مجلة الرسالة/العدد 501/في التربية الديمقراطية

مجلة الرسالة/العدد 501/في التربية الديمقراطية

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 02 - 1943



الحكم الذاتي في المدرسة

للأستاذ السيد يعقوب بكر

سوف لا نعرض في هذا البحث للتجارب التي أُجريت في هذه المسألة؛ فإن هذه التجارب كثيرة كثرة لا نستطيع معها حصرها في بحث مثل هذا البحث؛ وهي كذلك ذات صبغة بيئية إن صحَّ هذا التعبير، فهناك تجارب إنجليزية وتجارب أمريكية وتجارب أسترالية وتجارب فرنسية، وطبيعي أن هذه التجارب لا تهمنا كمصريين لهم بيئتهم الخاصة وتعليمهم الخاص الذي توحي به هذه البيئة؛ هذا إلى أن من هذه التجارب ما كان مسرحه المدرسة الابتدائية وما كان مسرحه المدرسة الثاموية وما كان مسرحه الجامعة، وواضح أن هذه التجارب لا تصلح لمدارسنا وجامعاتنا لسبب بسيط جدّاً وهو أن مدارسنا وجامعاتنا تختلف عن تلك المدارس والجامعات الأجنبية التي جعلت مسارح تُجري عليها تجارب الحكم الذاتي؛ كذلك أجريت تجارب في الحكم الذاتي على التلاميذ الذين لم يبلغوا سن البلوغ والمراهقة وعلى الطلبة الذين بلغوا هذه السن وهنا أيضاً لا نستطيع تطبيق هذه التجارب على من لم يبلغ هذه السن من تلاميذنا وعلى من بلغها لسبب بسيط جداً أيضاً، وهو أن هؤلاء يختلفون اختلافاً كبيراً عن نظرائهم في البلاد الغربية.

وإذن فلن نعرض لهذه التجارب التي أجريت في الحكم الذاتي. وإنما سنعرض فقط للمبادئ العامة التي تسيطر على هذا الموضوع.

وأول ما نفعله في هذا الصدد أن نبين مكان الحكم الذاتي من التأديب

فنحن نعرف أن الأستاذ مكمان يقسم تطور التأديب من حيث البعد عن الحرية أو القرب منها إلى ثلاث مراحل متتابعة: مرحلة الإرهاب ومرحلة التأثير بالشخصية ومرحلة التحرير

ففي المرحلة الأولى كان المعول على القوة وحدها، وكانت العصا أداة التفاهم الوحيدة بين المعلم والتلميذ

وفي المرحلة الثانية - وهي مرحلة انتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثالثة - هذب المربون من حاشيتهم ووقفوا من جفوتهم وإن لم زودوا تلاميذهم بعد بالحرية الك يتطلعون إليها والتي هي في الحق من حقهم

أما المرحلة الثالثة؛ فهي التي تمثلها المدرسة الحديثة في التربية وهذه المدرسة ترمي إلى تزويد التلميذ بحرية خالصة من كل قيد؛ ويجب أن تكون حرية التلميذ هذه إيجابية لا سلبية؛ فيجب - كما يقول السير روبرت بادن باول - أن يشجع التلميذ على أن يعمل ما يحب كما يحب وإن أدى به هذا إلى الخطأ، فبهذه الطريقة وحدها يمكنه أن يكتسب خبرة في هذه الحياة

والأستاذ ماك مان يرض نوع التأديب الذي تضمنته المرحلة الثانية، ولكن الدكتور الكورث براون. لا يقره على هذا الرفض

