مجلة الرسالة/العدد 510/شاعر الغزل

مجلة الرسالة/العدد 510/شاعر الغزل

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1943



للأستاذ عباس محمود العقاد

بقلم الأستاذ سيد قطب

يبدو أن العقاد - في هذه الأيام - يهز الشجرة الناضجة هزاً رفيقاً، فتساقط ثمارها في يسر ورخاء. وإنها لشجرة الجهد الموصول، والاطلاع البصير، والتجربة العميقة، قرابة أربعين عاماً من عمر فنان موهوب، لم يكد يراهق حتى بدأ حياته الأدبية في جد واحتفال، وحتى كان الاطلاع عمله الأول، والحياة الفنية وجهته الأصيلة.

وهذا ما يفسر لنا ذلك الخصب في إنتاج السنوات الأخيرة، بل السنة الأخيرة وحدها؛ ففيها أخرج (عبقرية عمر) و (شاعر الغزل)، وهو يتهيأ لإخراج كتاب عن (أبي بكر) في هذه الأيام. فضلاً عن (أعاصير مغرب) ديوانه الغنائي الأخير.

وفي هذه الكتب جميعاً - على تفاوت بينها - يبدو أن الثمار الناضجة تساقط بأيسر جهد، وأن الشجرة متهيئة ما تكاد تلمس حتى تعطي الجني الشهي في رفق ولين!

ظهر كتاب (عبقرية محمد) فقلت: (هذا كتاب العقاد) ثم ظهر كتاب (عبقرية عمر) فقلت: (لا! بل هذا هو كتاب العقاد!) ثم هاأنذا أكاد أعيدها وأنا أقرأ كتابه الصغير (شاعر الغزل) في الشهر الأخير.

إن هذا الكتيب يستقل بإنشاء مدرسة جديدة في النقد الأدبي باللغة العربية. مدرسة لها طريقها ولها قواعدها ولها أدواتها، وكل ذلك في يسر ووضوح يكادان يغريان كل قارئ بأن يسلك الطريق ويتخذ القواعد والأدوات، ويروح ينشئ في النقد الأدبي ما أنشأ العقاد!

لقد قلتها مرة: إن العقاد دارس الشخصيات الأول، حين لاحظت أن أفضل مواهبه تنصرف إلى هذا اللون من الإنتاج، وأن ميزته فيما يدرس أن يعطيك (مفتاح الشخصية) التي يتناولها، تعرف على الفور (من هو) هذا الإنسان الذي يحدثك عنه، وتتبين سماته وملامحه من بين الملايين أو من بين الألوف الذين ينتمي إليهم ويندمج فيهم؛ كما تستطيع أن تجزم بصحة الأخبار والحوادث والأعمال التي تنسب إليه أو عدم صحتها، ولو لم ترد في دراسة العقاد له، لأنك أصبحت تعرفه، وتدرك خصائصه، وتلحظ مزاجه؛ وتعلم ما يمكن أن يأتي أو يدع من الأمور؛ شأنك في هذا شأن الصاحب الذي أطال عشرة صاحبه، فعرف أعمق خوالجه وأدق (لوازمه)!

هذا اللون من الدراسة يستهويني أكثر من السِّير التي تتناول حياة الأشخاص بالسرد، وتجمع حولهم كل المعلومات التي لابست هذه الحياة. ذلك أن اللون الأول يمنحني حياة آدمية نابضة، واللون الثاني يضع بين يدي معلومات في حيز من الزمان والمكان. وكلا اللونين ضروري للتراث الفني، ولكن أولهما آثر عندي لميزته تلك.

وفي كل ما كتب العقاد عن الشخصيات تتضح هذه الميزة، وإنها لتنضج في كتب الدراسة الكاملة أمثال: (ابن الرومي) و (سعد زغلول) و (تذكار جيتي) و (هتلر في الميزان) ثم تبلغ أقصى درجات النضوج في الكتب الثلاثة الأخيرة التي تقدم الحديث عنها حين يجتمع إلى عمق الدراسة وقوة المنطق، ذلك اليسر العجيب وتلك الحركة السريعة في التفكير وفي الأداء على السواء.

