مجلة الرسالة/العدد 510/كيف نعلم أبناءنا؟
مجلة الرسالة/العدد 510/كيف نعلم أبناءنا؟
وما الغرض من التعليم؟
للدكتور زكي مبارك
متاعب!
هي المتاعب التي يعانيها من يواجه الحقائق بأساليب صريحة بريئة من الرياء. . . ومن أعجب العجب أن الناس يطالبون الكاتب بأن يحدثهم عن كل شيء، مع أنهم لا يسمحون له بشيء من الصدق إذا تحدث عن أشياء تمسهم من قريب أو من بعيد. وهذه الظاهرة من أسباب ضعف الروح البيانية، ومن أسباب قصور الأدب عن وصف المجتمع الحديث.
إن الأمم المحاربة لم تشغلها الحرب عن التفكير في شؤون التعليم والتثقيف، لأن تلك الأمم عهدت إلى كل طائفة من الطوائف جانباً من جوانب الحياة القومية، فبقي الجندي جنديَّا، والتاجر تاجراً. إلى آخر ما هنالك من الطوائف، وصار لزاماً أن يبقى المعلم معلماً في حدود ما يملك من القُوى النفسية والروحية والعقلية.
ونحن لم نشترك في الحزب من جانبها الدموي - وإن كان أذاها وصل إلى كثير من مرافقنا الحيوية - وهذا الحياد قد استبقى قواها وادّخرها لإنجاز شؤون التعليم في مراحله المختلفات، فمن الواجب أن نبذل جميع الجهود الممكنة في خلق التعليم خلقاً جديداً، بحيث نواجه تقلبات ما بعد الحرب، ونحن على بينة من مطالب العصر الجديد.
قال معالي الهلالي باشا في خطبته بحضرة جلالة الملك يوم افتتاح جامعة فاروق الأول: إن هذه الجامعة هي الجامعة الوحيدة التي أنشئت في العالم كله أيام الحرب
وهذا صحيح، ولكن ما السبب في تفرد مصر بهذه المزية؟
يرجع السبب إلى أن إعفاءنا من الحرب الدموية لم يدعُنا إلى إعفاء أنفسنا من حرب الجهل والجمود، فنحن نقاتل في ميدان هو أصعب ميادين القتال، ونحن نواجه مصاعب تزلزل القلوب والعقول، وهذه محمدة قليلة الأمثال
أكتب هذا وقد تعتَّب ناسٌ وتغضّبوا لأنهم رأوا في المقال الأسبق عبارات في نقد الطرائق المتبعة في تعليم الإنشاء. . . فهل كان يجب أن أقول إن كل شيء على ما يرام، وليس الإمكان أبدع مما كان؟
الكاتب يحاسب على المجاملات، ولا يطالب بالمجاملات، وأول طائفة خليقة باحترام حرية الرأي هي طائفة المدرسين، لأنهم دعاة الحرية الفكرية، ولأن واجبهم الأول هو خلق اليقظة العقلية، فما يجوز لأحدهم أن يعتب أو يغضب إذا رأى كاتباً يدعوه إلى التفكير في وزن ما درج عليه من طرائق التعليم، عساه ينتقل من حال إلى أحوال في الإفهام والتفهيم والشرح والبيان.
واجب المدرس أن يصغي لكل قول، وأن يحترم كل رأي. واجبه أن يدرك أن كل شيء في تجدد، وأن يفهم جيداً أن للتعليم سياسات تتغير من يوم إلى يوم، وأن التلميذ الواحد قد يساس في درس الأدب بغير ما يساس في درس الإنشاء، وأن التدريس هو في الأصل رياضة مختلفة المسالك والألوان.
وإذا ضاق صدر المدرس بما يقرأ أو يسمع من ضروب النقد، فعند من ننتظر رحابه الصدور ورزانة الأحلام؟
وتأذَّى فلان من أن يقال إن الإنشاء قد يصعب على بعض المفتشين. . . فما عيب هذا القول وفيه شيء من الحق؟
وبماذا نجيب إذا سئلنا عن جهود مفتشي اللغة العربية في خدمة الحياة الأدبية؟
هل يكفي أن يكون الكاتب كاتباً بالقوة لا بالفعل، كما يعبّر علماء المنطق؟
إن المفتشين رُفعوا إلى مراكزهم باسم التفوق في علومهم، فهل نلام إذا دعوناهم إلى زكاة ذلك التفوق؟
مصر غنية بالثروة العلمية، فهل نراها غنية بالثروة البيانية؟
وهل من الحق أن رجال التعليم عندنا أكثروا من الجهاد العلمي والأدبي إكثاراً ليس بعده زيادة لمستزيد؟
كم كتاباً صدر عن رجال التعليم في مدى عشر سنين؟
وما هذا الزهد في البحث والتأليف، الزهد الذي يسمح بأن تنتهي حياة الرجل قبل أن يدين أمته بكتاب جيد؟
إني أخشى أن يضيع زمام الحياة الأدبية من أيدينا إن تركنا الإبداع في الأدب، واكتفينا بوضع الموجزات في القواعد والتطبيق، كما يفعل بعض الزملاء.
