مجلة الرسالة/العدد 505/السيدة سكينة بنت الحسين
مجلة الرسالة/العدد 505/السيدة سكينة بنت الحسين
للأستاذ سعيد الديوه جي
- 3 -
صالتها
ولئن ظهرت صالونات فتيات الطبقة الأرستقراطية في الغرب حوالي القرن الثامن عشر، فقد كانت هذه الصالونات معروفة في الأندلس قبل ذلك بقرون. فكان صالون (ولادة بنت المستكفي) مجمع العلماء والشعراء وأهل الفن والأدب. وهذه الصالونات كانت منتشرة في المدينة منذ القرن الأول الهجري. والذي نراه أن أول ظهورها في الشرق كان في المدينة المنورة على عهد الدولة الأموية، وأول من سن هذا هي السيدة سكينة، ثم تبعها بعد ذلك سيدات قريش
امتازت ندوة سكينة بفخامتها وجلالتها، ذلك لأنها ندوة سكينة التي نعرف أدبها الرفيع وعلمها وظرفها ومروءتها وميلها إلى تشجيع كل نابغ، والأخذ بيد كل سائر، تهديهم الطريق وتذلل لهم العقبات، وترشدهم إلى مواضع الضعف في علمهم وأدبهم وفنهم. وفي بيتها غرف للانتظار وأخرى للضيافة يتزاحم فيها الشعراء والأدباء والفقهاء ورواة الحديث والمغنون. وقلما كان يمر بالمدينة أمير أو شريف أو نابغ أو عالم إلا ويعرج إلى هذه الندوة عش الأدباء وكعبة العلماء والفقهاء.
وكم اجتمع الشعراء ببابها والناس حولهم يطلبون الإذن منها لينشدوها أشعارهم أملاً في صلتها أو طلباً لإبداء رأيها. وكم انتظر الشعراء ببابها أياماً حتى يأذن لهم. والشيء المعتاد عند أهل المدينة هو أن يترددوا إلى ندوتها ليشاهدوا مباراة الشعراء فيها، أو الحلقات العلمية التي تعقد. أو مجالس رواة الحديث التي تدور، وكانت السيدة سكينة تشارك في هذا كله من وراء حجاب حيث تراهم ولا يرونها، يحف بها جواريها اللاتي يروين الأحاديث ويحفظن الأشعار
اجتمع الفرزدق وجرير وجميل وكثير ونصيب في موسم الحج. فقال بعضهم لبعض: لا تجتمعون في مثل هذه الساعة، فهلموا نفعل شيئاً نذكر به في الزمان. فقال جرير: هل لكم أن نسلم على سكينة بنت الحسين فلعلها أن تكون سبباً لما أردتم. قالوا: نعم الرأي. وانطلقوا فاستأذنوا. فخرجت جارية وأعلمت مولاتها بقدومهم. فأذنت لهم فقصدت حيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم. أخرجت إليهم جارية وضيئة قد روت الأشعار والأحاديث، فقالت: آيكم الفرزدق؟ قال: أنا. قالت: أنت القائل:
هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره
قال: نعم. قالت: ما وفقت ولا أصبت. أما آيست من تعريضك بعودة صدق محمودة؟ ما دعاك إلى إفشائها سرك وسرها؟ أفلا سترت على نفسك وعليها؟ خذ الألف درهم وانصرف. ثم دخلت وخرجت، وقالت: آيكم جرير؟ قال جرير: هاأنذا. قالت: أأنت القائل؟:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فأرجعي بسلام
قال الجرير: أنا قلته. قالت: فما أحسنت ولا أجملت ولا صنعت صنع الحر الكريم حين رددتها، وقد تجشمت إليك هول الليل. أفلا أخذت بيدها ورحبت بها وقلت لها (نفسي فداؤك فادخلي بسلام. خذ هذه الألفين والحق بأهلك. ثم انصرفت إلى مولاتها ثم عادت فقالت: آيكم القائل:
ولولا أن يقال صبا نصيب=لقلت بنفسي النشء الصغار
بنفسي كل مهضوم حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتظار
قال نصيب: أنا قلته. قالت: غزلت وأحسنت ولا كرمت، لأنك صبوت إلى الصغار وتركت الناهضات بأحمالها. خذ هذه السبعمائة درهم فاستعن بها. ثم انصرفت إلى مولاتها ثم عادت فقالت: آيكم القائل:
وأعجبني يا عز منك خلائق ... كرام إذا عد الخلائق أربع
دنوك حتى يدفع الجاهل الصبا ... ودفعك أسباب المنى حين يطمع
وإنك لا تدري كريماً مطلته ... أيشتد إن لاقاك أو يتضرع
قال كثير: أنا قلته. قالت: غزلت وأحسنت. خذ هذه الثمانمائة درهم فاستعن بها. ثم انصرفت إلى مولاتها ثم خرجت فقالت: أيكم القائل:
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... وأي جهاد غيرهن أريد
وأفضل أيامي وافضل مشهد ... إذا هيج بي يوماً وهن قعود
قال جميل: أنا قلته. قالت: غزلت وأحسنت وكرمت وعففت، ادخل، لما سلم. فقالت سكينة:
(أنت الذي جعلت قتيلنا شهيداً، وحديثنا بشاشة، وأفضل أيامك يوم تذب عنا وتدافع، ولم تتعد إلى قبيح، خذ هذه الألف درهم وأبسط لنا العذر، أنت أشعرهم)
