مجلة الرسالة/العدد 508/علوم اللغة العربية في المدارس الثانوية

مجلة الرسالة/العدد 508/علوم اللغة العربية في المدارس الثانوية

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 03 - 1943


للدكتور زكي مبارك

تمهيد

جرت وزارة المعارف منذ أعوام على الاستفادة من إجازة نصف السنة بجعلها مؤتمرات للمفتشين يتبادلون فيها الآراء حول مناهج التعليم وأحوال التلاميذ

وحديث اليوم عن الأسئلة التي وجهتها المراقبة العامة للتعليم الثانوي إلى مفتشي التعليم الثانوي، وهي أسئلة دار حولها الجدال يومين، وقيلت فيها أقوال تستحق التسجيل، وقد استشرت زملائي في إعلان بعض تلك الأقوال، فأجابوا بالترحيب

ظاهرة إنسانية

لا أعرف كيف دارت المناقشات بين مفتشي الرياضة والعلوم والمواد الاجتماعية، ولكني أعرف كيف دارت المناقشات بين مفتشي اللغة العربية

كان الشوق إلى الكلام شديداً جداً، وكان كل مفتش يجب أن يتكلم بإطناب، وكأنه يريد أن يكون المتكلم الوحيد!

كان في المفتشين من يقف ليخطب، مع أن الجمهور الذي تألف منا لم يزد عن أحد عشر كوكباً!

ومع أن شهوتي إلى الكلام قليلة لكثرة ما أعبر بالقلم عما يجول في صدري، فقد زاحمت بعنف لأتكلم أنا أيضاً، وقد تكلمت حتى اشتفيت!

فما سر الشوق إلى الكلام حين يتلاقى الناس؟

يرجع ذلك فيما أفترض إلى أن طرائق التفاهم عند الإنسان قد انحصرت في طريق واحد: هو النطق، وبذلك عطلت طرائق التفاهم بالرمز والإشارة والإيماء

والظاهر أن انحصار التفاهم في النطق فضيلة إنسانية، فضيلة دعا إليها اشتباك الأغراض بصورة لا ينفع فيها غير التحديد بالألفاظ

والظاهر أيضاً أن اختراع الكتابة من أعظم المخترعات الإنسانية، لأنه يرمي إلى تسجيل الألفاظ قبل أن تضيع، وإلى تقييد ما فيها من مسئوليات هل أريد أن أقول إن (المسجل) غاب عن اجتماعات المفتشين، وأنهم لو كانوا يعرفون أن كلماتهم ستسجل كما وقعت لاقتصدوا في الخطابة بعض الاقتصاد؟

أن الآداب الدينية توصى بان نحترس، وتوجب أن نفهم أن الإنسان ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. فالخوف من تدوين الألفاظ باب إلى أدب اللسان

وليس معنى هذا أن المفتشين قالوا كلاماً لا ينبغي أن يقال - لا - ولكن معناه أنهم لو عرفوا أن كلامهم سيسجل لأعدوا كلاماً أقوى من الكلام الذي قيل، مع أنه من الكلام النفيس

كل شئ صائر إلى التحديد، فالإنسان كان يعبر بالإشارة، ثم ارتقى فصار يعبر باللفظ، ثم ارتقى فصار يعبر بالكتابة، وسيرتقى مرةً جديدة فتكون له لغة واحدة، لغة محدودة لا يتطرق إليها لبس، ولا يعتريها غموض

من متاعب الإنسانية أن اللفظ الواحد في اللغة الواحدة قد يختلف مدلوله باختلاف الأذواق، بحيث يكون مدحاً عند هذا وقدحاً عند ذاك

وأعصابنا تتأثر بالألفاظ، أو باختلاف ما نفهم من مدلولات الألفاظ، فمتى تزول أسباب هذا الاختلاف؟

الرأي عندي أن هذه البلبلة الخطرة من أعظم مزايا الإنسانية، ولكن كيف؟

القوة الحقيقية للإنسان هي قدرته الأصيلة على الظفر بأكبر محصول من اشتجار العواطف والأحاسيس والآراء والأهواء ولو توحدت اللغات والتعابير فزالت جميع أسباب الاختلاف لتحول الإنسان إلى صورة آلية لا يسيرها غير ضريم (البنزين)

نحن نختلف أقل مما يجب، ويا ويلنا إذا لم نختلف!

