مجلة الرسالة/العدد 51/بين العلم والأدب

مجلة الرسالة/العدد 51/بين العلم والأدب

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 06 - 1934



هل يميت العلم الشعور؟

بقلم محمد روحي فيصل

(العلم يجفف القلب ويميت الشعور)

رأى أملاه على منذ سنوات أحد أساتذتي الأدباء ممن لا بأس بلبه وعقله، ولايتهم في فطنته وبصيرته، ثم سمعته من بعض الشباب الناهض المتأدب وقرأته لغير واحد من كبار الكتاب في مصر والشام والعراق. فإذا الرأي شائع معروف، ثابت الأصول منبسط الفروع يرد أبداً على طرف اللسان وشق القلم، وإذا الناس يخشون العلم ويخافون على قلوبهم ونفوسهم من بأسه وضرره، وإذا هوة سحيقة المنأى بعيدة المستقر تفصل العلم عن الأدب وتباعد بين أسبابهما وأدواتهما، أما أن بعض مصطلحات العلم جاف شديد الجفاف فهذا ما لا يختلف فيه اثنان، وأما أن قوام العلم المنطق والعقل فهذا حق إلى حد ما، وأما أن العلم ذاته يميت الشعور فهذا ما نحب أن نعالجه الآن في جرأة وإخلاص، ونناقشه في روية وهدوء ونحن نغتبط كل الغبطة حين تعنى الصحف والمجلات بالأدب، تعقد له الفصول الطوال وتدعو إلى تفهمه ودراسته، وتبذل لهذا كله قوتها وجهودها ونرجو ان تكون النهضة الأدبية مقدسة مباركة تحفها أشعة من نور وهالة من بهاء، فليس أدل على حياة الأمة من الفن والأدب يعرض عليك، في وضوح ودقة، ميولها وأهواءها وأفكارها وسائر ما يتردد بين قلبها وعقلها من الخواطر والانفعالات. ولكن مفهومه على النحو الصحيح ما يزال مبلبلاً مهلهلاً. ما هو افقه وغايته؟ ما هو مقياسه وحدوده؟ ما صلته بالعلم؟ ما قيمته في عالم المعرفة؟ هذه أسئلة يختلف كتابنا في الإجابة عليها تمام الاختلاف، ويذهبون فيها شتى المذاهب.

أما نزال بسطاء سذجاً تخدعنا البهرجة الكاذبة، والطلاوة العابثة، وتفتننا الألاعيب اللفظية والأناقة الكلامية؟ ألسنا على ثقافتنا وجلال نهضتنا نجهل مقاييس الأدب الصحيحة، وحدود الجودة والرداءة، ومواطن الجمال والدمامة؟ ألسنا نستحسن ما تغثي منه النفس؛ وما هو حقيق بالنبذ والإهمال، ثم نستقبح ما قد يكون في الذروة من البلاغة الجميلة الرائعة؟

ذلك ناشئ عن فساد في الذوق، وجدب في التربة، وكره للعلم وابتعاد عن دراسته وتحصيله، وعندي أن كل إنتاج في الأدب. لم يبدأ بإصلاح هذا الرأي فإنما هو محاولة فاشلة فائلة، ومضيعة للجهود المبذولة في غير طائل ولا نفع.

في الدنيا جمال، وفي الدنيا حقيقة، وفي الدنيا خير. أقانيم ثلاثة تتحد في السبب وتتصل في الجوهر والعرض، أو هي مثل عليا متداخلة متشابكة، ففي الجمال حقيقة، وفي الحقيقة جمال وهكذا. . . فالأدب إنما ينبغي أن يستند إلى شئ من العلوم التجريبية والنفسية والاجتماعية، ويعتمد على ما أثبته العلم في مختلف الميادين والموضوعات، والأديب والعالم إنما يجب ان يتصالحا ويتصاحبا فكلاهما ينظر إلى الطبيعة والحياة من ناحية، هذا يكشف عن حقيقتها وذاك عن جمالها، وهما بعد يتعاونان على بحثها واجتلائها.

