مجلة الرسالة/العدد 501/في السياسة القومية
مجلة الرسالة/العدد 501/في السياسة القومية
بين الأخوة. . .
أسرتان أختان ورثتا أمجاد الدهر، ورفعتا أركان الحضارة، وعاشتا على النعماء والبأساء ثلاثة عشر قرناً يظلهما وطن كريم، ويغذوهما نهر فياض، وترعاهما شريعة سمحة، وتربط بينهما أواصر خالدة من صلة القربى، وحرمة الجوار، ووحدة المنفعة، لا يجوز أن يعبث بوحدتهما المقدسة عابث لنزوة غضب أو شهوة خلاف.
تلك كانت كلمتي لصديقي ف. ب، وهو من سراة الأقباط الذين اعتقدوا مبادئ الوفد وضعها الزعيم سعد؛ قلتها له حين أنكرت في بعض حديثه معنى من معاني العصبية المفرِّقة التي ماتت ألفاظها في لغتنا المصرية منذ طويل. وكان صديقي هذا إلى يوم قريب لساناً من ألسنة الوفد، يؤمن برسالته، ويخلص لسياسته، ويخضع لزعامته، ويعتقد أن مبادئه هي الدِّين المشترك الذي تصلح عليه الأمة، وتتحقق به المساواة، وتشرق فيه العدالة، ويطهَّر به الدم المصري من جراثيم الفرقة فلا يكون لابن النيل إلا وصف واحد يُشتق من مصريته، لا من عقيدته ولا من عنصريته. فما هو إلا أن غضب من رجال الوفد غاضب يتمنى إليه حتى أصبحت مبادئ الوفد كفراً، وسياسته غدراً، وزعامته فجراً، وحكمه محاباة؛ وحتى صار الخلاف بين رجل ورجل، خلافاً بين عنصر وعنصر، وبين دين ودين، وبين كثرة وقلة سوى بينهما الفضل لا العدل، فلم يعد هناك كثرة ولا قلة، ولا عزة ولا ذلة، ولا قرابة ولا بعد
أهكذا يا صديقي نُحكم الهوى في الرأي، وننصر العصبية على الوطنية، ونصدع ما أراد سعد أن يُرْأب، ونقطع ما أمر الله أن يوصَل؟ إن كان لم يقنعك ما قلت، فإني لأرجو أن يقنعك ما أكتب:
إن توحيد الأمة معنى من توحيد الله لا يوسوس بتوهينه في الصدور إلا شيطان. وإن هذا الشعب المفطور على السماحة والوادعة والألفة، لم يسجل عليه تاريخه الطويل أن بعضه تعصب على بعضه إلا بمكر الدخيل أو غدر الخائن. وإن الإسلام الذي يرتع في ظلاله اليهودي المضطهد، والأرمني المبعَد، والرومي المهاجر، والأوربي المستعمر، لا يمكن أن يكون مصدر شقاق بين عنصرين شقيقين خلقا من طينة واحدة، ونبتا في مغرس واحد.
وإذا جاز للأجنبي أن يعكر الماء ليصيد، ويفرق الأهواء ليستفيد، فلا يجوز للوطني البر أن يمزق الوحدة لينتقم، ويوقظ العصبية ليغلب!
لقد كان التمييز بين المصري وأخيه بالإسلامية والقبطية، أو (بالأكثرية والأقلية)، أثراً من آثار الحكم الجاهل، أو أداة من أدوات الاستعمار اللئيم. ومصداق ذلك أن الأمر لم يكد يصير في أهله حتى أمحت الفروق، وشاعت الحقوق، وتعانق الهلال والصليب، وتآخي الشيخ والقس، وماتت الصحافة الطائفية، وأصبح المصريون أمة واحدة تجد فيها المسلم والقبطي، كما تجد الوفدي والدستوري، ولكنك لا تجد للعقيدة الدينية أو النحلة السياسية أثراً سيئاً في علاقة خاصة أو معاملة عامة. وبهذه الوحدة المقدسة تميزت مصر على أمم الشرق، وقدمت إليهن مثلاً عالياً في الوطنية الصادقة والسياسة الحكيمة
إن تقسيم الناس على عدد الأديان والألوان خلق من أخلاق الجاهلية لا تزال الإنسانية تقاسي ما ورثت من عقابيله. وإن استغلال هذه المعاني اليوم في تحقيق غرض من أغراض السياسة وسيلة مكيافيلية لا يطمئن عليها ضمير حي. وإن زعمك يا صديقي أن غضب الأسرة لغضب واحد منها نزعة في أصل الطبع لا حيلة فيها، يكون له مساغٌ في العقل إذا كان الغضب لها والخلاف من أجلها، أما إذا كان الشقاق والانشقاق لخلاف في السياسة العامة، فإن في مغالبة فريق بفريق، ومواثبة عنصر بعنصر، دليلاً على نية سوء لا يصلح صاحبها أن يكون زعيماً يطاع ولا إماماً يتّبع.
لا يا صديقي! لم تكن فكرة التميز والتحيز في عهد من العهود سبيلاً إلى مصلحة الوطن؛ فإن تقسيم الحقوق والواجبات على مقتضى النسبة العددية شديد على الفريق الأقل. وإن انقسام الأمة إلى فريقين متعارضين، خليق بما يحمل من معاني الأثرة والتعصب أن يوقع الوحشة بين الأخوة فلا يجمعهم ظل ولا تدنيهم مودة
لك يا صديقي ولجميع الناس أن تختلفوا وتختصموا؛ ولكن عليك وعلى جميع الناس أن تراعوا جانب الحق في الخلاف، وتؤثروا سلاح الحق في الخصومة. وما دمتَ من رجال السياسة وطلاب الحكم فيجب أن يكون رأيك للجماعة وسعيك للجميع. أما أن تفرق لتسود، وتقسم لتقود، فذلك جرم وطني لا تسعه مغفرة
اتقوا الله في الوطن يا صديقي، ولا تفتحوا عليه باب الفرقة فإنه باب ظاهره فيه الخراب، وباطنه من قِبَله العذاب
لا تقولوا نحن وأنتم، ولا فعلنا وفعلتم؛ فإنها من بقايا الجمل التي كان يلقيها علينا الأجنبي فنمضغها مضغ الجيف، ثم لا يأمن بها عيش ولا يسمن عليها بدن
نحن وأنتم اخوة توشَّج ما بيننا من صلات النسب على طول القرون، فإذا قيل لكم إنكم طائفة في أمة، وذمة في دين، وعصيبة في حزب، فادفعوا هذا القول الظنين بمنطق الوطني المؤمن، واربأوا بأنفسكم أن تكونوا مطيايا ذُلُلاً لأصحاب المطامع يقتحمون بكم مزالق السياسة. واذكروا أن أثمن ما غنمناه من جهادنا الطويل هو توحيد الأمة، وان توحيد الأمة كما قلت معنى من توحيد الله لا يوسوس بتوهينه في الصدور إلا شيطان.
أحمد حسن الزيات