مجلة الرسالة/العدد 506/السيدة سكينة بنت الحسين

مجلة الرسالة/العدد 506/السيدة سكينة بنت الحسين

مجلة الرسالة - العدد 506
السيدة سكينة بنت الحسين
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 03 - 1943



للأستاذ سعيد الديوه جي

(تتمة)

مزاحها وتهكمها:

أنتهي الفرزدق من حجته ويمم شطر المدينة المنورة ليسلم على السيدة سكينة أملاً في صلتها ورغبة في ثنائها ليغيظ بهذا خصمه بل أكبر أعدائه (جريراً). والفرزدق من الحزب العلوي، طورد وسجن واضطهد بسبب تشيعه لهم. ولم يكتم هذا الحب الصادق لآل رسول الله، ، حتى أمام الخليفة هشام. ولكن هذا لم يخلصه من انتقاد السيدة سكينة وتهكمها به. ولما مثل في ندوتها سألته: من أشعر الناس؟

- وهي تعلم مكانته من الشعر فهو أفخر الشعراء الأمويين وأمدحهم وأمتنهم أسلوباً وأجزلهم لفظاً - قال: أنا. قالت: كذبت. أشعر منك الذي يقول:

بنفسي من تجنبه عزيز ... عليَّ ومَنْ زيارته لمام

ومن أمسى وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام

ولا شئ يغيظ الفرزدق أكثر من تفضيل قرنه وخصمه الألد جرير عليه. بهت الفرزدق وأسقط في يده. وماذا يصنع مع سكينة التي تريد أن تلعب بعقل هذا الشيخ؟ قال لها: والله لئن أذنت لي لأسمعتك أحسن منه. قالت: لا أحب فاخرج عني. خرج الفرزدق يتعثر في أذياله، ويخشى أن يشيع هذا الخبر فيسمعه جرير ويتخذه حجة له عليه. وفي اليوم الثاني عزم على أن يعيد الكرة لعل الله يشرح صدر سكينة فتشمله بعطفها وتمن عليه بكلمة ثناء تجبر بها كسره. ولما مثل في صالونها قالت له: من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت، أشعر منك صاحبك حيث يقول:

لولا الحياء لهاج لي استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار

كانت إذا هجع الضجيج فراشها ... كتم الحديث وعفت الأسرار

فقال لها: والله لئن أذنت لي لأسمعتك أحسن منه. فأمرت به فأخرج. ضاقت عليه الأرض بما رحبت فلا يدري ماذا يعمل وبمن يلوذ. ولكنه لم يقطع أمله من صلتها وثنائها. فقصده في اليوم الثالث. ولما مثل في صالونها، سألته: من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت. صاحبك أشعر منك حيث يقول:

إن العيون التي في طرفها حَوَر ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا

علم الفرزدق بأن شعر جرير قد وقع في قلبها لرقته وسلاسة ألفاظه وخلوه من الفحش والخبث، فهو يمثل النفس الطاهرة الطيبة. عندئذ لجأ الفرزدق إلى التلطف والتوسل، فقال لها: (يا بنت رسول الله ، إن لي عليك حقاً عظيماً: خرجت من مكة إرادة السلام عليك فكان جزائي منك تكذيبي ومنعي من أن أسمعك) وعرَّض لها بكلامه أن تهبه جارية وضيئة من جواريها أعجبته. فضحكت سكينة وأمرت له بالجارية. وقالت: (يا فرزدق أحسن صحبتها فإني آثرتك بها)

وأحاديثها مع عروة بن أذينة كثيرة. وهو من فقهاء المدينة ومحدثيها. وقد أخذ عنه الإمام مالك. كان من الأتقياء ولكن قلبه لم يخلص من الهوى. كان يحب وكان يعشق ولكن كان يستر حبه ويكتم هواه - ومهما حاول المرء كتم هواه فلابد أن يظهر يوماً على لسانه

بينما كانت تسبر سكينة بوادي العقيق رأت هذا الشيخ فمالت إليه بموكبها ووقفت عليه وقالت له: يا أبا عامر، أنت الذي تزعم أن لك مروءة وأن غزلك من وراء عفة وأنك تقي؟! قال: نعم. قالت: أفأنت الذي تقول:

قالت وأبثثتها وجدي فبحت به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر

أَلست تبصر من حولي؟ فقلت لها ... غطى هواك وما أُلقي علي بصري

قال لها: نعم

قالت: (من حولي من الجواري حرائر إن كان هذا خرج من قلب سليم) وكيف يخرج هذا الغزل الرقيق من قلب خال من الهوى وإن لصاحبه من حب الجمال ما جعله يتخذ له قصراً في وسط العقيق عش الأدباء والظرفاء والمجان.

