مجلة الرسالة/العدد 506/في ضيافة الهلالي باشا

مجلة الرسالة/العدد 506/في ضيافة الهلالي باشا

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 03 - 1943


للدكتور زكي مبارك

كانت جريدة الأهرام نشرت أن جماعة من الوزراء سيزورون المنوفية، وأن منهاج الزيارة شهود اجتماع يعقده النواب والشيوخ في سنتريس، فاستفسرت من حضرة الأستاذ شافعي ألبنا عن المراد من ذلك الاجتماع، فقال إنه للترحيب بالوزراء وهم في الطريق إلى عاصمة المنوفية، وإنما اختيرت سنتريس لأنها الملتقى لبلاد مركز أشمون، ولأنها أول بلد على بحر شبين بعد عبور القناطر الخيرية

قلت لنفسي: إن اسمي يخطر في البال حين تذكر سنتريس، فما الذي يمنع من دعوة وزير المعارف للتفضل بزيارة داري هناك؟

وكان المفهوم عندي أن الدعوة ستقابل بالاعتذار الرفيق، فقد كنت أعرف أن الوقت لا يتسع للزيارات، ولكن الهلالي باشا أعزه الله تقبل دعوتي بأحسن القبول، كأني وجهتها إليه وهو في أسيوط وطن الشهامة والجود

وفي مكتب الوزير دار حديث على الصورة الآتية:

- أهلاً بنابغة سنتريس!

- هذا اللقب لا يكفي يا معالي الوزير في تحيتي

- وكيف؟

- لأن الأستاذ عباس حافظ هو الذي منحني هذا اللقب في مناوشة أدبية، وهو يريد أني نابغة سنتريس فقط، ولست مفكراً عالمياً، كما أريد لنفسي. وللأدباء مسالك تعجز عنها الشياطين!

- كنت أحسب أنك منحت هذا اللقب لكثرة ما تتحدث عن سنتريس

- لو صح هذا لجاز أن أكون أيضاً (نابغة أسيوط) فلي فيها قصائد، وسأنشر عنها كتاباً بعد حين

- أسيوط أوحت إليك أشياء؟

- هي مدينة موحية، ولعلك توافق على أن لشارع الهلالي هناك جاذبية تفوق الوصف، وما دخلت أسيوط إلا جعلته طريقي إلى الن - لذلك الشارع تاريخ، فقد كان مع الأراضي التي حواليه بستاناً من بساتين جدي، وكان البستان هو الممر الموصل بين قصره بالمدينة ودهبيته بالنيل، فأين أنا من تلك الحياة؟ وأين مني ذلك الثراء؟

- إن ثروة جدك لم تضع، يا معالي الوزير، فلها صورة باقية هي علمك وفضلك، وفي بعض الآثار أن ذكاء المرء محسوب عليه، فالذكاء رزقك، وهو أطيب الأرزاق

- من فضل الله على أهل الأدب أن يحبب إليهم المعاني

- وفي سبيل المعاني سترى أني بخلت على جيبي بثمن شجرتين عظيمتين قامتا في مدخل البيت

- وما حديث الشجرتين؟

- إن تكلا باشا صاحب جريدة الأهرام بنى في ضواحي سنتريس قصراً لا يعلو عليه غير هاتين الشجرتين، فأنا أعزهما كل الإعزاز لأطول بهما قصر الرجل الذي قلت فيه:

ينازعني في سِنتريسَ منازعٌ ... له من جَدَا (الأهرام) مرتبع خٌصبُ

إلى آخر القصيدة التي سأثبتها في الطبعة الثانية من ديواني

- سأزور دارك، مع الشكر لدعوتك الكريمة، وإن كان مكاني في رحلة الوزراء إلى المنوفية مكان الضيف

- وزير المعارف لا يكون ضيفاً بالمنوفية، لأن المنوفية تمد مصر بجماهير كثيرة من المعلمين، وأنت وزير المعلمين، وسيكون الجميع ضيوفك هناك

كان يجب أن أدعو الوزراء الذين يشتركون في رحلة المنوفية، ولكن كيف أدعوهم وقد ضاق الوقت؟

دعوت معالي الأستاذ فؤاد باشا سراج الدين بالتليفون فتلطف بالقبول، ولم يفته أن ينص على أن اسم سنتريس اسم جميل

ومررت على معالي وزير العدل، وهو رجل أبغضه بعض البغض، لأنه يريد بجهاده ونضاله أن يكون الرجل الأول في المنوفية لا في سنتريس! فقال حين رآني: ما كنت أعرف أن الهلالي باشا يعزك إلى هذا الحد. ففهمت أن الهلالي باشا حدثه عن دعوتي قبل أن أصل إليه بلحظات ثم رجوت الأستاذ شافعي ألبنا أن ينوب عني في دعوة من لم أستطع دعوتهم لضيق الوقت، وهو أخ نعمت بمودته شهوراً طوالاً في غياهب الاعتقال

في عصرية اليوم الذي يسبق يوم الاحتفال دخلت سنتريس لأرى كيف استطاع أبنائي بمعونة بني أعمامهم إعداد حديقة الدار لاستقبال الوزراء

وهناك وجدت نواب مركز أشمون يتحاورون فيما ينبغي أن يقال

سمعت كلمات لم تعجبني، فسارعت إلى تفنيدها فيما بيني وبين نفسي، لأتخذ منها مادة أنتفع بها في إحدى المقالات، ولأشير عليهم بإخفائها عن الوزراء، إن خفت أن يقولوها في حضور الوزراء.