المثال الصحيح للاتفاق هو أمة النمل، ونحن نكره التشبه بأمة النمل

الاختلاف هو الذي خلق العلوم والمدنيات، وهو الذي أوجب أن يكون لكل ثمرة مذاق

الاختلاف واجب، أما التعادي فهو بلاء

الإنشاء

قالت مراقبة التعليم الثانوي: أن إنشاء التلاميذ لا تزال تكثر فيه الأنماط النحوية والصرفية والإملائية، ثم دعت المفتشين إلى أن يشيروا بما يرون لعلاج هذه الحال، فماذا قالوا؟

قال الأستاذ جاد المولى بك: إن أهم المظاهر لمعرفة اللغات هو إجادة الخطابة والكتابة، وإن في المدرسين أنفسهم من يصعب عليه الإنشاء، ولعله يصعب أيضاً على بعض المفتشين! فمن الواجب أن يراض التلميذ على الكتابة والخطابة رياضة جدية وأن تكون قدرتهم على هذين الفنين أول ما يهم المدرسين

وقال الأستاذ منصور سليمان: إن تعليم الإنشاء في المدارس المصرية قد ابتلى بآفة قبيحة، آفة مموقة للفكر، وهي الحرص على الزخرف وعلى الإطناب في جميع الموضوعات. وقد رأيت في أحوال كثيرة أن التلميذ يثاب على التطويل بأكثر ما يثاب على التدقيق. ومن هنا شاع القول بأن اللغة العربية تمتاز بالتهويل والإسراف. وشكوى المدرسين من التعب في تصحيح دفاتر الإنشاء لا تستحق أي التفات، لأنهم مصدر هذا التعب، فهم الذين يوحون إلى تلاميذهم أن الإطالة من علائم البيان

مشكلة الإنشاء

كلام الأستاذ منصور سليمان يتيح الفرصة لأن أفضل رأي في هذه المشكلة، وهي مشكلة أساسية، فما الذي دعا إلى ضعف التلاميذ في الإنشاء؟

السبب الأول هو سيطرة المدرس على لغة التلميذ، ومعنى هذا أن المدرس ينتظر دائماً أن يعبر التلميذ عن غرضه بألفاظ مخزونة في ذاكرة المدرس

وتصحيحات بعض المدرسين تؤيد هذا القول، فهم يدورون حول ألفاظ أعدوها لكل موضوع، وهم يسجلون بالقلم الأحمر تلك الألفاظ تسجيلاً يظهر أثره في جميع الكراريس

بعض المدرسين يملون على تلاميذهم ألفاظاً وتعابير تصلح لكل موضوع، كما يزعمون، وهي طريقة عقيمة، ولا يعتمد عليها غير المدرس الببغاء!

السبب الثاني هو تحكم المدرس في عقل التلميذ، فهو يطلب منه أن يفكر كما يفكر، وأن يرى الدنيا بعينه ويسمعها بأذنيه، ولا يخطر في باله أن كل تلميذ له تصور خاص، وأن التلاميذ يختلفون في الأفكار كما يختلفون في الملامح

وقد يتفق أن نرى التلاميذ في الموضوع الواحد يثبتون أقوالاً وآراءً مقتربة كل الاقتراب، فنفهم أن المدرس أنزل عليهم الوحي الكاذب أو الصادق، وكنا نرجو أن يفكر في تقوية مواهبهم تقوية سليمة، وذلك لا يتم بغير دعوتهم إلى شرح ما يعتلج في صدورهم من المعاني والأغراض شرحاً لا تهيمن عليه قوة خارجية السبب الثالث هو تقديم موضوعات بعيدة عن مدارك التلاميذ، وأريد بها الموضوعات الميتة، الموضوعات التي لا تأخذ وقودها من الحياة الواقعية

