مجلة الرسالة/العدد 503/حركة الإصلاح وحديث عيسى بن هشام

مجلة الرسالة/العدد 503/حركة الإصلاح وحديث عيسى بن هشام

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 02 - 1943



للأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم

نشرت لي الرسالة الغراء كلمة في (حديث عيسى بن هشام) تناولت فيها أسلوبه ومنزلته القصصية، ثم بدا لي رأي في هذا الكتاب آثرت أن أكتبه، علّ الطلبة المتسابقين يجدون فيه قبل الامتحان ما يهديهم إلى فهم المقصود من الكتاب.

حركة الإصلاح

استطاع الغربيون في القرن التاسع عشر أن يثبتوا أقدامهم في أقطار المشرق: يبسطون سلطانهم السياسي في كثير منها ويتذرعون في بعضها بالتبشير وإنشاء المدارس ويعالجون التجارة في أقطار أخرى. وقد حملوا إلى كل هذه الأقطار فيما حملوا ألواناً من العادات والتقاليد والأخلاق وضروباُ من المدنية والحضارة لم يشهدها الشرق من قبل. فانقسم الشرقيون حيال هذا الجديد الطارئ فريقين: فريقاً يتحفظ ويتصون ويرى الوقوف عند القديم الذي شوهته العصور المظلمة واذهب بهاءه الجمود الطويل، وفريقاً آخر قد فتنته المدنية الغربية وما فيها، فاندفع في تيارها على غير هدى وبصيرة فأصاب منها ما لا يغني ولا يفيد وأساء إلى تقاليده وأخلاقه

رأى المصلحون هذه الحال فلم يعجبهم هذا الجمود المزري ولم يرقهم هذا الاندفاع المقيت فقاموا بحركة للإصلاح، قوامها التجديد في حدود المعقول الذي لا يتنافى مع روح الدين ومبادئه وأصوله وغاياته، والوقوف في وجه الفوضى التي أوشكت أن تقضي على كل قديم جميل. وكان أول مجاهر بهذا الإصلاح زعيم الشرق السيد جمال الدين الافغاني، فقد دعا إلى مبادئه في بلاده والهند والحجاز وتركيا، ووصل إلى مصر عام سنة 1871 مبيناً منهاجه الإصلاحي فلاقى من المفكرين قبولاً، ورأوا فيه المنقذ للشرق والهادي إلى طريق الصواب

رأوا في آرائه ثورة على العلماء الجامدين الذين أساءوا إلى الدين بجمودهم حتى جعلوه في معزل عن الحياة العامة، وثورة سياسية تدعوا إلى إشراك الشعب في الحكم إشراكاً يظهر أثره، وثورة أخرى تنتظم نواحي الأخلاق والاجتماع والأدب؛ فقد دعا إلى الاقتداء بالسلف في أخلاقهم ومبادئهم، وأراد من الأدب العربي أن يكون أداة لنشر الأفكار والعلوم لا ألفاظاً جوفاء تقوم على الزخارف اللفظية والحُلَي الكلامية ولا تحمل من المعاني قليلاً ولا كثيراً. ولم تلبث هذه المبادئ السامية أن وجدت من المصريين أعواناً عرفوا قدرها وأذاعوا بها: فكان منهم المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المصلح الديني الكبير. وكان منهم من جاهر بالدعوة السياسية في كتابته وشعره وطالب بالدستور، وتألفت جماعات لبعث الكتب القديمة، وكان من هذه الجماعات جماعة تألفت سنة 1898، وكان من أعضائها حسن باشا عاصم، وأحمد بك تيمور، وعلي بك بهجت، وغيرهم. وإنما فعلوا ذلك ليُطْلعوا المتأدبين على طراز قوى من الأدب يغنيهم عن تقليب النظر في الضعيف الساقط من المنثور والمنظوم. وقام دعاة الإصلاح الاجتماعي ممن ثَقِفوا مبادئ جمال الدين يعلنون آراءهم للناس في صدق ويقين

حديث عيسى بن هشام

كان لرجال الإصلاح الديني كالشيخ محمد عبده ومن سار على طريقة آراء نافذة في الإصلاح الاجتماعي ظهرت في كتابتهم ودعوتهم، إلا أن رسالتهم الدينية شغلتهم بعض الشيء عن التفرغ لنواحي المجتمع فنهض بها غيرهم نهضة قوية وكان منهم محمد المويلحي في كتابه (حديث عيسى بن هشام)

ولم يقتصر المويلحي على المجتمع والأخلاق بل تناول أموراً أخرى تتصل بهما وتؤثر فيهما تأثيراً كبيراً أو قليلاً وهي السياسة والدين والأدب ولكنه لم يمعن في هذه النواحي لأنه يعلم أن لها رجالاً يقومون بها.