والسير جون آدمز يخرج من اعتباره النوع الأول من التأديب؛ ويترك النوع الثاني لمحك الحياة يظهر ما فيه من زيف أو صلاح؛ وينظر في النوع الثالث فيرى أن مفهومه يقتضي من المعلم أن يكظم شخصيته وأن يلفها في مدارج النسيان، فيقول إن هذا غير ممكن الحدوث، فشخصية المعلم تظهر بالرغم منه وتترك أثرها في التلاميذ، وهو لا يستطيع بحال ما أن يخلّص ما يلقيه على تلاميذ من أصباغ شخصيته. ويزيد السير جون آدمز على ذلك فيقول إن دعاة هذا المذهب الجديد يعترفون بصحة ما يقول

والذي تقصد إليه من كل هذا هو أن نقول إن الحكم الذاتي في مظهر من مظاهر المدرسة الحديثة في التربية

وهنا يحسن أن نتحدث قليلاً عن تاريخ المسألة

فليس من شك في أن النظام يجب أن يتوفر في التعليم المدرسي حتى مكن لهذا التعليم أن يحقق الغاية المقصودة منه. لذلك كان النظام في المدرسة أمراً على جانب كبير من الأهمية في نظر الجميع. ومن ثمَّ أخذت المدرسة تهدف إلى أن بعث في جوها نظاماً مباشراً فما أدّى في كثر من الأحيان إلى إهمال الغرض التربوي المقصود تحقيقه عن طريق النظام. ولكن ازدياد الاهتمام بالأفراد ولا سيما الأطفال، ومطالبة المدرسة بإخراج تلاميذ قادرين على أن يشاركوا في التعاون الاجتماعي في هذه الحياة، وتسلط علم نفس صحيح على المدارس، كل هذا دعا إلى ترك هذا النوع من التأديب الذي لا يهدف إلا إلى مجرد النظام إلى نوع من التأديب آخر يتحقّق من ورائه نمو الشخصية والتعاون الاجتماعي الثابت في المدرسة

وقد تجلت تلك النزعة في أمريكا في عدة محاولات ترى إلى زيادة حرية الأطفال ومسئوليتهم في مباشرة نواحي نشاطهم في الفصل وفي خارج الفصل. ولقد ظهر أثر هذه النزعة أول ما ظهر في الكليات والجامعات فيما يُعبر عنه باسم نظام الشرف ثم ظهر بعد ذلك في الحكم الذاتي في المدارس العالية وأخيراً ظهر في المدارس الأولية

على أنه يحسن بنا هنا وقد أشرنا إلى نظام الشرف في معرض كلامنا الوجيز عن تاريخ الحكم الذاتي أن نتحدث بإيجاز شديد عن الفرق بين هذين النظامين كما هما في أمريكا. فنقول إن وجود نظام الشرف في المدارس العالية يرجع إلى أنه لما كان طلبة هذه المدارس يتمتعون من قديم بقسط وافر من الحرية في مباشرة وجوه نشاطهم المختلفة في داخل هذه المدارس وفي خارجها، فإن المدرسين والمباشرين لأمور هذه المدارس قد وصلوا هذه الحرية التي يتمتع بها الطلبة بنظام الامتحان وجعلوها تنفيذ إليه لتدبر أمره. وكان الدافع لهم على ذلك أنهم لمسوا صعوبة التوفيق بين كبح نزعة الغش في الامتحان والعمل - في نفس الوقت - على خلق اتجاهات صحيحة وعادات صحيحة في نفوس الطلبة

هذا عن نظام الشرف. أما الحكم الذاتي في المدارس غير العالية فقد دفع إلى اصطناعه غرضان هما بدون شك أوسع مجالاً من الغرض الذي دفع إلى اصطناع نظام الشرف: فالغرض الأول هو إيجاد وسيلة لتعليم علم الحكم المدني تكون أكثر موضوعية وإيجابية، والغرض الثاني هو العمل على أن تنمي حكومة المدرسة الروح الاجتماعية عند كل طالب؟

فهذا هو الفرق بين النظامين.