ومرد هذا إلى الجهل بحيوات التلاميذ، فلهم اتجاهات فردية واجتماعية غير اتجاهات المدرسين، ومن الواجب أن تكون موضوعات الإنشاء في شرح تلك الاتجاهات

وهل ينتظر الدرس أن يجيد التلاميذ في كتابة موضوع تلقاه وهو تلميذ قبل عشرين سنة أو تزيد؟

في المدرسين من لا يختار موضوع الإنشاء، وفيهم من ينقل الموضوعات التي ألقيت على تلاميذ المدرسة الفلانية، وفيهم من يكرر الموضوع الواحد بضع سنين

الإنشاء اسمه إنشاء

فاختيار الموضوع إنشاء

واللفتة الذهنية عند المدرس باب من الإنشاء

وخطأ التلميذ، الخطأ المنقول عن طبيعته الذاتية فن من الإنشاء

والمهم هو أن نجد في الصف المكون من ثلاثين تلميذاً ثلاثين صورة من التفكير والأداء، لا صورة منسوخة من حضرة المدرس الفاضل!

السبب الرابع إقبال المدرس على تصحيح الكراريس وفي ذهنه صورة محدودة للإجابات، فهو يهمل كل فكرة منحرفة عن تلك الصورة، ولا يثيب التلميذ إلا بقدر محاذاته للعناصر التي فرضها عليه قبل الشروع في الإنشاء

وهذه الطريقة تقتل شخصية التلميذ، وتميت فيه بواكير الابتداع والافتنان. وما ظنكم بتلميذ يرى الخير كل الخير في محاكاة المدرس، ويهمل ملكاته الإبداعية كل الإهمال؟

ما ظنكم بتلميذ يراض على الإيمان بأن رأي المدرس هو الرأي، وتقضى عليه التجارب المدرسية بأن يفهم أن نجاحه يقاس بمقياس رأي المدرس؟

هذه الظاهرة موجودة بالفعل، وهي السبب في الإكثار من دروس الإنشاء الشفوي، وهى دروس عميقة، لأن الغرض منها توجيه التلاميذ توجيهاً حرفياً إلى الأفكار التي يحب المدرس إثباتها في موضوع الإنشاء

ومن أغرب ما يقع أن يقيد المدرس فوق السبورة ألفاظاً وتعابير تساعد التلاميذ على إبراز العناصر الأساسية، وتكون النتيجة أن تكثر المبتذلات (الكيشيهات) فنرى في الكراريس جميعاً صوراً موحدة في الأداء، وهذا نقل لا إنشاء

وهنا أقترح أن تقصر دروس الإنشاء الشفوي على المدارس الابتدائية، لأنها توجيه للمبتدئين. أما المدارس الثانوية فلا تجوز فيها دروس الإنشاء الشفوي، لأنها تزيد في اتكال التلميذ على المدرس، والاتكال باب إلى البلادة والخمود

وأقترح أيضاً أن تكتب أكثر الموضوعات في الفصل، ليعرف المدرس قوى تلاميذه على الوجه الصحيح

وهل ننسى أن بعض التلاميذ يعتمدون على غيرهم في الإنشاء ليلقوا المدرس بأساليب مثقلة بالزخرف والتنميق؟

وهل ننسى أن في المدرسين من يغيب عنه ما في كراس التلميذ من سرقات أدبية؟

وهل ننسى أن في المدرسين من لا يفكر في الموازنة بين الموضوع السابق والموضوع اللاحق، ليعرف كيف يتطور تفكير التلميذ؟

السبب الخامس غرام بعض المدرسين بالإكثار من التصحيحات إكثاراً يشهد برغبتهم في التفوق والاستعلاء

وهذا الغرام ينفعهم عند بعض المفتشين، لأنه دليل على التدقيق، ودليل على الفهم لأسرار اللغة العربية، ولعله الباعث على بعض الترقيات!

