان من بين هذه الأصوات التي انبعثت من فوق منبر (الرسالة) صوت شاعر الشباب السوداني التيجاني يوسف بشير الذي لم يمهله القدر فاستأثر به عام 1937 عن خمسة وعشرين عاماً استطاع في أثنائها على قلتها أن يسمعنا أغاريد مشجية من الشعر السوداني الحديث!

وقد قام الوجيه السوادني المعروف الأستاذ علي البرير بطبع ديوان المرحوم التيجاني (إشراقة) على نفقته الخاصة وأهداه إلى روح ناظمه، وصدره بكلمة للأستاذ الكبير محمد محمود جلال عن قصته مع الشاعر، وكلمة للدكتور زكي مبارك عن الروحانية السودانية، وسيوزع ريع الديوان على ذوي الشاعر ومواطنيه. وقد ظهر فيما يقرب من 100 صفحة، ويحوي قصائد جيدة للشاعر في الوجدانيات والإخوانيات والوطنيات والتصوف والرثاء الوصف وغير ذلك. وشعر التيجاني يمتاز بعمق الفكرة ورصانة الأسلوب والإحاطة بالموضوع والافتنان في المعاني، ولا تتسع كلمة عابرة كهذه لتفصيل القول في ذلك. . .

ونحن ننتظر أن يلقي الديوان ما هو جدير به من الإقبال، وأن يعني بدراسته والكتابة عنه أدباؤنا، فهو أصدق صورة للشعر الحديث في القطر الشقيق!

أحمد الشرباصي

البكاء بعين واحدة

كنت وما زلت معجباً بأبيات الصَّمَّة بن عبد الله القشيري التي يقول في مطلعها:

حننت إلى ريا، ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وشعبا كما معاً

وكنت أقف عند هذا البيت الذي يقول فيه:

بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معاً

فأعجب كيف اتفق لهذا الشاعر أن يبكي بعين واحدة، ثم يعود فيبكي بكلنا عينيه؟! وكنت أتساءل: هل يتفق هذا لكل الناس أم أنها حال خاصة لا تخضع لقانون ثابت، ولا تجري على سنة مطردة؟. . . وأخذت أفكر فخطر لي أن هذا الشاعر قد يكون أعور، فيتصور منه البكاء بعين واحدة، وبدا لي هذا الخاطر معقولاً لولا اعتراض قام بالذهن، هو أن كون الشاعر أعور إنما هو محض افتراض لا يقوم على أساس، ولا ينهض على دليل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هل يمكن أن تدمع العين العوراء حتى يتصور بكاء الأعور بكلتا عينيه؟ وأخذت أبحث عما يدفع هذا الاعتراض، ويصحح ذاك الافتراض، وأخيراً وقفت إلى ذلك - وما توفيقي إلا بالله - فقد قرأت في (عبقرية عمر) للأستاذ الكبير العقاد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل متمم بن نويرة، وكان هذا شديد الحزن لمقتل أخيه مالك: - ما أشد ما لقيت على أخيك من الحزن؟ فقال: كانت عيني هذه قد ذهبت فبكيت بالصحيحة فأكثرت البكاء، حتى أسعدتها العين الذاهبة وجرت بالدمع. ثم قرأت هذه الأبيات في الجزء الثالث من شرح ديوان الحماسة فوجدت التبريزي الشارح رحمه الله يعلق على البيت السالف بقوله: وإنما قال: (بكت عيني اليسرى) لأنه كان أعور

وبذلك سقط الاعتراض وصح الافتراض. والله أعلم.

إبراهيم محمد نجا

الشعر وجامعة فاروق

نهضت الحركة الأدبية بالثغر الحبيب نهضة مباركة منذ بزغت شمس جامعة فاروق. ولا غرو فإن حيوية الأدب لا تنشر وتكتسب كما قال أستاذنا الكبير الزيات، إلا (بمخالطة الصفوة من رجال الأدب. . . وأنه إذا كان الاستمرار على دراسة الروائع الأدبية ضروري لضمان الخلود، فإنه ولا ريب يكون لذوي الفرائح الناشئة ضرورياً لاستكمال الوجود)

وإن أصدق شاهد على صدق هذه القولة الحكيمة من صاحب (الرسالة) الغراء، أن روح الأدب قد تألقت مع إنشاء الجامعة الجديدة؛ فكان من مظاهر هذه النهضة تكوين جماعة للشعر لأول مرة في كلية الحقوق يشرف عليها مدرس الشريعة الأستاذ عبد الفتاح البانوبي، ويرأسها الشاعر حسين محمود البشبيشي

ولقد أقامت الجماعة مهرجانها الأول بدار الجامعة في الأسبوع الماضي، ألقيت فيه بعض القصائد الجياد. وستوالي الجماعة إقامة مهرجاناتها الشعرية شهرياً، وستختمها بمهرجان كبير يشترك فيه شعراء الإسكندرية المبرزون

عبد العزيز البسي