فالعلماء مجمعون فيما بينهم على ان غاية العلم إنما ينبغي أن تكون البحث عن الحقيقة الخالدة يتحرونها في كل مظهر من مظاهر الوجود، لا لنتائجها العملية يستخدمونها في حياتهم ومعاشهم، بل حباً في الإطلاع وإشباعا للنفس. هم يطلبون العلم لذات العلم لا لآراب أخر، ويلحون في أن يكون خلواً من الأغراض والمنافع، بريئاً من كل نزعة تطبيقية. يريدون ان يكون العلم نظرياً محضاً يستهدف الحقيقة في كنهها وصفاتها ودلائلها ونسبها. يقول هنري بوانكاريه (إن معرفة الحقيقة يجب أن تكون غاية نهضتنا) ويقول شالي (كلما سما العلم وتجرد عن المقاصد والأغراض في العصر الحاضر كان للأجيال الآتية اكثر خيراً وأعظم نفعاً).

وليست المادة وحدها بالتي يتناولها العلم فيدرسها وإنما هو يبحث أيضا في حياة النفس وأحداثها، فهي في نظره موضوع للتفكير كالمادة سواء بسواء. . فالعلوم على اختلافها إنما هي دروب ما تتشعب وتنحرف إلا لتلتقي في نقطة واحدة هي (الحقيقة). أفتظن إن معرفة هذه الحقيقة التي يبذل العالم لها جهوداً جبارة هي سبيل لتجفيف قلبه، وإطفاء معنى الشعر فيه!! لا! لعمري إن العالم الذي يصل إلى حقيقة من الحقائق إنما تمتلئ نفسه في الحال بهذا السرور وهذه النشوة العلوية، فليس أدعى للذة ولا اكثر مجلبة للسعادة من عرفان الحقيقة!! أذكر عالماً من العلماء - وأظنه الكيميائي داوي قد أخذ نفسه بدراسة (البوتاسيوم) في مخبره، فلما عرف حقيقة الجسم قام حول الطاولة يرقص بهجاً طروباً!! وكان أرخميدس يوماً في الحمام يجري عمليته في سبيكة المعدن ليعرف مقدار الذهب فيها والفضة، حتى إذا لاحت له الحقيقة خرج في شوارع المدينة عارياً حافياً يصيح: وجدتها. ففي خروجه على هذه الحال من العرى والحفاء، وفي صراخه القوي البهيج، صورة جامعة تامة الخطوط والألوان للذهول الشديد الناشئ من اللذة الفجائية الطافرة التي بعثت في قلبه المشاعر والعواطف، وأسالت منه أقصى حدود الفرح والبشر، وطبعت على شفتيه المنفرجتين بسمة حلوة مشرقة!!

ولعل الحقيقة النفسية اكثر الحقائق مدعاة للسرور، فهي التي تهمنا قبل كل شيء لأنها تتصل بنا وتؤلف الجانب الأكبر من حياتنا، فالكشف عنها إنما هو اجتلاء أفق فسيح عجيب، ملؤه الجمال والجلال.

إن العلوم التجريبية تسمو دوماً من الحوادث والواقع إلى القانون. هي تعلو وتعلو في جو التجريد حتى تحصر مظاهر الكون في هذا الرمز الصغير المدعو (قانون). فالقانون علاقة بسيطة تريك هذا النظام الدقيق الذي تتقيد به الطبيعة، وتخضع له من غير شذوذ ولا مصادفة. فنحن حين نقرر سقوط الأجسام كلها نحو مركز الأرض نوضح هذا التجاذب القوي العام الذي يحصل بين الكتلات، نوضح ناحية من نواحي الوجود لها قيمتها ولها أثرها. وهذا التجاذب هو في الحق حلقه من سلسلة النظام الطبيعي. فالقانون هو، على حد تعبير هنري بوانكاريه، أحدث وسيله لجأ إليها العقل البشري للتعبير عن هذا النظام الطبيعي. أفلا يروقك أن تلحظ أن في هذا العالم الذي تعيش بين جوانبه، والذي أنت عنصر كريم من عناصره العديدة - اتساقاً وانسجاماً بديعينً؟!

لقد كان الناس في العصور الخوالي يتطلبون من آلهتهم معجزات خوارق يثبتون بها وجودهم وقدرتهم، وإنما الأعجوبة الرائعة حقاً ألا يكون هناك أية معجزة خارقة، وأن يكون كل شيء في الطبيعة يسير على خط منتظم في حركة منتظمة، لا اعوجاج في الخط ولا تزايد في الحركة!! فنظام الطبيعة الذي يكشف عن العلم شيئاً فشيئاً هو مصدر كل جمال وكل شعر، يبعث في القلب أسمى الشعور وأدق النزوات. . .