والحق أن الحبر الأحمر رخيص، فما أذكر أنى استنفذت منه غير مثاقيل لا يزيد ثمنها عن بضعة قروش، مع أني قضيت أكثر من ربع قرن في التدريس والتفتيش

لو غلا الحبر الأحمر لاقتصد المدرسون في تلك البرقشة الحمراء، وهي برقشة ثقيلة الدم، فهي تشعر التلميذ في كل يوم بأنه تلميذ، ولا تتيح له فرصة الشعور بأنه إنسان له وجود مستقل، ولو بعض الاستقلال

إذا كانت الكلمة صواباً في قول وخطأ في أقوال فيجب تركها بدون تصحيح، لأن ورودها على قلم التلميذ شاهد على أن هذا الخطأ أحيا من ذلك الصواب

وإذا وردت كلمة عامية لها أصل بعيد من اللغة الفصيحة فيجب تركها بدون تصحيح

دعانا الدكتور هيكل باشا مرة للتشاور فيما يجب لتقليل الأخطاء في كراريس التلاميذ، فقلت: إن المدرسين يوجبون حذف (الفوطة) وإثبات (القطيلة)

فقال: وما القطيلة؟

فقلت: هي كلمة يعرفها المدرسون ويجهلها وزير المعارف، مع أنه من كتاب الطبقة الأولى في اللغة العربية

ثم قلت: يوجد مؤلف كبير اسمه ابن الفوطي بالفاء، والجرائد تجهل اسمه فتسميه ابن القوطي بالقاف

فما الذي يوجب الحذلقة بتسمية الفوطة منشفة أو قطيلة؟

مهدوا الطريق للألفاظ الحية، واتركوا الألفاظ الميتة، فما يموت لفظ إلا بعد العجز عن البقاء

السبب السادس هو الهيام بتجميل الموضوعات بالباطل حيثما وقعت، فملعب الكرة فرش بالبساط السندسي، مع أن الأفضل أن يفرش بنبات النجيل. . . والحديقة يجب أن توصف بأنها غناء، ولو كانت فوق سطح البيت. وتحت يدي وثيقة تشهد بأن سطح الفندق الفلاني في المدينة الفلانية وصف بالفرنسية مرة وبالعربية مرة فقيل بالفرنسية إنه منظر يرى به الناظر جميع الآفاق، وقيل بالعربية إنه حديقة غناء، مع أنه لا يتسع لغير شجيرات محبوسة في زهريات!

ثم ماذا؟. . . عندي كلام كثير في العوائق الذي تصد التلاميذ عن إجادة الإنشاء، وأنا أكتب مقالاً لا كتاباً، فمن الواجب أن أكتفي بالتلاميح

وأنا أختم هذا المقال بالحقيقة الآتية:

هل يوجد مدرس يراقب ما يقرأ التلاميذ من الجرائد والمجلات ليجعل موضوعات الإنشاء في حدود المشكلات التي تثيرها تلك القراءات؟

أسمعوا، ثم اسمعوا

الإنشاء ليس تمريناً على إضافة لفظ إلى لفظ، وإنما هو رياضة ذهنية يراد بها تقوية المواهب الروحية والذوقية والعقلية

اخلقوا الشوق إلى الإنشاء بأن تقترحوا على التلاميذ موضوعات يحبون أن يكتبوا فيها. خاطبوهم بأذواقهم لا بأذواقكم وأدعوهم إلى أن يكشفوا من سرائر الحياة ما تجهلون، فهم أعرف منكم بسرائر هذا الزمان

دعوهم يفكرون كما يريدون، لا كما تريدون، ورحبوا بجهلهم لأنه تباشير العصر المقبل، ولا تنسوا أن الطفل لا ينمو إلا إن تركناه يتصرف في حدود ما يريد

عندي كلام وكلام في تعليم الإنشاء، ولكن المجال لا يتسع للإسهاب

أما بعد فماذا قال مفتشو التعليم الثانوي؟ سأرى وسترون

للحديث شجون

زكى مبارك