ومن تهكمها: أنها كانت في مأتم فيه بنت لعثمان بن عفان. فقالت بنت عثمان مفتخرة: (أنا بنت الشهيد) فسكتت سكينة فقال المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله) فالتفتت إلى بنت عثمان وقالت لها: (هذا أبي أم أبوك؟!) فبهتت العثمانية وقالت: (لا أفخر عليكم أبداً) وكانت تسلك طريق الدعابة والمزح في حياتها، ونوادرها أكثر من أن تحصى

ومن ذلك أن لسعتها دبيرة. فقالت لها أمها مالك؟ فضحكت وقالت: (لسعتني دبيرة، مثل الأبيرة، أوجعتني قطيرة)

وبعثت مرة إلى صاحب الشرطة: إنه قد دخل علينا رجل شامي فأبعث إلينا بالشرط. فركب معهم وأتى إلى باب سكينة. فأمرت ففتح له. ثم أمر الجارية من جواريها فأخرجت إليه برغوثاً

وقالت. . (هذا الشامي الذي شكوناه) فانصرفوا يضحكون. ولعل أجمل مزحها كان مع أشعب خادمها ومضحكها. وكم لاقى هذا المخنث من تنفيذ أوامرها الأمرين: تارة تأمر جواريها أن يطأن بطنه وطئ شديداً تكاد تخرج أمعائه منه. أو تأمرهن أن يخنقنه أو يسحبنه على وجه ويلقى خارج الدار أو تأمره أن يقلد أصوات الحيوانات فيموي كالهرة أو يهر كالكلب.

غضبت يوم عليه فدعت حجاماً ليحلق لحيته. فقال له الحجام: انفخ شدقيك حتى أتمكن منك - وأشعب حتى في مثل هذه الحالة أن يضحك سيدته - فقال للحجام: (أمرتك أن تعلمني الزمر أو أن تحلق لحيتي؟!) فضحكت وعفت عنه.

وغضبت عليه مرة أخرى فأمرت أن يتخذ بيت من عود ويوضع فيه بيض وتبن وأدخلت أشعب به. وحلفت ألا يخرج من البيت حتى يحضن البيض كله إلى أن يفقس. ففعل أشعب - وكلما دخل زائر إلى دار سكنية كان أشعب يقرقر مثل الدجاجة - حتى فقس البيض كله فراريج. وأمرت أن تربى الفراخ بدارها. وكانت تنسبهن إليه وتقول: (بنات أشعب)

تأثيرها في المجتمع

ولم تقتصر شهرتها بين أهل عصرها في العلم والأدب والفن بل كان لها تأثير شديد في كل ما تفعله. فلم تظهر بزي إلا انتشر بين فئات الطبقة الأرستقراطية وتعداهن إلى بقية الطبقات. ذلك لأن السيدة سكينة أول من أبتكره وظهر به. كما كانت تصفف جمتها تصفيفاً لم ير أحسن. وصارت الجمة (السكينية) هي المتبعة في تصفيف الشعر. ولم يقتصر هذا التقليل على النساء بل إن فتيان قريش أخذوا ينسقون شعورهم على مثالها. وكان عمر بن عبد العزيز إذا رأى رجلاً يصفف جمته (السكينية) جلده وأمر بحلق شعر رأسه.

وأما تنسيق ندوتها وما يجد فيها من رياش وأثاث ورياحين فكان حديث فتيات قريش. فما من فتاة إلا وتزور هذه الندوة لتنظر ما أستجد بها مما أبدعته قريحة سكينة لتقلدها في ذلك.

فإن السيدة سكينة هي سيدة نساء عصرها على الإطلاق. كانت أحسنهن عقلاً وأظرفهن وأعلمهن وأعلاهن مقاماً وأرفعهن أدباً. تجالس الآجلة من قريش ويسعى إلى مجلسها أصحاب العلم وأرباب الفن يستمعون إلى محاضرتها أو يلتمسون صلتها. كما كانت تطرح عليهم الأسئلة وتجادلهم بما يقولون وتنتقد آراءهم ولا تخشى في الحق لومة لائم؛ ولهذا نرى قاصديها يحسبون لها حساباً. وهكذا تألق هذا النجم في سماء المدينة وظل يهتدي به حتى سنة 117هـ

وفاتها

وفي صباح يوم شديد الحر فاضت روحها وانتقلت إلى جوار ربها. خرج النعش يتهادى بين الجموع المحتشدة والقلوب الخاشعة والعيون الدامعة. ولكنها (حتى على الموت لا تخلو من الحسد) فإن أمير المدينة خالد بن عبد الملك أمر أن يؤخروا الصلاة عليها حتى يحضر وجلس الناس حولها حتى العشاء ولم يحضر؛ وغلبهم النعاس فأوقدوا حولها عوداً بأربعمائة دينار وصلوا عليها جماعات جماعات. وفي صباح اليوم التالي دفنوها ودفنوا معها العلم والأدب والفن.

أقفرت الدار من سكينة فلا شعراء ينشدون، ولا علماء يتجادلون، ولا رواة يحدثون، ولا أدباء يحتكمون.

(أضحت خلاءً وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد)

(الموصل)

سعيد الديوه جي