لعل الذي يقول بتجفيف العلم للقلب إنما ينظر إلى هذه المجازر البشرية، وإلى تلك الشرور والآثام التي كان العلم فيها عاملاً قوياً لهتك الفضيلة وسفك الدماء. . هذا صحيح، ولكن العلم في ذاته لا يبغي إلا هدفاً شريفاً منزهاً عن كل النزعات البشعة، فهو يصلح للخير ويصلح للشر، ويستخدم لرفع مستوى الإنسانية ويستخدم لتدنيسها، فليس الذنب ذنبه وإنما هو ذنب من حمله! فأنت تستطيع أن تنقم عليهم، وتستطيع أن تكيل لهم أشنع النعوت والصفات ولكنك، مضطر إلى أن تقف في محراب العلم خاشعاً متصدعاً، تتلو آي الحمد والإجلال، وترتل أناشيد الحب والإعجاب!!

أو لعل الذي يقول بتجفيف العلم للقلب إنما يزن الحقائق التي اجتلاها الإنسان خلال هذه العصور الطويلة، فوجدها ضئيلة هزيلة لا تعدل ما بذل في سبيلها من جهود. . وهذا صحيح أيضاً، فالحقيقة لا تطفو على ظاهر الأشياء ولا تستبين بارزة عارية وإنما هي خيال ما يكاد يتراءى للعين والبصيرة حتى يختفى، ولقد يضطر العالم إلى اللحاق به فيعدو ويعدو ثم يعود في الأعم من الأحوال خاسراً خائباً. فتحري الحقيقة عمل شاق مضن، ولذا اشترط على العالم الصبر والأناة والجلد. على أن ما علمناه يزيد في ثراء خزانة المعارف، ويهيب إلى القول أن الإنسان الحاضر أرقى من الإنسان الأول، واكثر منه كمالاً. أقول كمالاً ولا أقول سعادة، لأن السعادة غير منوطة بالعلم أو ناتجة عنه، ولعلها بالجهل أجدر واليق، ولعل العلم يبعث القلق والاضطراب، ويثير أحلام النفس لغافية ووساوسها الكامنة.

اكتشاف الحقيقة لا يتم إلا بالخيال والعاطفة، وهما أهم مقومات الشعر والأدب، يتخذهما العلم في البداءة جناحاً يطير به، ووسيلة يلجأ إليها، فهما أداتان لا غنىله عنهما، أفيستطيع العالم تبيان مجاهل الكون إلا بالتخيل والتصور، يرسم حدودها وأشكالها على صحيفة مخيلته قبل أن يعرفها بالواقع والمحسوس؟ أفلم تكن العاطفة والرغبة حافزاً للمعرفة وداعياً إلى الإحاطة بها؟. . ومع أن العلماء حددوا مدى الخيال، وألزموا الحس بالبرهان فلقد راضوهما كثيراً واستنهضوهماً كثيراً.

فالمعهود أن ملكة التخيل والفرض قوية نامية عند العلماء والمفكرين، والمعهود أن كبار الأدباء كانوا علماء أو مثقفين ثقافة علمية متينة واسعة. فهذا جيتي الأديب العبقري كان عالماً من علماء القرن الثامن عشر، له في النبات نظرية (التحور) وله في طبقات الأرض والأحجار الكريمة آراء محترمة، يعتقد ببساطة النور ويقول إن جمجمة الرأس إنما هي حلقة من حلقات العمود الفقري تطورت ونمت فصارت إلى ما هي عليه الآن من التجسم والضخامة. أما بساطة النور فلا يؤمن بها أحد من العلماء اليوم، وأما نظرية الجمجمة فلا تتلاءم مع علم الرشيم الحديث فعدل عنها، وان شئت فقل أنها تحورت إلى نظرية أخرى.

كان جيتي أديباً كبيراً وكان عالماً حقاً، لم يمنعه علمه من الإنتاج في الفن والأدب، ولم يمنعه علمه من الاسترسال وراء الخيال الصادق الصحيح، وهل الخيال الصادق الصحيح إلا ظل الحقيقة وصورة الواقع؟؟

إنما يكشف العلم عن مصادر خصبة للجمال يجدر بالأديب أن يتأملها ويستوحيها، يهيج الخيال وينشط العاطفة ثم يسبغ عليها من روعة الحقيقة ما يلهبها ويؤججها.

حمص

محمد روحي فيصل