و (شاعر الغزل) - على صغره - نموذج كامل لهذا اللون الحي من الدراسة الناضجة؛ ففي خلال ثلاث وأربعين ومائة صفحة فقط من قطع الجيب، ينتفض (عمر بن أبي ربيعة) من بين ركام الأجيال، حيَّا نابضاً شاخصاً بسمته وزيه ومزاجه وفنه؛ وينبعث في حياته على الورق صورة مكتملة لحياته على الأرض؛ حتى ليخيل إليك أنك وشيك أن تلقاه وتصافحه وأن تجلس إليه وتبادله الحديث!

وذلك هو الإبداع! الإبداع الذي يصور (عمر بن أبي ربيعة) في هذا الحيز الصغير، كما لم يصور قط في الأدب العربي كله بلا نزاع.

والعقاد في عملية البعث والإحياء لا يأتي بحادثة واحدة ليست معروفة في سيرة هذا الشاعر، ولا بقصيدة أو بيت أو شطرة لم ترو من قبل له، ولا بخبر من أخباره أو أخبار عصره لم يدون في الكتب المتفرقة؛ ولكنه يصنع من هذه الخامات البسيطة المعروفة مادة أخرى جديدة، ويهيئ منها هيكلاً قائماً للعصر وللبيئة وللشاعر، ثم ينفخ في هذا الهيكل من روحه، فإذا هو خلقة سوية، تحيا وتتنفس كما كانت تحيا وتتنفس من قبل، في هذه الدنيا الفانية!

وإنه ليهمني هنا أن أبرز هذه الحقيقة، فنحن في مستهل نهضة في البحث العلمي والفني. ولكنني لاحظت على الإنتاج الجامعي الحديث بلا استثناء أنه يتجه إلى السرد والجمع والموازنة، ولا يتجه مرة إلى الخلق والتكوين والإحياء، في تصوير العصور والبيئات والشخصيات؛ وتلك ظاهرة خطرة، فإنها تدل على أن عقلية التسجيل والتدوين والجمع هي التي تسيطر على العقلية الجامعية في مصر. وهذا اللون من البحث ضروري كما قلت، ولكنه لا يفي وحده، ولا بد من اللون الآخر الذي يصور الحياة أو يهب الحياة!

وليس هذا اللون عدواً لذاك، وإنهما ليجتمعان عند الاقتضاء، وقد اجتمعا معاً في كتاب (ابن الرومي. حياته من شعره) للعقاد، وفي كتاب ذكرى أبي العلاء للدكتور طه حسين على أفضل ما يكون الاجتماع.

إن طبيعة الشخصية التي يقدمها لي المؤلف ولون مزاجها، وصورة حياتها، لآثر عندي ألف مرة من جميع الحوادث التي وقعت لها، ومن جميع المعلومات التي تتصل بها، وحسبي من الحوادث والمعلومات، ما يكشف لي عن الطبيعة والمزاج، وما أتعرف به إلى هذه الشخصية من بين مئات الشخصيات!

يتحدث العقاد عن عصر (عمر بن أبي ربيعة) فنحس أن الغزل كان وظيفة ملحة في هذا العصر تتطلب العضو الذي يقوم بأدائها، وأنه لم يكن مفر من وجود شاعر غزل يلبي هذه الحاجة، فكان هذا الشاعر هو عمر بن أبي ربيعة في هذا الأوان.

كيف أحسسنا بروح العصر هذا الإحساس الواضح الملح؟ حكاية من هنا ونادرة من هناك، مما هو معروف مذكور، ومما يمر به القارئ بين الكتب مرات، فإذا صورة العصر بارزة واضحة على النحو الذي أراد!

وهنا يقتضيني الإنصاف - وقد ذكرت البحوث الجامعية والعقلية الجامعية بما ذكرت - أن أثبت أن للدكتور طه حسين بحثاً قيماً عن طبيعة العصر الذي عاش فيه عمر بن أبي ربيعة وعن نشأة الغزل وأسبابها في هذا العصر، وعن تلوين هذا الغزل بالألوان التي اصطبغ بها إذ ذاك، في كتاب (حديث الأربعاء)

وفي هذه الفصول التي عقدها الدكتور عن الغزل وعن عمر ابن أبي ربيعة خاصة يلتقي مع الصورة التي رسمها العقاد حيناً ويختلف حيناً، ولكنه يرسم على طريقته صورة مكتملة للعصر وللغزل فيه، هي إحدى الصور التي نتطلبها في الدراسات الأدبية الناضجة.