وبعد فهل سرى روح جمال الدين إلى المويلحي وهل أثر فيه التأثير الذي جعله يتجه هذا الاتجاه؟!

لقد كان جمال الدين مدرسة تخرج فيها كل من شهد الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وكان محمد المويلحي من هؤلاء ولعلك تستطيع أن تدرك هذا الارتباط المتين من رسالة. (جمال الدين) في صدر (حديث عيسى بن هاشم) فقد وافق ما بهذا الكتاب مبادئ جمال الدين التي يدعوا إليها وأصابت كتابات المويلحي هوى في نفسه فقرظه هذا التقريظ البليغ.

ونحن إذا تلمسنا هذا الارتباط في كتابة المويلحي وجدناه بيناً ظاهراً، فهو يرى أن فساد المجتمع راجع إلى تقليد المصريين للأجانب تقليداً أعمى وتهالكهم على التظاهر بمظاهر الغرب، ويقول إنهم قد أساءوا إلى أخلاقهم وعاداتهم ونظمهم حين لجئوا إلى هذا التقليد:

1 - ذلك لأنهم استُّنوا بهذا التقليد سُنَناً جديدة ضارة لم تكن معروفة من قبل في مصر كالانتحار.

2 - وهم كذلك أساءوا التقليد فنقلوا عن الغرب مفاسد قد قيدها الغرب بقيود فجعلوها هم مباحة لا قيد فيها ولا شرط كالقمار والبغاء والخمور.

3 - وهم تعلقوا بالمظاهر الكاذبة في التقليد، وتركوا المهم من مدنية الغربيين. وفي هذا يقول: (فأصبحوا في الظلال يعمهون وفي البهتان يتسكعون، واكتفوا بهذا الطلاء الزائل من المدنية الغربية)

4 - ولقد كان هذا التقليد سبباً في تركهم العادات الكريمة المتوارثة عن الأجداد والأسلاف فهو يقول: (ونبذوا ما كان عليه أسلافهم من الحق ظهرياً، فانهدم الأساس ووهت الأركان وانقضّ البنيان وتقطعت بهم الأسباب فأصبحوا في الضلال يعمهون وفي البهتان يتسكعون)

5 - على أن هذا النقل كان مخالفاً لطبيعة البيئات والأجناس فإن ما يصلح للغرب قد لا يصلح للشرق، وما يراه الغربيين أمراً مألوفاً نراه نحن أمراً منكراً لتقاليدنا وأمزجتنا وما توارثناه عن السلف من عادات وآداب، والمويلحي يضرب لذلك مثلاً التمثيل المنقول عن الغرب برمته وأشخاصه وأصوله: (ولن تخلوا قصة من قصصهم التي يمثلونها عن ذكر العشق والغرام وما من رواية لهم إلا والعاشقان يكونان فيها كالفاتحة والخاتمة لها، وهو وإن كان مقبولاً عند الغربيين مسموحاً به لموافقة العادة عندهم، ولكونه شيئاً لا عيب فيه يجهر به فتيانهم وفتياتهم بل هو أصل من أصول التزاوج بينهم قضت به رطوبة الإقليم وطبيعة الحال إلى ما يهيج الشعور ويثير ثائرة الخيال لكنه غير مقبول عند الشرقيين ولا مسموح به في عاداتهم. . .)

هذه هي الأسباب التي يعزو إليها المويلحي فساد المجتمع والأخلاق وهي كما ترى ما أشار إليه جمال الدين وتردد على ألسنة المصلحين. ولم يبق بعد هذا إلا أن نشير إلى الإصلاح الأدبي والديني في كتاب (حديث عيسى بن هشام) ليتضح للقارئ الارتباط المتين بين دعوة جمال الدين ودعوة المويلحي.

لم يكن المويلحي من علماء الدين وإنما كان من الأدباء المصلحين الذين وجهوا أكبر جهودهم إلى المجتمع والأخلاق، فهو إذا كتب في الدين كتب ليحارب الجمود دون تعمُّق في التفصيلات؛ وهو إذا انتقد العلماء أراد من وراء هذا النقد توجيههم إلى الاشتراك في الحياة العامة ليتحقق صلاح المجتمع والأخلاق.