فقلت في نفسي: وما الغيب في ذلك؟ هل نقلت أطيان المنوفية إلى القليوبية أو الغربية؟ إن الذي وقع لا يزيد عن أن العائلات الكبيرة تفرعت إلى عائلات صغيرة، ومن هنا تعددت الملكيات في المنوفي، وهذا باب من قوة الشخصية، فلكل فلاح في هذا الإقليم وجود صحيح، وهو لهذا صورة نموذجية من الرقي المنشود

وسمعتهم يقولون: يجب أن نعرض مطالب المنوفية على الوزراء

فقلت في نفسي: الأفضل أن يقال إن المنوفية في استعداد لمعاونة الوزراء على إصلاح سائر الأقاليم، لأنها تملك أكبر عدد من المفكرين

والتفت فرأيت الأخ العزيز محمد أفندي محمود عمدة سملاى يجذب يدي ليسر في أذني كلمات، فما تلك الكلمات؟

هو يرى أن نقيم الزينات على باب البيت

وأنا أرى أن يبقى البيت بصورته الطبيعية، لأني أبغض الحسن المجلوب

ثم غلب رأيه وحضر الفراشون لتزيين مدخل البيت، فسمعت منهم كلمات غير مفهومة، ولكني تظاهرت بالعلم وتركتهم يتصرفون في حدود ما يحسبون

(شُوَية كُرُنات، شوية كرنُات)

فما هذا من الوجهة اللغوية؟

الكلمة الأولى مفهومة، فالشَّوية مؤنث الشُوّىّ، والشوىّ مصغر شئ المخفف عن شئ، ولكن ما (الكُرُنات)؟ دار ذهني مرة ومرات إلى أن عرفت أنها منقولة عن الكلمة الفرنسية وعلى هذا تكون الكُرنُات هي التيجان

لا بأس، فللأدب الفرنسي في عقلي ديون، ومن حقه أن يزور داري مع الوزراء.

أما بعد فنحن في صبيحة الاحتفال، وقد تجمعت خلائق في سنتريس يعجز عن عدها الإحصاء وهذا هو (البرجاس)، فما البرجاس؟

هو لعب الخيل، تلك كلمة قاموسية هجرت في أكثر البلاد، وبقيت مأنوسة في سنتريس

لم يكن منظوراً أن يحضر الوزراء في الميعاد. ومن الذي يفَرض على رجال مكدودين أن يحضروا يوم راحتهم في الميعاد؟ لم يبق إلا أن تتمتع تلك الجماهير بلعب الخيل، وفي لعب الخيل متعة ذوقية تذكّر أبناء المنوفية بماضيهم في الفروسية

وبجانب لعب الخيل تقوم المزامير والطبول في لونها القديم والحديث: فتسمع مرة (يا نخلتين في العلالي) وتسمع مرة (بالك مع مين يا شاغل بالي)

ثم تنظر فترى بُنَيّات المدارس الأولية من سملاى وسنتريس فتلتفت إلى ماضي صِباك، يوم كنت تخطب طِفلةً وهي في المهد، لأنك سمعت أن أمها من رائعات الجمال. . .

أما الأطفال فقل فيهم ما تشاء. ولقد سرْني أن أرى أطفال سملاي وسنتريس في صحة وعافية. وأي أطفال؟

الحمد لله على نعمته، فما فيهم سقيمٌ ولا ضعيف، وإنما هم الطلائع لجيل سيكون برعاية الله أقوى الأجيال

إن وزارة الصحة لا تخاف على سنتريس حين تتعرض بلاد مركز أشمون لإحدى الآفات، فهواء سنتريس شفاء من كل داء، وهل تذكر وزارة الصحة أن بلدنا كلفها شيئا من المتاعب؟

إن الله يعلم أن سنتريس تعتمد على رعايته السامية؛ وإن الله يعلم أن أهل سنتريس أحوج الناس إلى رعايته السامية؛ فهو بكرمه وفضله ولطفه يقيهم الأسواء

قضاء لحظة تحت سماء سنتريس تذهب همومي ولو كانت أثقل من الجبال، فلهذا البلد روحانية منقولة عن اعتماد أهله على واهب الخيرات والثمرات، ورعاية الله لمن يتوكلون عليه لا تحتاج إلى بيان.