صلة المدرس بالحياة
قبل أن أواجه مشكلات التعليم أفصِّل مسألة شغلتني منذ أعوام، وهي مسألة القلق الذي يساور المدرسين من الوجهة المادية، وهو في رأيي قلق يبشر بالخير، ولا ينذر بالشر كما تعوَّد بعض الناس أن يقول.
لو أحصينا مطالب المدرسين لرأيناها في الجملة متصلة بالمطالب المعاشية، فهل يكون في هذه الظاهرة برهان على أننا نواجه عصراً أفضل من العصور الخوالي؟
أنا أقول بذلك، ولا يؤذيني أن أرى مدرساً يرجو أن تنصفه وزارة المعارف ليعيش في رخاء
ولكن هذا الكلام يحتاج إلى شرح، فلنقدم الشرح:
كان التعليم من أعمال الكهَّان والأحبار والرهبان، وحيوات هؤلاء كانت مريحة، لأن الجمهور كان مسئولاً عن تزويدهم بما يشتهون، فلم يكونوا في احتياج إلى مزاولة أعمال المعاش.
يضاف إلى ذلك أن التعاليم التي كان يقدمها أولئك الأقوام إلى الناس كانت ترمي إلى غاية أخروية لا دنيوية، فكان من المعقول أن يعيشوا عيش الزهاد ليفلحوا في أداء رسالتهم الروحية.
أما التعليم في هذه الأيام فله غاية تخالف تلك الغاية، هو تعليم يراد به فهم الحياة الواقعية ليكون أداة من أدوات التملك والاستيلاء
نحن نعلم أبناءنا ليسودوا في دنياهم، ولا نرضى لأبنائنا أن ينتظروا الثواب من المحسنين ولو كانوا في سماحة الأنبياء
نحن نرجو أن تكون يد أبنائنا هي العليا بفضل التعليم الصحيح. نحن نحب لهم أن يتسلحوا بأسلحة العصر الحاضر، عصر النضال والصيال، ونكره أن يذلوا باسم الزهد في الدنيويات
ومن الذي يوحي إليهم تلك المعاني؟
أهو المعلم المترهب الذي ينتظر إفضال المفضلين؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، والمعلم الذليل لا ينشئ تلاميذ أعزاء يجب أن يكون المعلم ابن زمانه بالقول والفعل، وأخلاق هذا الزمان لا تمنح العزة لمن يعيش بفضل الصدقات
كانت غاية المعلمين من الرهبان أن يخلقوا طوائف جديدة من الرهبان، وكان التشرد في أقبح صوره يجد من يسمه بوسم التوكل على الله، فأين نحن من تلك الغاية العجفاء؟ إنها منا بعيد
وإذن يتحتم أن يكون المعلم رجلاً موصول الأواصر بالمنافع الدنيوية، ليوجه تلاميذه إلى المنافع الدنيوية
يتحتم على المعلم أن يدرك ما في الحياة من تعقد واشتباك، ليروض تلاميذه على مغالبة ما في الحياة من تعقد واشتباك
كان المعلم راهباً، وقد بقيت من هذه النزعة بقايا نجدها في بعض البيئات، ولكنها لا توائم العصر بأي حال
يجب أن تُسبق الأبوة الروحية بأبوة حسية. . . ومعنى هذا أني أرى أن المدرس لا يعرف حقوق تلاميذه عليه إلا إن كان له أبناء
المعلم الحق في هذا الزمان هو المعلم الذي يعيش كل العيش، فيكون له مصالح تفرض عليه أن يفهم الاتجاهات المختلفة في هذا الجيل
والعيش على هامش الحياة عيشٌ ضائع، ومن عاش كذلك فليس بأهل لأن يخلق ذوق الحياة في صدور التلاميذ
وأين التلميذ الذي يحترم أستاذاً فقير الجيب؟
الأصل أن تقول لتلميذك: تعلم لتكون في مثل جاه أستاذك؛ والجاه في هذا الزمان يُجرح بأيسر بادرة من بوادر الإفلاس
والأصل أيضاً أن يكون العلم تاج المنافع. . . فإن افتقر العالم فسيكون افتقاره شاهداً على أن قوة العلم هباء في هباء.