فهو يرمي في كتابه طوائف من الناس بالاستهتار وضعف العقيدة فيقول على لسان حفيد الباشا (لست أسمع لهذا الكذب والخرف وليس لي اليوم من جد ولا والد، ولا أنا ممن يصدِّق حديث البعث في الآخرة فكيف برجوع الموتى في الدنيا)

أما الخرافات التي علقت بالأذهان فهو يلم بها إلماماً في سياق حديثه عن كبراء العصر الماضي. وقد جلس أحد العلماء إلى السيد عبد القادر الكيلاني إحياء الغريق كما ينسب إليه أن الله قد وعده بأن من ينظر إليه يوم الجمعة يكون ولياً مقرباً، وإذا نظر إلى التراب يكون ذهباً إلى آخر ما ورد في هذه القصة. ونحن نعلم علم اليقين أن المويلحي قصد بهذه القصة إظهار ما ران على الدين وأصوله ومبادئه من خرافات يجب الإقلاع عنها والبعد عن التعلق بأمثالها لأنها تبعد عن روح الدين ورسالته

وهو يرجو من الدين أن يصلح لكل حياة وأن يكون دافعاً إلى إصلاح المجتمع وعاملاً من عوامل الخير والسيادة الإنسانية، فإن أقتصر الدين على النسك والعبادة، واتكل الناس على أعمالهم التعبدية التي يقومون بها غافلين عن فعل الخير وتقديم المعونة للبشر كان آلياً لا خير فيه لصلاح الناس. وفي الكتاب ما يشير إلى ذلك على لسان الباشا فهو يقول: (وقد غرتني في دنياي من مثل هذا الشيخ ما يهوِّن عليّ ارتكاب المخزيات وفضائح الشرور في معاملة الناس ارتكاناً على نهار أصومه وليل أقومه. . . فنمت عن عمل الخير وغفلت عن بذل المعروف)

فلعلك تدرك بعد هذا أن المويلحي له دعوة دينية قوامها التمشي مع المدنية والبعد عن الخرافات وخدمة الإنسانية. وهذه الدعوة هي غاية جمال الدين، وهي ما قام به الشيخ محمد عبده

أما الأدب فإن المويلحي يرى أنه لا يرتقي ولا تسمو عبارته ولا تجود معانيه إلا إذا اتصل الأدباء بالتراث العربي القديم يقلبون في عباراته البليغة وأساليبه الرصينة. ويرى أنه لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بنشر الكتب وطبعها حتى تكون في متناول الناس جميعاً، ويعجب من بقاء الكتب المخطوطة في المكتبة العامة بعيدة عن أيدي الناس قائلاً إن هذا يعرضها للتلف ويفوت الغرض منها ويجعل النفع بها محدوداً؛ وهو يشتط في هذا الرأي فيقول: (أي نفع وفائدة للأمة المصرية الإسلامية في أن تنشر بين يديها رمم الفراعنة في الأنتكخانة، وتقبر أرواح العلماء والحكماء في الكتبخانة). وهذا الكلام وإن أجراه المويلحي على لسان أحد الأشخاص إلا أن المتتبع لكلامه في هذا الصدد يعلم إيمانه بها الكلام

ولم ينس المويلحي الثقافة الحديثة وأثرها في الأديب فهو يقول في عزلة الباشا عن الناس: (وعكفت مع الباشا في عزلتنا أذهب به كل مذهب، وأنتقل به من مطلب إلى مطلب في مطالعة الأشعار والكتب من تاريخ وأدب ومن حكم متينة قويمة وشتى علوم حديثة وقديمة)

وغاية المويلحي من كل هذا أن يتصل الأدباء بالأدب العربي القديم لأنه منبع لكل بارع وفاخر من الأساليب، وأن ينالوا من الثقافة الحديثة حظاً كبيراً لأنهم في حاجة إلى هذه الثقافة التي تمدهم بالأفكار والمعاني؛ ثم هو لا يعجبه رصف الألفاظ الجوفاء التي لا تحمل معنى قيماً. ولذلك ساق في حفلة العرس خطبة وقصيدة ليبين نوعاً من الأدب التافه شعره ونثره. وقد عقب عليهما ساخراً بقوله: (ثم انتهينا بحمد الله من الشاعر بعد الخطيب

وهذه الدعوة الأدبية هي دعوة جمال الدين ومن سار على نهجه من بعده. وقد استطاع المويلحي بلباقته الأدبية القصصية أن يضمن كتابه هذه النواحي الإصلاحية في أسلوب شائق جذاب يستهوي الناس. ولم ينس أن يذكر ما كان لدعاة الإصلاح وزعماء النهضة من فضل عليه فهو يقول في إهداء كتابه: (وأهديه إلى أرواح المرحومين الأديب الوالد، والحكيم جمال الدين، والعالم محمد عبده، واللغوي الشنقيطي، والشاعر البارودي. . . أولئك الذين أنعم الله عليهم وأولئك الذين تأدبت تأدبهم وأخذت عنهم)

(الفيوم)

أحمد أبو إبراهيم