على أن هناك نظاماً آخر يحسن أن نتحدث قليلاً عما بينه وبين نظام الحكم الذاتي من فروق، ونعني بهذا النظام نظام العُرفاء فبين هذا النظام وناظم الحكم الذاتي ثلاثة فروق رئيسية: فالفرق الأول يتلخص في أنه في نظام العرفاء يخَّول السلطة عددٌ قليل من التلاميذ كبار السن بينما أن السلطة في نظام الحكم الذاتي يخوَلها التلاميذ جماعة، والفرق الثاني يتلخص في أن أعمال العرفاء تنفيذية أكثر منها تشريعية؛ فمنظم القوانين التي ينفذونها ليست من تشريعهم. والفرق الثالث يتلخص في أن هؤلاء العرفاء يختارون من قبل ناظر المدرسة ويكونون مسئولين أمامه بدلاً من أن يكونوا نائبين عن الجماعة.

وهنا يحسن بك أن تسألني عن كنه الحكم الذاتي لأقول لك إنه تخويل جماعة من التلاميذ سلطة كاملة لمباشرة شئون حياتهم المدرسية كلها أو بعضها

وهذا الحكم الذاتي لم يصطنع عبثاً، بل لتحقيق أغراض يُرجى تحقيقها من ورائه.

فمن هذه الأغراض تنمية القدرة على التعاون - نحن نعرف أن للتعاون أهميته العظمى في الدول الديمقراطية، بل وفي ذلك المحيط الفسيح الذي نسميه بالمجتمع الكبير والذي نحن جميعاً أبعاض منه. وإن المجتمع الحديث مدين بتقدمه بل وباستمرار وجوده لهذا التعاون الذي يربط بين أفراده بعضهم وبعض.

ومن هذه الأغراض تدريب التلاميذ تدريباً عملياً على أن يكونوا مواطنين مستنيرين، فإن دروس علم الحكم المدني لا يمكن أن تغني هذا التدريب العملي بحال ما. فالكتب لا تستطيع بحال ما أن تطلعنا على دقائق آلة العمل الحكومية أو على الطريقة التي تدير بها الأعمال، وإنما نطلّع على كل هذا بالتجربة وبالتجربة فقط

وهناك غرض ثالث هو قي الحقيقة غرض علاجي. بيان ذلك أن هناك أطفالاً ينزعون إلى أن يشعروا المجتمع بوجودهم وإلى أن يحملوا على الاعتراف بأهمية هذا الوجود، فإذا لم يجد نزوعهم هذا متنفساً يخرج منه إلى عالم الواقع والحقيقة فإنه يتحول إلى عقدة نفسية تحمل هؤلاء الأطفال على أن يقفوا من قوانين المجتمع موقف العداء، وبذلك تكون حياتهم العاطفية صراعاً مشتجراُ بينهم وبين أولى الأمر. وعلى ذلك فيجب أن يوحي إلى هؤلاء المتمردين على المجتمع أن القانون ليس جماعاً من أوامر ونواها تملي عليهم وتُفرض، وإنما هو وسيلة تصطنع لتحقيق مثل عليا يطمح إليها أفراد المجتمع ويشاركونهم هم في هذا الطموح. وليس كالحكم الذاتي وسيلة لغرس هذا في نفوس هؤلاء المتمرِّدين

فهذه أغراض ثلاثة رئيسية يرجى تحقيقها عن طريق الحكم الذاتي: وهناك أغراض أخرى ثانوية يصح أن نذكر بعضها. فمن هذه الأغراض الثانوية تدريب التلاميذ على ضبط النفس، وذلك لأن في تدبيرهم لأمورهم المدرسية تقوية لعزيمتهم وشحذا لإرادتهم، ولابد لضبط النفس من قوة في العزم ومضاءٌ في الإرادة

ومن هذه الأغراض الثانوية أيضاً تقوية إحساس التلاميذ بقيمة النظام وأهميته. ومنها كذلك تدريب التلاميذ على سياسة الغير.

(للحديث بقية)

السيد يعقوب بكر