وهنا مشكلة تستحق الدرس، وهي تحديد المراد من العلم، فما هو العلم المنشود؟
هو العلم الذي يمنح صاحبه السيطرة على ناصية هذا الزمان
هو علم العصر الحديث، ولو تمثَّل في فهم أساطير الأولين أنا لم أتعود خداع قرائي، وأنا أوصيهم بما أوصي به نفسي، فليسمعوا هذا الكلام إن كانوا لأنفسهم أوفياء
ونحن لا نطالب الدولة بحق الإنصاف، إلا إن أقمنا مئات البراهين على حقنا في الإنصاف
ولن يكون ذلك إلا إذا وثقت بنا الدولة ثقة تغنيها عن تلك الجيوش من المفتشين
إن احتاج المدرس إلى رقابة المفتش فليس بمدرس
والأساس أن تكون المدرسة غزواً روحياً للبيت، فيكون الطفل أستاذاً لأبويه، لأن له أسندة من روحانية أساتذته الفضلاء
والأساس أيضاً أن يُخوَّف التلميذ بسلطان المدرسة عليه، فلا يشكوه أهله حين ينحرف لغير السلطة المدرسية
ومتى يتيسر ذلك؟
أيكون غنى المدرس هو الوسيلة كل الوسيلة إلى السيطرة على التلاميذ؟
وكيف وفي آباء التلاميذ من يكون إيراده أضخم من مرتب وزير المعارف؟
هيبة المدرس ترجع إلى التمكن من المعلم الذي يدرسه التمكن الفائق الذي يشعر التلاميذ بأن أستاذهم من أكابر العلماء
إن استطاع المدرس أن يلقى تلاميذه كل يوم وفي يده كتاب جديد فليفعل. . . وإن استطاع المدرس أن يدل تلاميذه على جميع ما يجدّ من الآراء العلمية والأدبية فليفعل. . . وإن استطاع أن يرشدهم إلى طيبات الحياة الفنية فليفعل.
المهمُّ هو أن يسيطر على تلاميذه سيطرة روحية تصغر بجانبها سيطرة الجاه والمال
وإذا وصل إلى هذه الغاية فلن يضيره أن يقال إنه من الفقراء
وأنا لا أطالب بإنصاف المدرس من الوجهة المادية إلا لأضمن صلاحيته لفهم مطالب الحياة، لأني أعتقد أن الرجل المنسحب من ميدان الحياة لا يصلح لشيء، وأكاد أجزم بأن حب الحياة يزيد في قوة الأخلاق.
المعلم الذي أنشُده لأبناء هذا الجيل هو رجل مزوَّد بمواهب إيجابية لا سلبية، هو رجلٌ يسبق زمنه بأزمان، هو رجلٌ يرجو تلاميذه أن يكون هاديهم إلى صراط الحياة في معناها المنزّه عن الغفلة والجمود.
إن وزارة المعارف أنشأت معهداً جديداً هو معهد الدراسات العالية، وبه أرادت أن تزدّد المدرسين بأزواد علمية وأدبية لم يذوقوها من قبل.
فما مصير هذا المعهد؟
إن بقاءه رهينٌ بأحوال المدرسين، وقد قيل إنهم في احتياج إلى مزيد من التثقيف
وأقول: إن من العيب أن نحوج وزارة المعارف إلى أن تُشغل بتثقيفنا بعد أن شببنا عن الطوق منذ زمان
لا يجوز أن نحوج وزارة المعارف إلى شيء من هذا القبيل، وإنما يجب على كل مدرس أن يكون نائياً عن وزير المعارف في أداء الواجبات الوطنية من الوجهة التعليمية.
يجب أن يقترب اليوم الذي يستغني فيه المدرس عن رقابة المفتش.
ولن يقترب ذلك اليوم إلا حين يوجد التلميذ، التلميذ الذي يحب أن يتعلم، التلميذ الذي يقهر المدرس على أن يستعد للدرس كل الاستعداد.
ومتى يوجد ذلك التلميذ؟
متى يوجد التلميذ الذي يخلق المدرس؟
متى يوجد الفتى الذي يعزّ عليه أن تمر أيامه بلا انتفاع؟
سنرى محاولات لبعث الروح المكنون في صدر التلميذ. . . فإلى اللقاء في الأسبوع المقبل وهو قريب.
زكي مبارك