حضرت ثلة من الشرطة للمحافظة على النظام، ولكن الأهالي لم يحوجوهم إلى تعب، فقد عرف كل فرد واجبه، وسادت الرغبة فأن تكون الحفلة غاية في الصفاء

ومع هذا أنظر فأجد رئيس نقطة النعناعية يشكو من أن أحد أقربائي يحاول الشغب في الاحتفال، وبعد التحري ظهر أن حامد أفندي عثمان يطلب من الحاضرين إمضاء عريضة ترفع إلى وزير المعارف، ليتفضل الوزير بإنشاء مدرسة ابتدائية في سنتريس

عند ذلك ابتسمت وقلت: يسرني أن يعرف حضرة الضابط أن معالي الهلال باشا يحب هذا النوع من الشغب. والمطالبةُ بإنشاء مدرسة ابتدائية في سنتريس شغب لطيف. ثم أخذت العريضة لأقدمها إلى معالي الوزير بنفسي، وستكون أجمل هدية أقدمها إليه

وأقبل الخيالة يعدون ويركضون تبشيراً الزائرين، فهتفت الجماهير بحياة جلالة الملك، وصدحت الموسيقى بالسلام الملكي ثم تعالت الهتافات بأسماء الوزراء وباسم رئيسهم الجليل، شفاه الله وعافاه

كان مع الركب جماعة من المحررين والمصورين، وهم جميعاً أصدقاء، وكان فرحى بلقائهم فرح الأديب بالأديب

وبعد تناول القهوة وقف النائب المحترم سليم أبو العلا فألقى خطبة طويلة تحدث فيها عن أعمال الذين حضروا من الوزراء، وقد قوبلت خطبته بالإعجاب

وكانت النية أن يخطب الأستاذ عبد البر زهران، ولكن الوقت لم يتسع لما يريد. ثم نهض معالي الأستاذ صبري باشا أبو علم فألقى كلمة لطيفة شكر بها نواب مركز أشمون، وأعتذر بلطف لمن ضاق الوقت عن سماع ما أعدوا من الكلمات الجياد

وفي تلك اللحظة تموجت تلك الجماهير لتزور داري مع الوزراء، فكان منظر لن تنساه سنتريس، ولو طال الزمان

لقد أقيمت في بلدنا حفلات كثيرة سمع فيها أهل بلدنا أصوات رجال مشاهير من رؤساء الوزارات، ولكني أستبعد أن يكونوا فرحوا بقدر ما فرحوا في هذا اليوم السعيد

أمر الوزراء الوفديين عجب في عجبّّ!! إنك تنقدهم كيف شئت في المجالس والمنتديات، ولكنك لا تستطيع صد الجماهير عن الوفاء لهم إلى أبعد حدود الوفاء

لم أكن وفديا في أي يوم، ولا دعوت هؤلاء الوزراء للتفضل بزيارة داري إلا لغاية أدبية، هي أن تضيفهم سنتريس، وهي المكان الذي اختاره للاحتفاء بهم نواب مركز أشمون، فما الذي يملك من السحر هؤلاء الوفديون؟

كان السرادق الذي أعده النواب يضيق برغم رحابته عن إعلان الفرح بقدوم أولئك الوزراء، فلما وجدت الجماهير فرصة للترحيب بهم في حديقة الدار تدافعوا تدافع الأمواج، وأعلنوا فرحهم بهتاف يشق أجواز السماء

وفي هذا الزحام وقف وزير المعارف ليسمع النشيد:

سنتريس في سرور ... وهناء وحبور

وقف برجاء من الأديب محمود عبد العزيز، برغم ذلك الجو الضجاج

أين الوقت؟ أين؟

إن الوزراء سيصلون الجمعة في شنوان، فمن الواجب أن نعفيهم من الخطب الطوال

قال الأستاذ عبد السميع الطوخي فقرات من خطبته، وقال الأستاذ محمد شما أبياتاً من قصيدته، ودعاني وزير العدل إلى أن ألقى خطبتي، فماذا أقول؟

قلت: إن الحاضرين جميعاً في ضيافة الهلالي باشا. . .

وطويت خطبتي. فما الذي كان في الخطبة المطوية؟

الجواب عند شجرات الورد في حديقة داري، وهي قد حدثتني أن الزهر يعيش يوماً أو يومين، أما جذور أشجار الورد فهي في صلابة الجلمود، ومنها تتخذ (البيبة) التي تعجز عن إحراقها النيران

دعابة الهلالي باشا هي زهر الورد

وصلابة الهلالي باشا هي جذع الورد

وهل منعت وداعة هذا الرجل من أن يكون أحزم الرجال؟

زكي مبارك