ثم نعود إلى (شاعر الغزل) فنرى العقاد ينتهي من صورة العصر ومن وظيفة عمر فيه، ومن حدود هذه الوظيفة، وهي التعبير عن طبقة خاصة في العصر لا عن العصر كله على السواء، ليبحث عن طبيعة غزله؛ فهو غزل البدوي المتحضر، غزل الفطرة التي تخلقها الحياة في مكة، وقد فارقتها الحكومة والسلطان، ولم تفارقها الثروة والسراوة.

ثم يدلف إلى الحديث عن طبيعة شعره، فيفرق في وضوح ويسر تكاد تلمسها بين طبيعتين من طبائع شعراء الغزل: طبيعة المحب الذي يتوجه بحبه إلى المرأة الواحدة في الوقت الواحد، و (يفرزها) بحبه من بين جميع النساء. وطبيعة اللاهي الذي يتغزل في الأنثيات، وينصرف همه إلى المناوشة والمعابثة. ويكون عمر من الفريق الثاني حين يكون عروة وكثير وجميل من الفريق الأول. وهو فصل من أمتع فصول الكتاب

هذا المتاع لا يتضمنه ذلك الفصل لأنه يذكر أن طريقة عمر وإخوانه الغزليين غير طريقة عروة وإخوانه العذريين، ولكن لأنه يوضح الفارق الإنساني الحاسم بين طبيعة هؤلاء وطبيعة هؤلاء (لأن علاقة رجل بامرأة واحدة يبقى على حبها زمناً طويلاً أو يبقى على حبها مدى الحياة هي حادث لا يتكرر كل يوم، ولا بد فيه من عامل الشخصية التي تفرز المرأة من سائر النساء، ويصح أن يقال: إن هذه العلاقة (إصابة حب) كسائر الإصابات التي يتعرض لها الإنسان فتطول أو لا تطول، وتصيبه وهو مستعد لها أو تصيبه على غير استعداد؛ فإنما المهم في تمييزها أنها إصابة عارضة وحادث من عوارض الأحداث.

(أما حب الغزل بالنساء عامة فهو مزاج يلازم صاحبه ملازمة الأمزجة للطبائع ولو لم يتصل بنساء معروفات، فهو مخلوق على هذا المزاج كما يخلق الإنسان بلون من الألوان أو صفة من الصفات)

(فالمدرستان مختلفتان أيما اختلاف في مقاييس الشعور ومقاييس الأخلاق، ولا يجمع بينهما إلا تشابه الكلام في ظاهره دون التشابه في الباعث والاتجاه). . . الخ

وأحب أن يعود القارئ هنا إلى ص392 من الجزء الأول من (حديث الأربعاء) للدكتور طه حسين، فسيجد في هذا الموضوع كلاماً آخر تلذ الموازنة بينه وبين هذا الكلام.

ونعود إلى (شاعر الغزل) لنقع على نقطة جديدة كل الجدة لم يطرقها - فيما أذكر - طارق في اللغة العربية لا عن (عمر بن أبي ربيعة) ولا عن سواه. تلك هي النقطة التي يعرض فيها العقاد لبحث عوامل الاتصال بين (عمر) وبين الأنثيات اللواتي كان يناوشهن بالغزل والحديث، وبين أشباه عمر وبين النساء في جميع العصور. فهو يقول:

(وربما رشحه للسبق في هذه الصناعة جانب أنثوي في طبعه يظهر للقارئ من أبياته الكثيرة التي تنم على ولع بكلمات النساء واستمتاع بروايتها والإبداء والإعادة فيها، مما لا يستمرئه الرجل الصارم الرجولة. وأدل من ولعه بكلمات النساء على الجانب الأنثوي في طبعه أنه كان يشبههن في تدليل نفسه وإظهار التمنع لطالباته. . . (ثم يذكر الأمثال)

(ولعل جانب الأنوثة فيه لا يظهر من شيء كما يظهر من تدليل اسمه بين تلقيب وكناية وتسمية كما يعهد في أحاديث النساء؛ فهو تارة أبو الخطاب، وتارة المغيريّ، وتارة عمر الذي لا يخفى كما لا يخفى القمر، وأشباه هذه الأنثويات التي يقارب بها المرأة في المزاج ويسايرها في الحديث)