على أن هذا التبصر بالشعر وفنونه والمآخذ الدقيقة على الشعراء لم يكن ليتهيأ لغير سكينة، فقد كان لها فوق ذكائها المتوقد، من عوامل الوراثة من والديها وما ساعدها على ذلك. فجدها سيد فصحاء العرب بعد رسول الله ﷺ. وأمها بدوية نشأت في البادية وتلقت الفصاحة عن شعرائها وبلغائها وهي شاعرة رقيقة. ناهيك عن محيطها الذي نشأت فيه وهي المدينة المنورة عش الأدباء والشعراء، ومنشأ الغزل الإباحي العفيف - كل هذه العوامل أثرت في السيدة سكينة وجعلتها تفوق بنات قريش في بصرها الثاقب ورأيها الصائب وأدبها الرفيع
نرى رواة الشعراء يختصمون وكل يفضل صاحبه فإذا جدال وإذا خصام وينشدون حكماً صائباً يقدر أن يوفق في مثل هذا الموقف الحرج فيقضي لفحل على فحل دون خوف أو حذر أو تعصب. ومن لهم في مثل هذا الموقف؟ وأني لهم ذلك الحكم الواسع الإطلاع على أشعار العرب وأنسابها وأخبارها ليوفق في حكمه؟ ومن يعرض نفسه لتهكم جرير أو لفحش الفرزدق أو لهجو الأحوص. هذا مالا يجرؤ عليه أحد. ولا يتهيأ لغير (السيدة سكينة). اجتمع بالمدينة رواة الشعراء جرير ونصيب وكثير وجميل والأحوص فأدلى كل منهم أن صاحبه أشعر وتراضوا بأن يحتكموا إلى سكينة بنت الحسين. فقصدوا ندوتها وعرضوا عليها الأمر فأذنت لهم. فدخلوا. قالت لصاحب جرير: أليس صاحبك الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيادة فأرجعي بسلام
وأي ساعة أحلى للزيارة من الطروق؟!
ثم قالت لراوية نصيب: أليس صاحبك الذي يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا حزناً من ذا يهيم بها بعدي
كأنه يتمنى لها من يتعشقها بعده ألا قال: أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص أليس صاحبك الذي يقول:
من عاشقين تواسلاً وتواعداً ... ليلاً إذا نجم الثريا حلقا
باتا بأنعم ليلة وألذها ... حتى إذا وضح النهار تفرقاً
قالت: نعم. قالت: ألا قال (حتى إذا وضح النهار تعانقاً)
ثم قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فيا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثينة لا يخفي علي كلامها
قال. نعم. قالت. رحم الله صاحبك. إنه كان صادقاً في شعره، وكان جميلاً كاسمه، فحكمت له. ورضى الجميع بالحكم
ميلها للغناء
وللسيدة سكينة شعور رقيق وحب للجمال - وهل يحب الجمال إلا الجميل - هي جميلة في صورتها، جميلة في صوتها، جميلة في نفسها، وجميلة حتى في تهكمها ونقدها. ففاض هذا الجمال من روحها الطيبة الطاهرة، وغمر ندوتها، وجعلها معرضاً للفن والجمال.
وما الغناء إلا مظهر من مظاهر الجمال الروحي الذي تجيش به الأنفس فتهتز له القلوب فتردده ألحاناً.
كان يعجبها الغناء وتهتز له. وكان المغنون يقصدون صالونها ويعرضون فيه ألحانهم الجديدة وأصواتهم المبتكرة التي لم تكن معلومة عند العرب. وكان (الفريض) مولاها يلازم هذه الندوة ويشرف على مرتاديها من أهل الفن. فاعتنت السيدة سكينة بتربيته وأسلمته إلى المغنين وما زال يسمو أمره حتى بلغ في الغناء ما بلغ.
وهذا (حنين المغني العراقي المشهور يشد الرحال إلى المدينة المنورة تلبية لدعوة زملائه المغنين فيها. ولما كان على مرحلة منها ازدحم الناس لمشاهدته - فلم يرى يوماً كان أكثر حشراً ولا جمعاً من يومئذ - وأمل كل سرى وشريف أن يحل حنين ضيفاً عنده. ولكن كل شرف دون شرف، ومن له من الشرف والمروءة مثل ما لها؟ عرج الحنين إلى دارها ليسلم عليه ويستأذنه في الغناء عندها قبل كل أحد. فأذن له بالدخول. ثم أذنت للناس إذناً عاماً وأقبل أهل المدينة كعاداتهم إلى صالتها ليسمعوا أنغام حنين، غصت الدار وصعدوا فوق السطح وأُمرت لهم بالأطعمة فأكلوا ثم ابتدر حنين يغني:
هلا بكيت على الشباب الذاهب ... وكففت عن ذم المشيب الآيب
فأزدحم الناس على السطح وسقط الرواق على من تحته فسلموا جميعا إلا (حنين) فأنه مات تحت الهدم.
على أن المصائب التي اعتورتها منذ صغرها لم تترك قلبها خاليا من الحزن والأسى، وكيف يخلو قلبها من الحزن وقد شهدت أعظم المصائب؟ فقد كانت تأنس بالنوح وتخفف به آلامها وأحزانها. ومن أحق بالنوح منها؟ وهل النوح إلا أنغام الحزن والأسى؟!
كانت تبعث بالأشعار المحزنة إلى المغنين ليصوغوا بها ألحانا يتاح بها. كما كانت تختار من ذوي الأصوات المشجية وتسلمهم إلى المغنين ليعلموهم النوح، وقد بعثت مملوكها عبد الملك أبن سريج وأمرته أن يعلمه النياحة. ولما توفي عمها (أبو القاسم محمد بن الحنفية) ناح عليه نوحاً في غاية من الجودة.
(يتبع)
سعيد الدبو هـ جي
بالموصل