(إنما تأتي خبرة ظرفاء المجالس من تقارب الإحساس بين المرأة وبين هذه الطائفة من اللاهين والمتغزلين، فهم يحسون كما تحس أو على نحو قريب مما تحس، وهم يشبهونها بعض الشبه فيصدقون في الحكاية عنها، والتحدث بخوالج نفسها. وفرق بعيد بين هذا وبين الرجل الذي يعلم طبع المرأة وهو يخالفها في طبعها، ويستجيش ضمائرها، لأن هذه الضمائر تجاوبه مجاوبة الأنثى للذكر، فيعرف من مجاوبتها كيف تضطرب نفسها وتتقلب هواجسها وخواطرها. هذا يرى أثر الرجل في طبع المرأة فيعرفه، وذاك يعرف ما في طبعها لأن الطبعين غير مختلفين في جملة الشعور). الخ

فهذا كلام جديد، وكلام قيم، وكلام يفتح العين والنفس على ملاحظة مفيدة للملامح والسمات في النفوس الإنسانية الكثيرة التي تصادفنا في الحياة، والنفوس الإنسانية الكثيرة التي نلقاها في صفحات الكتب، لنجد في هذه الملاحظة لذة وأنساً وحياة

وأحب مرة أخرى أن يرجع القارئ هنا إلى الجزء الأول من (حديث الأربعاء) ص394 ليجد في هذا الموضوع كلاماً آخر تلذ الموازنة بينه وبين هذا الكلام.

وينتهي هذا الفصل بحديث عن الصدق الفني: ما معناه وما حدوده، فيبين أوضح بيان أنه شيء آخر غير الصدق الخلفي والصدق التاريخي قد يلتقي معهما وقد لا يلتقي. وأنه في صميمه هو صدق الحكاية عن (المزاج الخاص) الذي لا يتوب عنه صاحبه ولا يملك الانحراف عنه ولو تاب عن دفعاته وملابساته، ولو انحرف عن حكاية الواقع إلى حكاية الخيال.

وفي هذا الفصل يلتقي العقاد والدكتور في بعض المواضع، وإن سار كل منهما على طريقته وطبيعته في النظر إلى الأشياء، وفي الحديث عن هذه الأشياء

ثم ينشئ فصلاً عن صناعة عمر ابن أبي ربيعة فنعلم منه أن عمر كان إمام مدرسة في طريقته، ولكنه لم يكن إماما في صناعته؛ فهو يمثل الطريقة أكمل تمثيل، وإن لم يساعفه حسن الأداء وكمال الأداة (فالأكثر من شعره يبدو عليه الجهد والإعياء في تقويم البيت والوصول به إلى القافية) وليس هو من فحول الصناعة الذين (ربما كثر الرديء في أشعارهم وأربى على الجيد في معظم الأحيان؛ ولكن الإتيان بالرديء غير الإعياء الذي يكشف مدى الطاقة وينم على الفاقة)

وبمثل هذه النصاعة يمضي إلى نهاية الكتاب، فيفرق بين القصة وبين الحوار القصصي الذي عرف به عمر، ويلقى أشعة أخرى على طبيعة المحب وطبيعة المتغزل وعلى الصدق الفني والصدق الخلقي والتاريخي. ثم يتحدث عن ذوق عمر في جمال المرأة، فإذا هذا كله دراسة من أبرع الدراسات النفسية في إطار فني جميل، وإذا هي خلاصات من تجارب العقاد وحياته الفنية وذوقه الإنساني. ثم يعقد فصلاً لنوادر عمر وأخباره، وفصلاً لمختارات من شعره، يشترك كلاهما في تلوين صورة الشاعر وتوضيح سماتها، وإطلاق الأبخرة المناسبة في جوها، حتى تكتمل لها جميع عناصر الحياة!

أحب أن يقرأ الناس هذا الكتاب للعقاد، وأن يقرءوا معه (حديث الأربعاء) للدكتور طه حسين، فسيجدون فيهما طبيعتين وطريقتين: طبيعة التعمق وطبيعة الاستعراض؛ وطريقة التحليل وطريقة التصوير. وسيرون كلا من هاتين الطبيعتين والطريقتين تلازم صاحبها في كل ما يكتب، فهي أصيلة في خلقهما أصالتهما في فنهما، وإن كان لكل منهما وزنه الذي لا يتسع المجال له هنا، بقدر ما أرجو أن يتسع له في كتاب!

سيد قطب